(20)
لم تكن حسابات الداخلية التي اعتمدت علي خبرة أمنية طويلة … ومتابعات ميدانية … في استبعاد وجود تنظيم للإخوان … بعيدة – كثيرًا – عن الواقع … قد يكون هناك تحركات مريبة … هنا … أو هناك … ولكن في ظل الملاحقات … وبرنامج الضربات الإجهاضية … ونظام التفتيش المفاجئ … واحتجاز من يشتبهون فيه لفترات تطول … أو تقصر … ونشر العيون … والجواسيس … والاختراقات … كل هذه الإجراءات – كان في تقديرهم – أنها تشكل عوائق مهنية … ومدروسة … فعالة … تمنع وجود تنظيم كبير قوي … ينتشر … ويشكل خطورة علي النظام … ويرون أنه من الطبيعي في مثل هذه الإجراءات … أن تحدث ثغرات يمكن النفاذ من خلالها … إلا أنها لا تسمح إلا لوجود جماعات صغيرة … ومحدودة … بضعة مئات علي الأكثر … ومن خبرتهم … فإن نشاطها … لن يزيد علي الدراسات الدينية … ولا يمكن أن تتطور إلي تنظيم مسلح … يقوم بأي عمل عسكري … لأسباب كثيرة … بعضها حركي … وبعضها عقائدي … ومن أهمها هو وجود رهائن من قادة الجماعة … لازالوا في السجون .
العقيد شمس … له حسابات أخري .
العقيد الذي تمكن في أن يصبح الرقم الصعب … في أمن النظام … عن طريق القفزات السريعة … فوق الجثث والأشلاء التي استنطقها … وصورها علي شكل مؤامرات لقلب نظام الحكم … أمكنه – أيضًا – أن يحقق قفزة كبري … وانتصار ساحق علي أمن الداخلية … وأن يدفن ما بنته الشرطة من جهد ونشاط طوال السنين الماضية في محاربة الإخوان – العدو الأول … لأنه يعرفهم جيدًا … يعرف مدي إصرارهم … ومدي صبرهم … وقدرتهم علي تلقي الصدمات … وتجاوز المحن … عبد الناصر … عاصرهم عن قرب … فقد كان – وللأسف – واحدًا منهم .
العقيد … كشف الداخلية … وأظهر فشلهم … والمسألة أصبحت لا أكثر من أيام … ويطاح بالوزير … وكبار معاونيه … وتسقط الداخلية برجالها … في قبضته … ويُسقط فكرة الريس وحرصه علي تعدد أجهزة الأمن … وتنوع قيادتها … حتى يظل كل شيء تحت سيطرته … عشرات العصافير بضربة واحدة … أيها العقيد … المحظوظ . شمس … لا يضيع وقته … استبق الأحداث … وفتح سكة اتصال مع الصف الثاني من رجال المباحث … وبدأ في تشغيلهم لخدمة أهدافه … دفعهم للبحث في الدفاتر القديمة عن وقائع سقطت أثناء الهرولة في تحقيقات الجهاز السري سنة 1954 … وخاصة عن الأسلحة … الذي قد تكون لازالت مخبأة منذ ذلك الحين … فلربما أسفر هذا الاتجاه عن التنظيم المسلح الذي يبحث عنه … وبذلك تكتمل الحلقة الناقصة … وهي الخطة التي أشار إليها في حواره مع العميد سعد … في جلسة الإنس عند الراقصة نجوى .
القبض علي زكريا سالم … فتح طريقًا آخر … ربما يكون أكثر فائدة وأقرب إلي اكتشاف تنظيم مسلح … خاصة وأن أطرافه هو الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … المتهم الرئيسي في التنظيم المكتشف حديثًا … فهل يستمر الحظ في ركابك يا شمس باشا ببركة دعاء الوالدين عليك … وهل تنال الحظوة … والذي في بالي … وبالك … يا رشدي بك … قبل أن تصل السيارة إلي السجن الجديد في أبي زعبل … وضعوا القيود الحديدية … في يديه إلي الخلف من ظهره … ثم وضعوا عصابة علي عينيه . نزل من السيارة يقوده أحد المخبرين … وبمجرد أن تعدي البوابة … شعر بشومة تهوي بين كتفيه … صرخ من الألم … والمفاجأة … عالجه أحدهم بكف – سطحه من الحديد – علي قفاه … وآخر علي وجهه … ثم توالت الصفعات علي أذنيه … وقبضات الأيدي تطحن عظام صدره … استقبال فيه تجديد … استقبال الحربي بالكرابيج … يبدو أن اعتمادات الداخلية المالية فقيرة لا تسمح باستيراد الكرابيج … ولكن لا بأس … بالشوم المحلي … نعتمد علي الوطني … وكله يؤدي الغرض … طعم الشاي … أيضًا – محلي … مر المذاق … كرم الضيافة يختلف في أبو زعبل … عن الحربي … حتى الإجرام … متعدد المذاق … درجات … بين المرارة … والعلقم .
العنبر الجديد في ليمان أبي زعبل … عبارة عن عدة طوابق … ومثله … مثل كل السجون … عبارة عن زنازين كبيرة نوعًُا … متجاورة تشكل أضلاعًا للمبني المستطيل الشكل … وفي وسطها فناء … يحيط به أسياخ الحديد … علي شكل قفص كبير … حتى السقف … فيما يشبه أقفاص الحيوانات … وعليه باب محكم … القفص معرض للشمس … الحارقة صيفًا … والبرودة الشديدة شتاء … وكان من الطبيعي أن يصبح مكانًا مثاليًا … للقهر … والتعذيب … أطلقوا عليه … اسم المحمصة … تستخدم قضبانه الحديدية في ربط القيود الحديدية باليدين عليها … فيظل الجسم معلقًا … ممدودًا بثقله … لا يحمله إلا الرسغين … في وضع مثالي للضرب في كل أنحاء الجسم … مع الألم الهائل لليدين لتحملهما كل وزن الجسم … وما يصبهما من تمزق … قد يفصل اللحم عن العظام … التعليق قد يستمر ساعات … أو أيام … لا ماء … ولا طعام … معصوب العينين … لا يري … وإنما … يسمع الأنين حوله … وصوت اصطدام الشوم بالأجساد … ينشر الكدمات … ويكسر العظام … وصرخات … ودعاء يتصاعد من خلال السقف المفتوح إلي بارئها … تشكو الظلم … الطغيان . علقوا زكريا … وتركوه … لا … لم يتركوه … أين أنت يا زكريا … وما الذي يجري … أشعر بأن المكان حولي … كأنه شماعة هائلة … معلق عليها عشرات الجثث … صرخة … صوت شومة مكتوم … اصطدام باللحم … والعظم … آه … يا رب … حرام عليكم … صفر الهواء لعصا … تشق الهواء … هذه المرة … كانت قدميه هما الهدف … كتم شهقة .. لم انتظاره … الأقدام تتكاثر له … قبظة غليظة … تدق جنبه … انسحبت أنفاسه … تغوص … وتنقطع … كاد قلبه أن يتوقف … آه … جاوبته آه أخري … بجواره … الأقدام تبتعد … ليس بعيدًا … صوت شومة يهوي … وصرخة ثانية … وثالثة … رائحة جلد تحترق … عادت الأرجل تحيط به … هذه المرة كان الضرب بالعصاه … علي اللحم … علي القدمين … صرخ …
- ماذا تريدون ؟
الإجابة كانت لطمة علي فمه … شعر بأن فمه يتداعى … حاول الصراخ إلا أن فمه لم ينفتح … توالت اللطمات … ثم شومة تحش وسطه … انقطع نفسه … ثم … غاب عن الوعي . أفاق علي النهار الذي بدأ نوره يتسلل إلي المحمصة … السكون يحيط به … صمت المقابر … اختفي وقع الأقدام … لعلهم ذهبوا … أو ربما هم كامنون في مكان ما يراقبون
صوت استغاثة : ماء … رشفة واحدة … أنا مريض بالسكر
رد عليه صوت هامس : اصبر يا أخي … لن يجيبك أحد … ولو حضروا سيضربوننا جميعًا .
زكريا يعرف هذه الأصوات … ولكنه ليس متأكدًا … لا … أنه متأكد … إنهم إخوانه … كانوا معه في السجن … ولكن … بماذا تفيد المعرفة … كل مشغول بحاله … ولكن … لماذا … وما الذي يحدث … لا فائدة من التفكير … وليس لها من دون الله كاشفة … ولا ملجأ من الله … إلا إليه … هو المعين … وليس أمامنا إلا الصبر . تحركت شفتاه بالتلاوة … شفتان متيبستان … وفك معطوب … ولسان متخشب … وحلق جاف … الشمس تزحف … ويشتد لهيبها … قطرات العرق التي تنزفها الأجسام … سرعان ما تجف … أنه يغفو … سرعان ما يفيق علي ألأم القيد يحز في يديه … الكدمات وصلت إلي العظام …الألم صار نشرًا … يغفو … ثم يفيق … الإفاقة علي انتفاضة … وتشنج … الصمت حوله عذاب آخر … الهمس دعاء وذكر … يشعره بالإنس … ويخفف ألمه … صوت ترتيل خفيض … ما أحلاه … وتري المجرمين يومئذ الضرب لا يتوقف … بالشوم … والعصي … وأسلاك الكهرباء … ضرب عشوائي … بلا هدف مفهوم … من حين لآخر يسحبون جثة من الجثث المعلقة … ثم أصوات جرها … أو سحبها … صوت الباب يفتح … ثم يغلق … أين يذهبون ؟؟
في الجانب الآخر … من القاهرة … التي انقهرت بالظلم … والظلام … كان سجن القلعة
نزل سيد رجب … لا قبل أن ينزل عصبوا عينيه … ووضعوا القيود في يديه خلف ظهره …ثم دفعه أحدهم ليهوى علي وجهه ( مدلوقًا ) من السيارة … عندما وقف انهالت عليه الصفعات … هل يمكن أن تكون هذه كفوف … أو مطارق … تدق وجهه … وأذنيه … البرق يضرب بصره … والصفير يشق أذنيه … و … انتهي به المطاف … ملقي داخل الزنزانة … وأغلقوا عليه الباب … أصبح مكتومًا علي الأسفلت … الأوجاع تهز لحمه … والمناشير تحز عظمه …
سمع صوتًا يناديه … عبر الباب … لا … لا … إنه من داخل الزنزانة … فيما يبدو … أنها سماعة … الصوت خافت .
- يا سيد … يا سيد … هل تعرف … أين أنت ؟ .. أنت في بحر الظلمات … لن تخرج حيًا … سندفنك هنا يا سيد .
الصوت يرتفع تدريجيًا … حتى صار هديرًا … يزلزل الأذن … ثم صوت ماكينة تدور … منشار يشق الخشب … ثم يعود الصوت إلي انخفاضه .
- يا سيد … هذا جزاء من يقف ضد الثورة .
انطلقت غنوة … الصوت ارتفع بها فجأة … صوت يصم الأذن … يتخبط صدى علي جدران الزنزانة … ثم … غنوة أخري … ثم ينخفض الصوت .
- يا سيد … لن تموت … سندفنك حيًا … قبل ذلك سنقطعك … قطعة … قطعة . هل هذا حلم … أم علم … كابوس يا سيد … أم عالم ما بين الموت والحياة ماذا فعلت ؟ .. ماذا فعلت … صاح وقد أوشك علي الجنون :
- ماذا فعلت … والله العظيم … أنا لم أفعل شيئًا … أنا برئ … أنا برئ .
فتح الباب فجأة … شعر بالأيدي الغليظة تسحبه علي الأرض جرًا … جروه من قدميه … وأسه يرتطم بالأرض الغير مستوية … حتى انتهوا به إلي مكان … يبدو أنها غرفة مكتب … سمع صوتًا يصيح في تمثيل ردئ :
- اتركوه … ما هذا … ماذا فعلتم يا أولاد الكلب … من الذي أمركم بهذا .
لان صوته … وقال في حشرجة رقيقة : تقدم يا سيد … تعالي يا سيد … اجلس .
لازالت العصابة علي عينيه … والقيد في يديه … أجلسه أحدهم …
- هات ليمون لسيد .
ثم استطرد : ما الحكاية يا سيد … ما الذي أتي بك إلي هنا ؟
لم يفكر كثيرًا في السؤال ( الاستعباطي ) … كل همه انصرف إلي حبل للنجاة ممدود له … حتى ولو كان وهمًا .
- سعادة البك … والله ما أعرف .
- وبعد يا سيد … أنا أحاول مساعدتك … من أيدي الوحوش … تكلم يا سيد .
- عن ماذا يا سعادة البك .
لم يكمل كلمته … فقد شعر بالأكف تتلاحق علي كل أنحاء وجهه … صرخ … قال الصوت : هل رأيت يا سيد … ساعدني كي أساعدك .
- كيف أساعدك … والله العظيم …
أنحبس صوته عندما أطلق أحدهم قبضته في صدره .
قال الصوت بنفاذ صبر : علاقتك بزكريا .
- ابن خالي يا بك .
- فقط ؟
- أنا أساعده في تجارة الحبوب .
- عظيم … اقتربنا من الموضوع … كيف ؟
أحس بطرف حبل النجاة … أمسك به بشدة … وهو يكمل :
- كان يرسلني لإحضار البضاعة من التاجر الذي يتعامل معه … وأسلمه النقود
- اسم التاجر ؟؟
- الشيخ عبد الفتاح إسماعيل .
- وما هي البضاعة التي كنت تتسلمها منه ؟
- أجولة من الأرز … والحبوب الأخرى … فول … ذرة … وأحيانًا علف الحيوان
- عظيم يا سيد … أنت ماشي مضبوط … وآخر مرة ؟
قال سيد :
- كان جوالاً واحدًا من الأرز … قال الشيخ عبد الفتاح … خذ هذا الخطاب وسيعرف زكريا المطلوب منه .
- ألم تلاحظ في الجوال شيء غير عادي ؟
- لم ألاحظ إلا أنه لم يكن معه أي بضاعة أخري خلاف كل مرة .
قطع التسلسل … فاجأه بالسؤال : متى انضممت إلي الإخوان … ؟
عاد الضرب … عنيفًا … متلاحقًا … والشومة … تقصف عظام رجليه صرخ :
- أنا لا أعرف من الإخوان إلا ابن خالي زكريا … وصديقه شعلان .
- يعني ليس لك أي نشاط ديني .
قلة الخبرة … والضرب أفقداه حذره … المهم أنه ليس من الإخوان … قال
- يا بك … أنا تبع جماعة التبليغ … نخرج إلي المساجد … ونكلم الناس في دينهم … والحكومة والناس كلهم يعرفوننا … لكن إخوان … لأ
عادت الأسئلة يصاحبها الضرب … منقطع … من حين … لآخر .
- هـ … يم … م … يعني لم تكن تعرف ماذا بداخل جوال الأرز ؟
- يا بك … الشيخ عبد الفتاح قال أنه جوال أرز … وكان مغلقًا … قل لي ماذا تريد … وأنا أبصم بالعشرة .
الآن الزبون استوى … أوشك علي الانهيار … باقي علي الحلو دقة … أشار … هوت الشومة علي فخذه … وهو يسأل :
- يعني … ألم تري المدفع المدفون … داخل الأرز في الجوال ؟
أقنعته الشومة الأخيرة … ألا ينكر … هم حوله … يتربصون به … لا يمكن أن يفلت الحبل الممدود له بالنجاة … صاح في هستريا
- لا … أنا … صح … صح يا بك .. لقد كان داخل الجوال شيء أشبه بجسم طويل صلب … لا ينثني … وأنا أرفع الجوال … لكن وحياة البك الصغير أنا لم أفتح الجوال …
لعبة قديمة يا سيد … لن تهرب من الخية .
- يعني مدفع ؟ .. أليس كذلك .
سد عليك … كل الطرق … إما نعم … وإما …
- نعم … نعم … مدفع … هو مدفع … كان في الجوال مدفع .
لا يستطيع الصبر … بالهاتف … اتصل بالعقيد : أنا يا فندم …
- أهلاً رشدي … نعم .
- أمسكنا بطرف خيط … يبدو أنه تنظيم مسلح … ولدينا اعترافات .
- عظيم يا رشدي … ابعثهم بسرعة .
- يا فندم … نريدك أن تثق فينا … ونمحو الصورة القديمة … سنثبت لك أن إدارتنا لازالت بخير .
- طيب يا رشدي … شد حيلك … وبلغني بالتطورات … أولاً … بأول .
- هناك أمر آخر … جماعة التبليغ لها نشاط ديني مشبوه .
قال بسرعة : تبليغ … أنصار سنة … جمعية شرعية … أكنس … نحن نصفي هذه الأوضاع كلها … ولا تترك المجال لأي نشاط
- تمام … مضبوط … لكن يسعدنا تشريف سيادتك عندنا … لتري الشغل بنفسك .
- طبعًا … طبعًا … سأحضر .
في منتصف الليل … أنزلوه … جسدًا متفسخ … يداه فقدتا الحس … متورمان … لون الأصابع أزرق … أنحبس الدم فيهما … ما كاد يلمس الأرض … حتى خر واقعًا … اصطدامه بالأرض أهاج الألم في لحمه الذي امتلأ بالكدمات من ضرب العصي . لا يدري … كيف وصل إلي القلعة … علي نفس الهيئة … العصابة علي العيون … والأيدي خلف ظهره في قيدها الحديدي .
قال له الضابط : مرحب … يا أبو الزيك … عدت لنا ثانية .
هل هذا كف فلاح … أم حداد … كف خشن كأنه من الخرسانة … نزل علي قفاه الملتهب .
- هيه … يابو الزيك … كيف حال السجن … هل كنت من مجموعة المكفراتية لا يمكن أن يكون هذا سبب ما أنا … فيه … رد في إعياء : أنا لم أكفر أحدًا .
- بل … كفرتم الدولة … والريس … وكنت مندوب سيد قطب في سجن القناطر .
- أنا فعلاً … قابلت الأستاذ سيد عندما ذهبت إلي سجن طره للعلاج … الناس فهموا سيد قطب بطريقة غلط .
ركلة الحذاء الميري اقتحمت عظمة ساقه .
- وما هو الصحيح … يا فكيك .
النقاش في الدين مع الحمار أفضل … الأفضل هي الإجابة العايمة .
- الصحيح … هو فهم العقيدة … كما أنزلت … ونحن لا نكفر أحدًا … كل واحد عارف نفسه .
قال … ساخرًا : يا … ولد … يا فيلسوف … كل واحد عارف نفسه … هه … ماذا تقصد … حيوا … أبو الزيك
التحية هذه لمرة كانت من الواقفين خلفه … كانوا ثلاثة … أحدهم يمسك بالشومة … والثاني بالعصا … والثالث … بالكف … والحذاء الميري …
- آه …
صرخة واحدة … وانقطع نفسه … الشومة كسرت أحد أضلاعه .
وقع علي الأرض يتلوى …
استمر الاستجواب … رشدي بك مستعجل … دخل في الموضوع :
- نترك الفلسفة لوقتها … نتسلى بها بعدين … ما هي علاقتك بعبد الفتاح إسماعيل ؟
استحضر نفسه … قال وهو يأن :
- تجارة .
غير لهجته … قال في حزم : زكريا .. اشتري نفسك … أنت تعلم أننا لن نتركك … حتى نعصرك … هات من الآخر .
الألم – بالفعل – يعصر صدري … لابد من الإجابة يا زكريا .
- تجارة … أكل عيش … والله العظيم … ما في غير هذا .
أشار إليهم … الضرب الآن علي عظام الساق .
- هه … يا زكريا … خلص يا بو الزيك … عبد الفتاح إسماعيل اعترف عليك .
- أنا … مستعد للمواجهة …
لازال راقدًا علي جنبه … الحذاء الميري أصاب سلسلة الظهر .
- أنا أريد الحقيقة … منك … أنت … من فمك … سمعني .
- والله العظيم … تجارة … أنا خارج السجن من شهور … أمي مريضة … وأخوتي لا عائل لهم إلا أنا .
- نحن نعرف ظروفك … ولكن لعبت بذيلك … ألم ترسل سيد رجب لعبد الفتاح إسماعيل ؟
- سيد يساعدني … يسلم الفلوس … ويستلم البضاعة .
- والخطاب … وجوال الأرز إياه … ماذا كان بداخله ؟
- الجوال الأخير … كان نوعية جديدة من الأرز … طلب الشيخ عبد الفتاح مني معرفة إمكانية تسويقها … لأن ربحها جيد .
- يا … ولد … ما هذا الجمال … وهل هذا يحتاج إلي خطاب … وكلام مغطي … ماذا يقصد … بعبارة جرَّبه ؟
أشار الضابط … استمر الضرب علي الساق … والقدمين … إلا أن الحذاء الميري أخطأ الهدف … الركلة أصابت الضلع المكسور
- آه
خرجت الصرخة مكتومة … وانقطع النفس .
- خلص يا زكريا … أليست هذه شفرة بينكم … ألم يرسل لك مدفع رشاش داخل الأرز …تكلم أحسن لك … سيد رجب اعترف عليك .
ثم يرد … أخذته الإغماءة … أحضروا سطلاً من الماء … ألقوه عليه استرد نفسه … كرر عليه الضابط السؤال :
قال … وهو يلهث :
- يا بك …لم يحصل … مدفع ؟؟.. أنا لم أحمل سلاحًا في حياتي …حتى الجيش لم أخدم فيه .الضابط …وجد أن حالته تزداد سوء” … الوقت يداهمه … أراد أن يحسم الاستجواب …أ شار إليهم …أحضروا سيد رجب …
قال متوعدًا :
- قل يا سيد … واجه زكريا .
تردد لحظة … إلا أن الشومة هوت علي ظهره … و … صوت زكريا وهو يتلوى علي الأرض … لم يترك له أي اختيار … فات وقت التراجع … لابد من الاستمرار … مشوار الكذب … نهايته معروفة … و … أضمن .
- نعم … يا زكريا … جوال الأرز كان بداخله مدفع رشاش .
ضلعه مكسور … يصرخ … الألم يسحب روحه … قال مستسلمًا :
- مادام الأمر كذلك … اكتب يا بك ما تريد … وسأوقع عليه .
قال الضابط :
- لا … يا حلو … ليس الأمر بهذه البساطة … أريد كل شيء بالتفصيل … أسماء التنظيم … أهدافه … السلاح … المفرقعات … مكان التدريب … دخول الحمام … ليس كالخروج منه … يا بو الزيك … أنت سيد العارفين .
هه يا زكريا … الضابط يدفعك في طريق واحد … في اتجاه واحد … طريق بلا عودة … الكذب يا زكريا … يريد تنظيمًا … أسماء … أعضاء … إذا أردت النجاة … اخترع تنظيم … رص أسماء … أي أسماء … وسيحضرونهم … وسيفعلون بهم مثلما فعلوا بك … وكما فعلوا مع سيد رجب … وسيتعرفون … سلسلة من الكذب … هل ترضي بذلك … ترمي أبرياء في هذا الأتون … كذبًا … وزورًا … وماذا تقول لربك … أنت مسلم … والمسلم – دائمًا – يحسب بمنطق التجار … وأنت شاطر في التجارة … ما هو الثمن !؟ .. ما هو المقابل ؟؟ .. النجاة … هه … هل هي مضمونة ؟؟ .. الدنيا ؟ .. وأين هي ؟ .. آه … آه … الصدر يتمزق … النزيف يملأ جوفه … آه … تذكرت … النجاة ؟ .. من أي شيء ؟؟ .. الفرار … مم تفر ؟؟ .. السحابة تزحف علي وعيه … آه … الضابط يطلب أسماء مقابل النجاة … القضية واضحة … شديدة الوضوح … الكذب … مقابل الفرار … من هو الصحابي الذي يصيح – وسط المعركة – أمن الجنة تفرون ؟؟ .. لا … لا أذكر … ليس مهمًا … المهم … هو الحسبة أن تكون صحيحة … من هؤلاء ؟؟ .. إنهم يجلسون علي بعد خطوات … ملابسهم بيضاء … لا … إنها من نور … إنهم يشيرون إلي … إنهم ينادون … ما أحلي صوتهم … نداء … أم نغم علوي … النجاة … النجاة الحقيقية … يا زكريا …
ربحت تجارتك … يا زكريا
ربحت تجارتك … يا زكريا
قال أحدهم : مات يا فندم .
صرخ الضابط في ذهول : مات … مات … يا أولاد الكلب .
أفلت الخيط منه … رشدي في انتظار الاعتراف ليبشر العقيد … ماذا سيقول له … ؟
رشدي بك … كان أكثر انزعاجًا … صاح في قلق :
- هات الولد الثاني .
- شعلان … يا فندم ؟
- هو … فيه غيره … يا كلاب .
أحضروه … لم يكن حاله أحسن … صلبوه أيامًا في محمصة أبو زعبل … الوجه باهت … والكدمات … بقع زرقاء … الأطراف أصابها الكساح … خاف الضابط أن ينقطع الخيط ثانية … ربما يكون العلاج في الصفعات … ولا بأس من قبضة تدفع المعدة لتلتصق بالظهر .
قال الضابط …:
- دعوه يري زميله .
سحبوه … رفعوا العصابة عن عينيه … زكريا رفيق العمر … مسجي … الجسد كله متورم … الدم متجمد … أسود … تحت سطح الجلد … بقعًا … بقعًا غير منتظمة … الجلد كالح … الأطراف مشوهة … بشعة .
لم يهتز … كأنه ينظر في مرآه … الذي بجسده لا يقل بشاعة … انصرف نظره إلي وجه … توأم روحه … القسمات مسترخية … تشع اطمئنانًا … أين ذهب الورم ؟ .. أين ذهب الورم ؟ .. أين أثر الصفعات ؟ .. كأنما الوجه لا يمت إلي الجسد … انفصل عنه … ولا ينقصه سوي بسمة لتزيده نورًا … انسابت عبرته … مع الرفيق الأعلى … يا أخي … إنا لله … وإنا إليه راجعون … طبت حيًا يا أخي … وطبت ميتًا … اللهم اجمعني به في جنة الخلد .
قال له الضابط في غلظة :
- هذا مصيرك … يا شعلان … تكلم .
المصير ؟ .. لو كنت تدري إلي أين ؟ .. ولو كنت تدري إلي أين مصيرك … يا حضرة الضابط ؟؟
- ماذا تريدون ؟
القبضة سحقت كبده .
- التنظيم … السلاح ؟
- يا بك … أنا خارج السجن منذ شهور … كل همي كان اللحاق بامتحان الثانوية العامة … لقد بلغت ثلاثين عامًا … لم أحصل علي الشهادة بعد … انصرف جهدي كله إلا الاستذكار .
- اشتري نفسك أحسن … زكريا اعترف عليك قبل أن يموت … هل تعرف سيد رجب .
- ابن خال زكريا .
- فقط ؟؟
- كان يساعده في التجارة .
- فقط ؟؟
أشار لهم الضابط … نشطوا له ذاكرته … الضرب علي الأطراف … الشومة … كسرت ساعده … رفع يده في طريقها … انفجر علي أثرها العظم … شظايا .
- آه … آه .
- تكلم يا شعلان .
- آه … آه .
الوقت يمر … والطريق مسدود … رشدي بك علي التليفون … والمعتقل استوى … أصبح بقايا إنسان … وصل إليه محطمًا … ولكن … لابد مما ليس منه بد … أشار إلي المخبرين … الضرب … وبحذر … ولكن … هل نحن في سوبر ماركت يعرضون بضاعة علي الرفوف … بحذر … وبغير حذر … الصنف هنا … واحد … لا غير … العذاب … الألم … العصا أداة قتل … والقبضة مميتة … حتى الصفعة سكتها إلي القبر …
و … هوى … شعلان
- مات … شعلان .
كان واقفًا … في حالة هياج … سقط علي كرسيه ساكتًا .
نظر إليه رشدي بك … طويلاً … ثم قال :
- الموت … لا يهم … ولو كانوا عشرين يوميًا … ولكنك أهدرت الأدلة وانقطعت منك الخيوط … أنت فاشل .
لم يعد أمام رشدي بك … إلا آخر أمل :
- هاتوا الشرقاوي … سأتول أمره بنفسي .
الشرقاوي بالفعل ينطبق عليه … حكاية الدفاتر القديمة … كعنوان للفلس … فليس له علاقة بالتنظيم المكتشف … أو حتى يمكن تلفيق صلة معه … كما كان الحال مع زكريا … الشرقاوي – أيضًا – ليس في شباب شعلان ولا زكريا … رجل دخل مرحلة الشيخوخة … هدت صحته عشر سنوات كاملة قضاها في السجن … ولم تترك مرضًا إلا ورحبت به ضيفًا مستوطنًا … ابتداء من الروماتيزم الذي سبب خشونة في مفاصله … إلي التهاب مزمن في اللوز … والحبوب الأنفية صداع نصفي يشق رأسه … وكأن قطارًا يسير علي فلنكات بداخلها … لا نتكلم عن الشرايين وتصلبها … ولا أزمة قلبية كادت تودي بحياته … وأنقذته حبة دواء كانت مع واحد من الإخوان … وبالصدقة … الرجل لم يحن أجله وقتها .
قال له رشدي بك :
- السلاح يا شرقاوي … سلاح 1954 … أين أخفيته ؟
قال :
- هذا تاريخ قديم … والسلاح كان لحرب الإنجليز المستعمرين … وقد حوكمت عن هذا الجهاد ظلمًا .
- يا شرقاوي … نحن لا نتكلم عن المحاكمة … السلاح سلمه لك مسئول الجهاز السري … وأنت أخفيته … ولم تسلمه للحكومة .
- هذا موضوع … قديم … وانتهي أمره .
- هناك اعترافات … واضحة … وفيها قائمة بالسلاح وأنواعه .
- أنت تعرف يا بك … كيف تحصلون علي الاعترافات .
- هـ .. م .. م لو ضربناك قلم واحد … ستموت … وربما مت قبل أن يصل الكف إلي وجهك …
- كل نفس ذائقة الموت .
لم يأخذ منه حق … ولا باطل … يده مغلولة … لولا الظروف لفتك به … صاح في غيظ .
- ضعوه في الثلاجة … لا نوم … ولا شرب … وستتكلم يا شرقاوي … وستتكلم .
وفي لحظات كان علي رأس قوة تتجه إلي منزل الأسرة … قبضوا علي أخيه وزوجته … وكل الأقارب … وفي القلعة نصبوا لهم سيرك العذاب … كل ما في خبرتهم استخدموه … ولكن بلا نتيجة … ليس صبرًا … ولا ثباتًا … ولكن … لأنهم – بكل بساطة – لا يعرفون … ولو كان لديهم أي معلومات … لاعترفوا بها … ولأن رشدي بك … لا يصدقهم … أو لا يريد أن يصدقهم … فقد استخدم معهم أبشع ألوان العذاب … دائمًا يكون أكثر الناس تعذيبًا … من لا يكون لديه إجابات عن أسئلتهم … لم ييأس بعد … قال لأخيه :
- سنتكلم … وشرف أمك ستتكلم .
دفعوه … حتى وقف أمام باب الثلاجة … رفعوا العصابة عن عينيه … نظر … الشيخ يقف وسط الماء … يداه مقيدتان ومرفوعة إلي أعلي مشنوقة بحبل إلي السقف … أطراف أصابعه لا تكاد تلامس الأرض … الماء يصل إلي وسطه … رأسه مدلي … لا هو في يقظة … ولا هو ميت … بين الحين والآخر ينتفض جسده تشنجًا …
قال لهما الضابط :
- هذا أخوك يا شرقاوي … إذا لم تتكلم … سيفعل المخبر الفاحشة في زوجته … وأمامكما .
سمعًا صرخة المرأة … علي باب الزنزانة … وفحل أسود يطرحها أرضًا … فلاحة … صلبة … تقاوم بشراسة … وصراخها لا ينقطع . فتح عينيه في إعياء … انزاحت عن فتحات انطفأت لمعتها … حرك شدقيه بلسان ثقيل انتزع الكلمات بكل ما بقي فيه من قوة :
- احفروا … في الزريبة
مع آخر الكلمات … أسلم روحه . لم يستطع الانتظار حتى الصباح … الكنز هناك … تحت أرضة الزريبة … أخيرًا يا رشدي … سينفتح لك باب المستقبل … فمن السهل بعد ذلك البحث عن التنظيم … حتى ولو أسندناه للتنظيم الحالي … ومن اليسير تدبير الاعترافات .
علي أضواء الكلوبات بدأ الحفر … لم ينسي أن يصحب معه كاميرات التصوير :
- احفروا … لا تتركوا شبرًا واحدًا …
حرثوا الأرض طولاً وعرضًا … وفي النهاية وجدوه .
صندوقًا حديدياً … علاه الصدأ … خلصوه من الطين … بضربة فأس كسروا القفل … انفتح الغطاء عن السلاح … عدة مدافع رشاشة من أنواع منقرضة … وبعض القنابل … الشكل بالفعل … شكل سلاح … ولكن … أكلته البارومة … قطع من الحديد الخردة .
رفع سماعة التليفون … صوته كان حزينًا … يائسًا :
- انقطع الخيط … يا باشا … ثلاثة قتلى … وصندوق مدفون تحت الأرض منذ عشر سنوات … السلاح أكلته الباروما .
رد الفعل كان مفاجئًا … لا يمكن أن يكون هو العقيد … لقد فهمه خطأ …
- أشكر لك جهودك يا رشدي بك … استمر بنفس الهمة … الطريق لازال أمامنا طويل … نريد تصفيتهم تمامًا … ولو أدي إلي قتلهم جميعًا … التعاون بينا لابد أن يستمر .
استخفه الفرح :
- يا فندم … هؤلاء خونة .
- أنا في حاجة إلي معلومات … هل تقترح … البحث في مجال آخر ؟
لابد من المجاملة … الرجل مد يده يطلب التعاون … في وقت ظن أن نهايته قد حانت … فكر بسرعة … ثم قال :
- عادل كمال … واحد من قادة الجهاز السري القديم الرئيسيين … أفلت من المحاكمة سنة 54 … ولا شك أن لديه معلومات قديمة لم يكشف عنها .
- هل لديكم تقارير عنه ؟
- نحن تابعناه … بعد الإفراج عنه … لم يتوقف عن اتصالاته بالإخوان … اختفي عنا فترة طويلة … ظننا أنه في الإسكندرية … ثم أتضح أنه رجع موظفًا بالبنك الأهلي فرع السويس .
- اقبضوا عليه … وعلي كل من له صلة به … وأرسلهم إلي … سأتولى أمرهم بنفسي .
عادل كمال … واحد من قادة النظام الخاص … منذ بداية تأسيسه … زبون دائم علي السجون المصرية … طاف بمعظمها … سجن طره وأبو زعبل … وأشهرها جميعًا هو السجن الحربي … اعتقل عام 1954 … علي ذمة الإخوان … مع أنه كان مفصولاً بقرار من مكتب الإرشاد … شرحوا جسده النحيل … طولاً … وعرضًا بالكرابيج … علقوه مقلوبًا … ومعدولاً … وخصصوا له صحبة دائمة من شاويش واثنين من أتعسهم إجرامًا … والهدف كان وضعه بين فكي المعصرة وإخراج كل ما يعرفه عن مخازن السلاح … والذي كان أصلاً في حوزة التنظيم الخاص حينئذ … وانتهي كل ذلك إلي لا شيء … فالرجل فصل … ولم يعد مسئولاً عن شيء … وكان فيما يبدو أنه كانت هناك – أوامر – بإلصاق أي تهمة له … ليحاكم ويدخل السجن … المهم … الرجل قضي عامين في السجن الحربي … ثم خرج إلي الحياة .
عادل كمال … ظل ملفه مفتوحًا لدي المباحث … والشك يملأ صفحاته … رشدي بك رجل المباحث الصاعد … يطمع في كرسي في الصف الأول … لم يجد رشوة أفضل منه يقدمها للعقيد بعد أن فشل في فبركة تنظيم زكريا – شعلان ، ومن بعده الشرقاوي .
العقيد … أكثر جموحًا في إقفال دائرة التحقيقات … بتنظيم مسلح له شكل ومنظر … يقلق به الريس … سلاح … مفرقعات … وبكميات قابلة للتصوير والنشر في وسائل الإعلام … اعترافات بالتدريب … وتجهيز فوق لتفجير القناطر الخيرية … ومحطات الكهرباء … وبث الرعب في محطات السكك الحديد … مخططات لقتل المطربين … والمطربات … وخرائط رصد لتحركات كبار رجال الدولة … ثم وجه لقائد التنظيم حليق الرأس … ولحية كثة تزحف علي صدره … مع بعض المكياج ليصبح … كأنه وجه فرنكشتين … يعترف في التلفزيون بأنه يسعى لتدمير المجتمع … والتخطيط لتفجير مجلس الشعب أثناء خطاب الرئيس …
تنظيم يخض … ما حصلش … استطاع أن يتسلل إلي القوات المسلحة … ويجند بعض عناصرها .
وبدأ الشغل .
ما فعلوه عام 1954 … كرروه مع عادل كمال 1965 … نفس السيناريو … باستثناء تغير الوجوه … إلا وجهًا واحدًا … وهو وجه حمزة البسيوني الذي فيما يبدو … أنه لن يفك ارتباطه بالسجن الحربي … إلا بالموت أو الهدم … لأي منهما … أو الاثنين معًا . فارق الخبر واضح … والتطور في أساليب التعذيب أمر طبيعي .
ولأنه رجل كل العصور فإنه قد عاش تاريخ الإخوان مع عذاب السجون … ابتداء من أول صفعة تلقاها من عسكري يلبس الطربوش في سجن الأجانب عندما كان يحقق معه البوليس السياسي سنة 1948 … يومها ( شخط ) في العسكري وهدد الضابط بأنه سيشكوهم للنيابة … وتملكه الحماس وهو يحملهم كافة المسئوليات القانونية … يومها لم يتوقف الضرب … ولكنه استطاع بتهديده … أن يهزمهم .. فأصبح الضرب أكثر حية .. كان البوليس أيامها يخشى القضاء … والنيابة … والسجون كانت تعامل المعتقل السياسي بحذر … كان للقسوة يومها تعريف عجيب … منع الاتصال مع الأهل … غلظة مفرطة … حجز الكتب … وأفلام والورق … وعدم الإطلاع علي الصحف … يعتبر تأديبًا … الحرمان من طابور الشمس والعلاج … اعتداء علي حقوق الإنسان لا يغتفر .
التطور ربط اسم الثورة … بالسجن الحربي … والقانون بالكرباج … وأصبحت اللافتة السياسية المعتمدة لدي النظام مكتوب علي أحد وجهيها … الحرية للشعب … وعلي الوجه الآخر لا حرية لأعداد الشعب … يعلقونها علي صدر أي إنسان … وعلي أي وجه … تصلح … وتمشي … ! ! .
عادل كمال … رجل علمي … العسكري أبو طربوش صفعه … فاحتج بشدة … والعسكري – بدون طربوش – صرف له مائتي كرباج … تقبلها … بلا حول ولا قوة … إلا بالله . علقوه مقلوبًا … ليفرغ ما في جوفه من معلومات … وكأن رقبته وفمه نهاية عنق زجاجة – يمكن أن يندلق منها ما يخفيه – مع التخبيط علي جدران جسمه بالكرابيج … وبالأكف … وبالحذاء الميري للمساعدة في عملية التفريغ … واجهوه بالعشرات من معارفه … الذين كان يقابلهم في مناسبات عديدة … واعترفوا عليه بأنه قائد التنظيم … وهو معلمهم …وهو نقيب أسرتهم … وهو الكل في الكل …
قبضوا علي أحد الضباط … كانت له مشكله في البنك ساعده علي حلها … وكان قد حضر إليه بواسطة … شاهده ،وأحد الجنود ينزع عنه رتبته من علي كتفه … وعند ما احتج بالأصول العسكرية … سب العقيد أمه … وقال له … العسكري أفضل منك …ويومها وضعه العساكر داخل دائرة … وأمروه بالجري … والسياط تنهش زيه العسكري حتى مزقوه … العساكر كانت تضرب بتشفي … ومزاح … فهي تضرب سلطة لها مهابتها في نظام الضبط والربط … فرصة … ويوم مفترج … من أيام السعد والهنا عند جنود دربوهم علي الإجرام … وخلصوهم من صفات البشر … فصاروا كالكلاب … لا تحترم … ولا تأنس إلا إلي اليد التي تطعمها … ولا تخشى إلا العصا في يد من دربها …
يومًا بعد يوم … كان العذاب يزداد لهيبًا واشتعالاً … ولكن الاعترافات المنزوعة مهزوزة … غير مترابطة … لو فيها شيء من الصدق … فإن الكذب يمكن تلبيسه عليها … ويكملها … والذي نسف التلفيق كله … عدم العثور علي أي نوع من السلاح … حتى ولو كان مطواة … أو سنجة … أو مجموعة سكاكين لتقشير البصل و …
فشلت خطط البحث في الدفاتر القديمة .
(21)
كانت لحظة فاصلة في حياة الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … ما قبل الحربي … خلاص … فيما يبدو أنها انتهت … دفاترها أغلقت … مثل طالب علم … ظل يقرأ … ويدرس … ويبحث … يكد … ويجتهد … ويجهز نفسه ليوم الاختبار النهائي … يوم يكرم فيه المرأ … أو … يهان … إما الحصول علي الشهادة … أو – لا قدر الله – الفشل … هذا ما كان – بالفعل – يسعي إليه … ويتمناه … وهو الفوز بالشهادة النهائية … ليس بمعناها الدراسي … ولكن بمعناها الشرعي …
فقد سعي طوال السنوات الماضية … اجتهد … أخلص النية لله … وجاهد … قدر الطاقة … وأحيانًا ما فوق الطاقة … فهل يقبل الله منه عمله … ويمن عليه … ويتوج سعيه بالفوز المبين … منذ وطأت قدمه السجن الحربي … بدأ الأمر غريبًا … جو مريب … الاستقبال هذه المرة … بلا حماس … بضعة كرابيج … وكأنهم يؤدون واجبًا ثقيلاً … أو كأنهم يستقبلون ضيوفًا غير مرغوب فيهم … أين الشاي … والقهوة … والركل بالميري … ومفرقعات الصفع … والكلاب …
بعد أن احتجزوا علي عشماوي … ساقوه إلي زنزانته … أدخله العسكري … وأغلق الباب … دون التحية الواجبة معززة بالكرابيج … ولا تعليمات الوقوف منتصبًا عند فتح الباب … والتعظيم لجناب العسكري .. ولا سرد القائمة المحفوظة … الكلام ممنوع … النظر من ثقب الباب ممنوع … الصلاة ممنوع … أي شيء علي مزاج العسكري ممنوع … فالسجن الحربي … سجن الظلام … والظلمات … شيء غريب … هه …
توقف فجأة عن التفكير … انتزع نفسه … أيا ما يكون … إنها أقدار مكتوبة … سيواجهها … وما تسفر عنه فهي أيضًا … أقدار مكتوبة … لم يعد له في الأمر … من شيء . هذا وقت التسليم … والاستعانة بالصبر … والصلاة … والتلاوة .
العقيد … اكتشف التنظيم … ودور عبد الفتاح المركزي فيه … وكانت خطته التي رسمها مع أعوانه … هي الأولوية في سرعة القبض علي كل العناصر … علي عشماوي كان في اعترافاته أكثر سخاء وكرمًا … عندما وضع يده علي الحلقات الأضعف التي يسهل كسرها … وهو ما يعفيه من مواجهة العناصر التي تتميز بالصلابة – في أول الأمر – … وهي عناصر … لها قدرة هائلة علي الصمود … لا يسهل اقتحامها … أو هدمها … فضلاً عن أنه – لا ينقصها – الذكاء … والفهم والدراسة بأساليب الاستنطاق … واستخراج المعلومات . علي عشماوي رسم خريطة كاملة … وواضحة لعناصر التنظيم … وبمن يبدأ … فلم يلبث أن انهارت العناصر الهشة … وفتحت الطريق أمامه حتى وصلت الاعترافات إلي القيادات التي لم تجد أمامها مفرًا من الإقرار … واقتنعت بأن المقاومة أصبحت بلا جدوى أمام وقائع … واعترافات بأدق التفاصيل … وعلي هذا فضل العقيد أن يترك الرءوس إلي آخر الأمر … ليستكمل ما قد يكون لازال خافيًا … ولتظبيط المحاضر … وتنسيق الأقوال … وتلفيق وفبركة العشرة في المائة الباقية – والتي ذكرها في جلسة الإنس إياها – العميد سعد وهي تهمة قلب نظام الحكم واغتيال عبد الناصر … وهي التي فشلت محاولاته فيها … عندما اتجه إلي البحث في الدفاتر القديمة .
مر يوم … والثاني … والثالث
أيام كلها ذكر … وتعبد … خلوة حقيقية مع الله يا عبد الفتاح … أجازة إجبارية من حركة الدنيا … لتسبح في عالم الربانية … سكينة … اطمئنان … ثلج يبرد القلب … صفاء … ما أحلي الذكر … وما أروع كتاب الله .
في اليوم الرابع … فتحوا الباب
صفوت الروبي .. مع حملة الكرابيج … ولكن بنفس الهدوء المريب – هيا يا عبد الفتاح .
لا ضرب … ولا سب … ولا نداء بالجري يا ولد … لا مسخرة … ولا استهزاء … هه … أيا كان الوضع … فهي لن تكون فسحة … ولا يلبث جو الشك أن ينقشع … وأيًا كان الحال … فالأمور ليست في حاجة إلي وضوح … هم في جانب الطاغوت … وأرجو من الله أن يثبتني علي الجانب الآخر … جانب من يكفر بالطاغوت … ويؤمن بالله .
علي باب الغرفة وقف العقيد شمس .. لم يتمكن الشيطان أبدًا أن يتنكر في هيئة ملاك .
- تعالي … يا عبد الفتاح .
أدخله الغرفة … وأجلسه علي كرسي أمامه .
- سؤال يشغل بالي دائمًا … لم أجد له جوابًا …
نظر في عينيه … ثم استأنف :
- هناك عدد كبير من الإخوان … تركوا الجماعة بعد تجربتهم الأولي في السجن الحربي … منذ عشر سنوات … ولكن هناك – أيضًا – من لم يتعلم الدرس ويتعظ … وعاد إلي النشاط رغم علمه بما في ذلك من خطر أكبر عليه … وعلي أهله وأسرته .
بداية لا تبشر بالخير … ولكن لابد من الإجابة .
قال في ثبات … واختصار :
- الذين خرجوا … لم يكونوا في يوم من الأيام من الإخوان … الذي يدخل الإخوان … لا يمكن أن يخرج منها .
ركز نظره في عينيه :
- وأنت ؟؟
استمر في ثباته :
- أنا … من الإخوان .
- عظيم … بدأنا نتفاهم … أنا أعرف أنك دينامو التنظيم … فإذا كنت أنت من الإخوان … مستغني عن نفسك … ومستبيع … لا مستقبل لك … مجرد قباني … أو تاجر حبوب … رحت … أو جئت … فأنت فلاح … ما ذنب طلاب الجامعة … والمهندسين … والضباط … والدكاترة … أولاد الناس … تضيع مستقبلهم … وتغرر بهم .
انكشف الشيطان … سريعًا … و … بدأنا مرحلة تحطيم الإرادة .
استمر في هدوئه … وثباته :
- نحن ندعو إلي الله … أما التغرير فيكون من الشيطان لأوليائه .
بدأ الاصفرار يزحف علي وجهه … حاول أن يكظم غيظه .
قال :
- من هم أولياء الشيطان … يا عبد الفتاح ؟
- الذين يقفون في وجه الدعوة … ويحاربون الإسلام .
انتفض واقفًا … دفعه … بالقدم في وجهه … انقلب علي ظهره والكرسي فوقه … نادي صارخًا :
- لا ينفع الذوق … مع أولاد الـ … صفوت … شوف شغلك .
سحبوه إلي خارج المكتب … تلقفته الكرابيج … الآن – يا عبد الفتاح – زال الشك – وانكسرت الريبة … وأصبحت في السجن الحربي … أنت الآن تحيا قدر الله … بكل ما فيه من مشاعر وأحاسيس … أنت الآن … في مركز الابتلاء … فماذا أنت فاعل أيها العابد … هل ستصبر كما صبر أولو العزم … أما ستأخذ برخصة لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها … ومن يقع في خية إلا من كره وقلبه مطمئن بالإيمان … وهي في كل الأحوال … مشروعة … يا معين … يا الله … لنبدأ بالصبر … والجلد …
الضرب متوالي … جسده ينتفض … يحاول تلقي الكرابيج بذراعيه … يدور ويتلوى … ولكن الفم مغلق … صرخاته للداخل … أنينه مكتوم لا صوت له … ولكن موصول … صاعد إلي السماء … فدعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب … وسبحانه يري ويسمع … ولكنه الامتحان النهائي … الختامي … يا رب أنت المعين … والمنجي … من الفتن … ولا حول ولا قوة إلا بك … اللهم رطب لساني بذكرك … ولا تشغلني عنك … بما يفعلون .
ازداد سعار صفوت الروبي – وهو يضرب في صخرة لا تلين … جبل تتمزق الكرابيج عليه … بلا أي أمل … أو … علامة وهن … أو … ضعف .
العَظْمة ناشفة … مستعصية علي الكسر .
أوقف الضرب … الاختيارات أمامه كثيرة … ومفتوحة … جاءوا الكلاب أطلقوها عليه … أحاطت به من كل جانب … تنهش لحمه … أمسك الشيخ عبد الفتاح بأشرسها … أطبق ذراعيه علي عنقه … ولم يتركه إلا جثة هامدة .
وقف الصول صفوت في ذهول … غير مصدق … نادي في هستريا علي حمزة البسيوني … أطل من باب الغرفة ليري الفجيعة … ( ابنه ) الكلب … فلذة كبده … مقتولاً … صريعًا … تولي تدريبه بنفسه في مزرعة كلاب السجن التي يرعاها … ويتولاها منذ عزف عن الزواج … واستبدل خلفة الأولاد واذلرية … يتبني الكلاب … وكان هذا طبيعيًا … إذ المعروف أن الدم … يحن لبعضه … جن جنونه … نادي :
- أمسكوه … قيدوا رجليه .
دفعوه داخل المكتب … غابة من العساكر أحاطت به … أشار حمزة إلي صفوت … أمسكوا بذراع الشيخ عبد الفتاح … ربطوه علي الطاولة … وبكل ما فيه من غل وعزم … أمسك بأحد مضارب لعبة الهوكي … وهوي بها علي ذراعه … مع صوت انكسار عظمة الساعد … أفلتت أهة … من بين شفتيه … لا بأس يا عبد الفتاح من صرخة ألم مكتومة … هذه مجرد يد يكسرونها … وقد عاهدت الله علي الثبات حتى لو وضعوا المنشار في مفرق رأسك … هل تذكر ؟؟ .. القرآن … يا قارئ القرآن … الذكر … يا قوام الليل … الرضا بقضاء الله … يا من زهدت الدنيا … الذين قال لهم الناس … إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم … فزادهم إيمانًا … وقالوا حسبنا الله … ونعم الوكيل …
حسبنا الله ونعم الوكيل .
قال العقيد :
- هه يا عبد الفتاح … تكلم .
سكت … ولم يرد عليه … حتى النظر إليه … تجاهله .
قال العقيد في غيظ :
- هاتوا … علي عشماوي .
أطل علي عشماوي … يلبس بيجامًا من الحرير … يهفهف … الشعر ممشط … وجه مورد … كأنه قام لتوه من فندق خمس نجوم … بعد حمام سونا .
قال شمس :
- أنصحه يا علي .
قال دون أن ينظر في وجهه :
- يا شيخ عبد الفتاح … لا داعي للإنكار … أنا قلت كل شيء .
آه … ما أصفي نفسك … وأرجح عقلك يا أختاه … لقد كنت يا حاجة زينب … أكثر فراسة مني .
الكسر في ذراعه يهز كل جهازه العصبي … والجروح من أثر الكرابيج تئن ألمًا … ورغم ذلك تسللت إلي أوصاله راحة … سكن لها جسده ووجدانه … قال :
- الحمد لله … الحمد لله .
قال العقيد في استغراب :
- علي ماذا الحمد يا عبد الفتاح … علي ما أنت فيه ؟
قال في ثقة :
- كل ما يأتي به الله خير … أنا أحمد الله علي أن نجاني منها … وباء بها غيري .
تكدر وجه العقيد :
- هل أنت واقف علي منبر تخطب … يا بن الـ …
نظر حوله :
- ماذا يقول ابن الـ … ماذا تعني ( باء ) هذه … هه ؟
مال علي أذنه الضابط كفافي ثم همس … قال في ارتياح :
- آه … فهمت … يقصد علي عشماوي … رجل جدع … عاقل .
أوشك أن يسأله إن كان هناك معرفة قديمة بينهما … عندما شاهد العقيد يميل علي حمزة البسيوني … الذي لازال يمسك بعصا لعبة الهوكي المصنوعة من خشب شديد الصلابة … همس في أذنه … فتقدم منه … ثم قصف ساقه بها …
الصوت هذه المرة كان مزدوجًا … صوت انكسار العصا … وصوت انفلاق عظمة الساق …
- آه .
نفس الصرخة المكتومة … خر جالسًا علي الأرض … لم يحاول النهوض … مال بجنبه علي الناحية السليمة .
قال حمزة … وهو ينظر إلي بقايا العصا في يده :
- يا بن الـ … هل أنت مركب ساق من حديد ؟
قال العقيد :
- الآن نستطيع … أن نتفاهم .
ماذا بقي لديهم يا عبد الفتاح … بعد أن كسروا لك يدًا ورجلاً … وحكموا عليك بعذاب لا ينقطع … وآلام بلغت ذروتها … والمزيد من العذاب … لن يضيف مزيدًا من الألم … فالحمد لله … صاحب الفضل والمنة … فقد سدوا عليك – من حيث لا يشعرون – جميع أبواب الرخص … ووضعوك علي غير إرادة منهم في … محراب الصبر … وحشروك … في زاوية الصمود .
أنت دائمًا يا عبد الفتاح … تفر من قدر الله … إلي قدر الله .
قال العقيد :
- التنظيم أنكشف كله .
حاول أن يخلص صوته من الألم :
- إذا كان الأمر كذلك … فماذا تريد مني ؟
- شيئًا … واحدًا .
انتظره … فقال :
- إسماعيل الفيومي ؟؟
آه … انغرس السكين في قلبك يا عبد الفتاح … ظننت أنه لن يكون هناك المزيد من الألم .
صاح في توجع :
- قتلتوه ؟؟
أصفر وجهه … ولكنه تمالك .
- نريد معرفة أعوانه .
لو كان حيًُا … لما سأل هذا السؤال … لقد عاهدني علي الاستشهاد … كنت دائمًا صادقًا يا إسماعيل … مع الصديقين والشهداء في جنة الخلد … يا أخي .
- قتلتوه ؟؟
- نعم قتلناه … وسنقتلك أيضًا … إذا لم تذكر لنا أسماء الإخوان في الحرس .
قتلوك يا إسماعيل … لقد توقعت يا أخي أن يقطعوك أوصالاً … ولن تتكلم … ولكن كان ذلك بعد أن تقتله … تقتل الطاغية … كان ذلك سهلاً … ميسورًا … ولكن منعتك … فهل أخطأت يا أخي … كان رأيك أن تخلصنا من جبروته … وتثأر لشهدائنا … وها نحن جميعًا وقعنا في قبضتهم … فهل ضاعت منا فرصة … لا … لا … يا أخي … فنحن نفر من قدر الله … إلي قدر الله .
- إسماعيل الفيومي لم يكن معه إخوان غيره .
- لا داعي للإخوان … من كان يصادق … ويأتمنه علي سره من زملائه في الحرس
سؤالك ليس خبيثًا مثلك … يا فاجر .
- أنتم أدري … اسأل مخابراتكم .
سكت … ثم قال معترفًا :
- مخابراتنا فشلت في اكتشاف انضمامه للإخوان … هل هذا يريحك نريد معلوماتك أنت …
- ليس لدي معلومات .
أشار إلي صفوت … انهمرت الكرابيج علي رأسه … والجانب السليم من جسمه … ولكنه ظل … صامدًا … ليته يلحق به … ليته يموت ميتته .
أشار لهم … توقف الضرب .
- لا نريد قتلك يا عبد الفتاح … ولكن ستعيش العذاب … ولن نعالجك .
وضع قدمه علي ساقه المكسورة … وضغط عليها بكل ثقل جسم .
- تكلم يا عبد الفتاح … عبد الحميد عفيفي قال أن فيه مجموعة من الإخوان في الحرس … وأنك أفتيت بقتل الريس … وكان إسماعيل الفيومي في انتظار تحديد ساعة الصفر .
استطاع أن يلتقط أنفاسه … الكذب واضح … قال :
- لم يكن في نيتنا قتل أحد … ولو أراد إسماعيل قتله … لتم ذلك منذ زمن طويل .
- ولماذا لم ينفذ ؟
- قلت لك لم يكن القتل هدف من أهدافنا … وقتل طاغية لا يحل المشكلة … فسيأتي طاغية آخر … مكانه .
تذكر ما قاله له العميد سعد … هرب لونه :
- ماذا تقصد ؟
- أقصد … أن إقامة الدولة الإسلامية لا يتحقق بالاغتيال أو حتى الانقلاب العسكري تدخل الضابط كفافي :
- طيب … كيف تقوم دولتكم الإسلامية ؟
- بتربية الناس أولاً … وتصحيح مفهومهم عن عقيدة لا إله إلا الله فهي شعائر للعبادات … وإيمان بالشريعة ولا حاكمية إلا لله .
- كلام تهجيص … وتخلف ورجعية … كلما سألناكم … تقولوا ربنا … ربنا … خللي ربنا ينزل من السماء ويخلصكم من أيدينا .
قال ذلك … ثم نظر إلي العقيد … وهو يضحك ساخرًا … قال العقيد …
- ومتى سيتم تربية هذا الشعب ؟؟ .. موت يا حمار … إذا كان هذا هدفكم … فلماذا كان التنظيم … والتآمر … والتخطيط لاغتيال الريس ؟؟
الهدف من المناقشة واضح يا عبد الفتاح هو استنزافك وتشتيت فكرك لتحطيم إرادتك قال وهو يلهث من الألم :
- نحن لم نهدف إلي الاغتيال … أو قلب نظام الحكم .
صاح العقيد :
- هاتوا عبد الحميد عفيفي .
كان واقفًا في الساحة … تحت الطلب … وجهه للحائط … يتناوب العساكر عليه ضربًا بالأحذية الميري … والصفع … والكرابيج … قال العقيد مزمجرًا :
- قل له يا عبد الحميد عن فتوى قتل الريس .
لم تتغير يا شيخ عبد الفتاح رغم العذاب … وما فعله بك البغاة … المهابة … النور … في وجه لم يعرف غير السجود لله … كلنا يا أخي في نفس البلاء … التقت العيون … وتكلمت … قال :
- هذا غير صحيح … لم يحدث .
هاج العقيد :
- يا بن الـ … غيرت أقوالك ؟ .. خذهم يا صفوت .
مثل الكلب المسعور … لا يحتاج إلي تحريض .
ظل الضرب مستمرًا … حتى خمدت أنفاسهما … فقدا الوعي .
حملوهما – كالعادة – في البطاطين إلي الزنازين .
ومرة أخري يفشل في الحصول علي اعتراف صريح … وقاطع … عن تهمة اغتيال الريس ومؤامرة قلب نظام الحكم .
لم يحصل من سيد قطب علي أي شيء جديد … فالتنظيم كان عملاً جهاديًا يتقرب به إلي الله … كل من انضم إليه … غايته تربوية … وإعادة الجماعة التي حلوها ظلمًا … وعدوانًا … فإذا كان هذا اعترافًا … فليكن .
الأستاذ سيد … مريض بالقلب … ومفكر مهاب … فرض نفسه … حتى علي زبانية السجن الحربي … فلم يجدوا له من سبيل إلا أن يعذبوا أمامه ابن أخته رفعت بكر … وأحبهم إلي قلبه … ظلوا يعذبونه … حتى مات … وهو ينظر إلي خاله . لم يتزحزح الأستاذ عن كلامه … لسبب بسيط … هو أن ما يريدونه … يهدم فكرة أساسية قام عليها التنظيم … وهي التركيز علي العقيدة في المرحلة الأولي … حتى ولو استمرت عشرات السنين … وترك التفكير في كل ما عداها … أما الاغتيال … والانقلاب … فهو عمل مرفوض … ومنبوذ … لأن الدولة الإسلامية لا تتم إلا … عن طريق الإقناع … وإيمان الغالبية بها … والأستاذ لا يكذب … ولن يكذب …
لم يبق أمامه … إلا زينب الغزالي .
(22)
الله لطيف بعباده .
عندما ينقطع الإنسان عن الدنيا وأسبابها … ويتجرد من زخرفها وزينتها … ويصبح بلا حول … ولا قوة … تتجلي الفطرة في نقائها … والإيمان في صفائه … تبلغ الشفافية ذروتها … وتحلق الروح في ملكوت الله … بلا نهاية … وبلا حدود … تنطلق من سجن الجسد … وقيود الأرض … تكسر القضبان … وتحطم الأقفال … وتتسامي علي غرور الدنيا … وتتعالي علي المستكبرين … عبيد المادة … وصغائر ما يفعلون .
عندما يعيش المؤمن حالة نادرة من المتعة … والنعيم … حتى لو أقعدوه علي نار موقدة … وشرحوا جسده … وشوهوا أعضاءه … وأذاقوه كل ما اخترعته الشياطين من عذاب .
- أنت يا زينب غزالي … علي قدم محمد عبد الله ورسوله .
- أنا … يا سيدي يا رسول الله … علي قدم محمد عبد الله ورسوله .
- أنت يا زينب علي الحق … أنتم يا زينب علي الحق .
اسمها في شهادة الميلاد زينب الغزالي … واسمها الحقيقي زينب غزالي … رسول الله يناديها باسمها الحقيقي
يا … الله … يا الله .
كانت لتوها قد صلت العشاء … فرشت معطفها … وضعت حذائها تحت رأسها … نامت … واستيقظت علي الرؤيا المباركة … و … كأنها لا نامت … ولا استيقظت … بل حلقت روحها هناك … هناك … لتتلقي جرعة هائلة من طاقة التثبت … سرت في كل كيانها … مساندة … ودعم … أنتم علي الحق … نعم نحن علي الحق … وعلي العهد يا سيدي يا رسول الله … وهم علي الباطل … مهما تجبروا … فهم أقزام … وبكل ما يملكون فهم ضعفاء … فليفعلوا بالجسد ما عن لهم … وليطغوا … ما شاء لهم شيطانهم … فوالله لن ينالوا مني … إلا … ما يكرهون .
زينب الغزالي … هي آخر أمل ليحصل منها العقيد علي اعتراف صريح بأن الهضيبي طلب منها التخطيط لقلب نظام الحكم … واغتيال الرئيس . نقلوها إلي زنزانة أخري … دفعها العسكري … ثم أغلق الباب … الظلام دامس … ولكن … أحسست بحركة حولها … لم تكن بمفردها … كان معها صحبة … أضاءوا النور … فجأة … نور مبهر يغشي البصر … لم تعرف عددهم … كانت مجموعة من الكلاب … ما أن أضيء النور حتى كشرت عن أنيابها … تزوم … وتزمجر … انزوت في ركن الزنزانة … وضعت يديها علي صدرها وأغمضت عينيها … ليس أمامك إلا الدعاء يا زينب … الذكر … والتلاوة … وبركة رؤية رسول الله … أسماء الله الحسنى … اللطيف … اللطيف … اللطيف … تركت جسدها … انفصلت عنه .. الكلاب تعوي … وتقفز عليها … وهي … هناك … هناك .
بعد ساعة … فتح العسكري الباب … وقف مذهولاً … حتى ملابسها التي مزقتها الكرابيج … والدماء المتجلطة عليها … لم تتأثر … وفي ركن من الزنزانة تجمعت الكلاب … في هدوء … ودعة . ترجم … مشاعره … واندهاشه .
- يا بنت الـ … ماذا فعلت للكلاب ؟
صفوت الروبي يتولي ( عملية التسخين ) … أو تجهيزها لمقابلة ( الباشا ) … ولديه برنامج لا ينقذ …
سحبها إلي ساحة المكاتب … لتري وتسمع … أوقفها رافعة يديها … وجهها إلي الحائط …
واحد من الشباب مصلوب علي العمود … وحاملوا الكرابيج يتناوبون عليه … ويقول له :
- هذه زينب الغزالي … اشتمها … يا بن الـ … اشتم .
الضرب يزداد عنفًا … ولا مجيب .
- يا رب … يا رب .
هذا صوت فاروق … هو … هو … صوته … الإيمان … والصدق والرجولة … ليتني كنت مكانك … يا بني لم تحتمل … استدارت وهي تصيح :
- اشتم يا بني … اشتم … يا فاروق .
صاح في امرار :
- لا … لا … يا أمي … والله … إنهم كلاب .
ما أروع … المثل … وما أشجعك …
ردت مواسية :
صبرًا … يا أولادي … صبرًا آل ياسر … فإن موعدكم الجنة .
…. خفت الصوت …
- سبوا زينب الغزالي … اشتم يا بن الـ … أنت وهو .
هذه المرة كانت مجموعة من الشباب … وحولهم الكرابيج والكلاب … لعبة العساكر المفضلة …
قبل أن يسحبها إلي أحد المكاتب … صفعها علي أذنيها وقال :
- كل هذه بسببك … في استطاعتك فداء هؤلاء الشباب … ادخلي …
أشار إلي الجالس علي المكاتب … جدار آدمي … داكن السحنة .
- الباشا … وكيل النيابة .
قال في هدوء :
- اتركها يا صفوت .
أجلسها … وقال :
- يا حاجة … أنا لا أستطيع أن أخلصك … هؤلاء لا يحترمون القانون … وأنت ست محترمة … لا يجب أن تعرضي نفسك للبهدلة … كلهم خلصوا أنفسهم واعترفوا … الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل … تركوك تواجهين تهمة الإعدام .
- نحن لم نفعل شيئًا … سوي أننا كنا نعمل للإسلام … هل هذه جريمة ؟؟
- ولماذا يقولون عنك أنك المحرضة الأولي علي قتل جمال عبد الناصر وتخريب البلد … ونحن نعلم أنهم الزعماء … وهم أساس المصيبة كلها .
- أنا لا أصدق هذا الكلام … فلم يكن من أهدافنا … لا تخريب … ولا اغتيال … هدفنا كان قضية التوحيد في الأرض … عبادة الله … إقامة القرآن والسنة … قضية … إن الحكم إلا لله … وعندما تتحقق هذه الغاية ستنهار هذه الهياكل كلها … هدفنا الإصلاح … كما تري … وليس الهدم .
- يعني الهياكل … ستنهار بدون فعل فاعل ؟؟ .. هذا الكلام يثبت التآمر .
قالت في ثبات :
- المتآمرون … هم هؤلاء المرضي … الذين يسلكون طريق الشيطان إرضاء لسادتهم .
هي تعلم منذ البداية أنه واحد منهم … ولم يكن سوي العميد سعد … لم تكن في حاجة إلي بينة … رفع يده … وهوى بها علي وجهها … قال :
- أردت أن أخدمك يا بنت الـ … ولكن أنت لا تستحقين …
نادي :
- الفلقة … يا صفوت … خمسمائة كرباج .
في لحظات … كانت معلقة … ويتناوب عليها ثلاثة من الثيران … وقف صفوت ليضبط العدد .
- واحد … اثنين … ثلاثة … عشرة … هات من الأول … واحد … اثنين … عشرة … ثاني … من الأول …
فقدت القدرة علي التحمل … دارت الدنيا حولها … ثم … فقدت الوعي … في الصباح … وجدت نفسها ملقاة علي أرض الزنزانة .
بدأت المرحلة الثانية .
اقتحموا باب الزنزانة وسحبوها إلي الثلاجة .
زنزانة حولوها إلي حوض … حملها العساكر … ثم ألقوها فيه … استطاعت – بعد الصدمة الأولي – أن تقف علي قدميها … الماء وصل إلي وسطها … أصدر صفوت التعليمات .
الجلوس … في وسط الغرفة … علي ركبتيها … بحيث يصل الماء إلي ذقنها .
- لو نمت يا حلوة … فسوف نوقظك بالكرباج … التسعيرة … عشرة كرابيج لو أسندت رأسك للحائط … محاولة الوقوف خمسة … مد الرجل أو الذراع خمسة عشر … و … يبقي الهضيبي … وسيد قطب ينفعوك … لو قلت يا رب … فلن ينقذك … ولو قلت يا عبد الناصر … تنفتح لك الجنة … ولو تعقلي … وتخلصينا … وتخلصي نفسك … أخذك لمعالي الباشا … وتقولي له كيف اتفق الهضيبي وسيد قطب علي قتل جمال عبد الناصر .
الجراح في الماء تكوي … وضعوك في حوض من الأحماض … والجوع يفرم أمعاءها … ولكن أسماء الله الحسنى … اللطيف … اللطيف … اللطيف لمن يشاء … يبتلي … ويعين الصابرين … يختبر … ويمد بالتثبيت … طعم الرؤية كلما غفلت عنها … تستحضره ليؤنس وحشتها … ما أجمل وجهك يا سيدي يا رسول الله … وما أحلي صوتك يا حبيبي يا نبي الله … أنتم … علي الحق … و … عندما تنزل السكينة … يحدث النوم …
إغفاءة … أم يقظة القلب والروح .
من هؤلاء ؟
الصبايا … الحور … فيض من نور يسري … يحملون صحائف من ذهب … فاكهة … لم تر مثيلاً … مجرد النظر إليها … يؤدي إلي الشبع … ويروي الظمأ … رغم رائحة الماء العفنة … رائحة من عطر الجنة تملأ رأيتها … ومرة أخري … فضلك عظيم … يا الله … ونعمك لا تعد ولا تحصي … الروح … هناك … هناك … هناك .
في الصباح … أخرجوها … من الماء … إلي زنزانتها … أسندت ظهرها … ورأسها إلي الحائط … وسادة من حرير … و … نامت … الجسد يئن … يصرخ … ولكن الإعياء أقوى … نوم … غيبوبة … لم يعد هناك أي فرق بينهما .
باقي علي الحلو دقة … يا روبي … ويحدث الانهيار العظيم . أيقظها صوت الروبي … كان المتكلم هذه المرة الشيطان نفسه .
دفع أحد العساكر إلي داخل الزنزانة … وهو يحرضه في هياج :
- قطعها … مزقها … أفعل فيها الفاحشة .
أغلق الباب … تكومت في ركنها … وقد تملكها الرعب الأول مرة منذ دخولها الحربي … كل خلية من جسمها … كل خلجة … كل عصب … كان يدعو … إلحاح … وتوسل .. وتضرع .
يا رب كنت دائمًا علي عهدك أمة … قانتة … ساعية إليك … مجاهدة في سبيل دعوتك … اللهم إني أدعوك بضعفي … وقلة حيلتي … وهواني علي الناس … وانكساري إليك … أن تدفع عني شرورهم .. وأن تحمي عفتي … وتصون عرضي .
أخرجها من جو التبتل … وملائكية الدعاء … صوت العسكري :
- يا خالة … لا تخافي … لو قطعوني إربًا … لن أوذيك .
يا الله … يا الله … يا الله … ما أكرمك … وما أعظم فضلك … في هذا الظلام … وهذه الظلمات … نورك يملأ صدري .
قالت في حنو … وأمومة :
- بارك الله فيك … يا بني .
سأل مستنكرًا :
- لماذا يعذبونك … كل هذا العذاب … و … أنت واحدة ست … واضح إنك من عائلة محترمة … وأحسن من أمهات هذه الزبالة
قالت :
- لأننا ندعو إلي الله .
قال :
- لا تظني أننا كلنا وحوش … فينا من ينفذ الأوامر … غصبًا عنه … وإلا فتكوا بنا .
قالت :
- هل تصلي ؟؟
قال :
- كنت قبل التجنيد … ولكن الصلاة هنا ممنوعة … وعقوبتها السجن … أنا يا ست أحب الدين … أجلس في ورديتي – بالليل – استمع إلي الشيخ عبد الفتاح … تلاوته في القرآن … و … صوته جميل … اسمعه يبكي … ويبتهل .
قالت تشجعه :
- لا تخضع لهم … صلي … ولا تخاف إلا من الله .
فتح الروبي الباب … وهو يمني نفسه … بمنظر يزيده زهوًا … وانتصارًا أمام الباشا … إلا أن الوكسة صدمته … انقض علي العسكري يفتك به ثم اقتاده إلي … حيث يلقي مصيره .
وحانت لحظة المواجهة .
صحبها الضابط رياض إلي المكاتب … قال :
- لن نسمح بموتك … تريدين أن تموتي قديسة … يا بنت الـ … يعني بعد ثلاثين سنة … يقيمون لك ضريحًا … ويقولون زينب الغزالي أظهرت كرامات في السجن الحربي … الجحيم هنا جحيم عبد الناصر … والجنة الحقيقية هي جنة عبد الناصر وليس الوهم الذي عندكم …؟؟
ردت في تحد … وقد نسيت آلامها :
- نحن نصبر علي أذاكم بقدرة الله … وسينصرنا عليكم .
قال لها :
- أي نصر … يا بنت الـ … تاريخكم كله هزائم … انضربتم في سنة 1948 … وضربناكم سنة 1954 … ونضربكم الآن ضربة لن تقوموا بعدها … لو أن ربكم قادر علي نصركم … فلينصركم الآن .
استفزها … قالت :
- هذا كلام جاهلي … الله … لن يتركم … ونهايتكم سوداء … وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون … إنما أمره بقدر … ويذركم في طغياكم تعمهون .
نادي رياض :
- الحق … يا صفوت … بنت الـ … لازالت تخطب .
لسعها بالكرباج … مال عليه وهمس :
- اترك الباقي منها … للباشا … صحتها علي وشك الانهيار .
نظر إليها العقيد طويلاً … ثم نادي :
- كفافي …
تقدم منها … وأخرج ورقة وقال :
- انظري … هذا أمر من الريس بإعدامك … ورقة رسمية عليها الشعار … والتصديق … والختم .
صرفت نظرها بعيدًا … وقالت :
- أنتم لستم في حاجة إلي ورقة … وهي … شهادة أتمناها .
نظر كفافي للعقيد … وقال ساخرًا :
- بنت الـ … ماكينة خطابة .
غير من لهجته … فقال :
- انظري إلي نفسك … لقد ضاعت أنوثتك … وأصبحت أكثر خنشرة من الرجل … أنقذي ما تبقي منك … وإلا طلقك زوجك .
قالت في ثبات :
- ولنصبرن علي ما آذيتمونا …
صرخ :
- هات الدكتور يا صفوت … وعلقها علي الفلقة … مصروف لها خمسمائة كرباج الضرب متوالي علي ما تبقي منها … رجليها صارا كتلة من اللحم الدامية بعد أن انسلخ الجلد عنهما .
- يا الله … يا الله … يا لطيف … يا حي يا قيوم … ربي إني مَّسِنَي الضُّر … وأنت أرحم الراحمين .
قال في استنكار :
- أين هو الله … لو نزل هنا لوضعناه في زنزانة … استغيثي بعبد الناصر … فيغيثك فورًا .
- الله موجود … يا جاهلي … ورئيسك الجاهلي … أليس اسمه عبد الناصر … فلمن عبوديته .
بهت … لم يرد … تشاغل بالنظر إلي الكرابيج … تهوي بشفراتها فيتناثر اللحم المدمدم …
لم تتحمل … راحت في غيبوبة .
فزع لها الطبيب … كان جاهزًا … حقنها … ثم قال محذرًا :
- لن تتحمل المزيد .
أفاقت … لتجد نفسها … ممدة علي أرض الغرفة … والممرض يمسح جروحها بالمطهر … ساعدها في الجلوس … وإسناد ظهرها علي الحائط … أعطاها كوب من العصير … إلا أنها رفضت تناوله .
قال الضابط كفافي :
- دعني يا باشا أقرأ عليها اعترافات الهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل الملفات موضوعة أمامه … أخذ يقلب … ويقرأ …
- هذا هو اعتراف علي عشماوي .
قالت :
- هذا كذب … لقد اشتريتموه .
قال :
- والهضيبي وسيد قطب وعبد الفتاح إسماعيل … اشتريناهم أيضًا .
قالت :
- لا … هذا الكلام مزور عليهم …
صاح :
- هاتوا عبد الفتاح إسماعيل .
أحضروه … الذراع المكسور يحمله بيده الأخرى … ويحجل برجله السليمة … مستندًا علي كتف أحد العساكر … يلبس عفريتة المساجين الزرقاء … ممزقة تكشف عن لحم مشوه … لم يندمل … ولكن الوجه … وجه الشيخ المريح … لا تخطيء العين وقاره … نور الموحدين يشع منه .
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ألقي التحية … وكأنه يقابلها في بيتها .
ردت التحية بصدر منشرح .
قال العقيد :
- تكلم يا عبد الفتاح … ماذا كنت تعمل عندها … ولماذا كنت تقابلها .
قال :
- أختي في الله … كنا نتعاون علي أن نبني شبابًا مسلمًا علي مبادئ القرآن والسنة … وبطبيعة الحال كان ذلك سيفضي إلي تغيير الدولة … من دولة جاهلية … إلي دولة مسلمة .
قال في غلظة :
- هل نحن في جامع … أنت لست علي المنبر … يا بن الـ … أخرج … أخرج .
سحبوه .
علي عكس ما أرادوا … حضوره كان زادًا لها .
قال العقيد :
- هل سمعت … هذا اعتراف بالتآمر لتغيير نظام الحكم .
قالت :
- ولكننا لا نسعى إلي ذلك بالاغتيال … واستخدام القوة … ولم نحدد وقتًا لحدوث التغيير … حتى ولو استمرت عشرات السنين .
نفذ صبره :
- لا تدفعينا إلي قتلك … نحن قتلنا عواد … ورفعت بكر … وإسماعيل الفيومي … كل يوم ندفن عشرة كلاب منكم … هذا جحيم عبد الناصر … ولدينا أوامر منه بقتلكم جميعًا .
قالت :
- شهداء … في الجنة .
قال في سخرية :
- جنة إيه يا بنت الـ … أنتم تعيشون في وهم … الجنة الحقيقية عندنا … والدنيا الحقيقية عندنا … أنتم تعيشون خارج العالم … هل تريدون أن نترك روسيا التي تحكم نصف العالم … ونمشي وراء كلام الهضيبي … وسيد قطب .
قالت في ثبات :
- سيد قطب … والهضيبي … يدعون إلي الإسلام … الدين الحنيف … ومنهجهم هو التربية … وليس الاغتيال … والانقلابات العسكرية … وغيرهم هو الذي يلجأ إلي هذه الأساليب .
الآن … حان أجلها … وجهه … تحول إلي وجه شيطان .
أدرك العميد سعد ما يدور في رأسه جذبه من ذراعه إلي حجرة جانبية همس في أذنه :
- تعالي … اهدأ .
العميد سعد … له مكانته عنده … مع القهوة … والسجاير … قال :
- قتلها … لن يغير موقفنا … اختفاء متهمة أساسية لن يكون في صالح القضية … نحن لدينا اعترافات من عبد الفتاح … ومنها بأن هدفهم هو تغير نظام المجتمع … والحكم هذا الكلام يحتاج إلي التلميع .
تابعه بانتباه :
- كيف ؟؟
قال … بعد أن أشعل سيجارة أخري :
- عن طريق التلفزيون … نستطيع أن نجهز مجموعة من الأولاد الصغار في التنظيم … مع المذيع قنديل … ونضع علي لسانهم … أن هدفهم كان نسف القناطر الخيرية … ووضع متفجرات في محطات السكك الحديدية … واغتيال كبار المسئولين … ننشر مع الأحاديث … خرائط … وكروكي لبيوتهم … ونجهز بعض الأسلحة والمتفجرات … ونصورها … هذا بالإضافة إلي حملة في الصحف … وأحاديث مفبركة … كالعادة … نستطيع أن نغطي تهمة قلب نظام الحكم … وحبايبنا الصحفيين ينتظرون الإشارة …
بدأ يتجاوب … قال :
- عظيم … و … عملية الاغتيال ؟
قال :
- عندنا ورقة هامة … نلعب بها … هي اعتراف عبد الفتاح إسماعيل … وعبد الحميد عفيفي … بأن إسماعيل الفيومي من الإخوان … طبعًا الجهة التي نعمل لها حساب … هي مخابرات الرياسة التي يمسها الاتهام … ستقول أن هذه الاعترافات مفبركة … والحجة التي يمكن إثارتها للتشكيك في معلوماتنا … هي السؤال … لماذا لم ينفذ إسماعيل عملية الاغتيال … وردنا علي ذلك … هو أن التنظيم كان يستعد للحظة المناسبة … ونحن حرقناهم في الوقت المناسب … وهذا سيترك الريس في حالة شك … لا يستطيع ترجيح أي من الموقفين … إلا أننا نفوز … لأن أثارة شك الريس في مصلحتنا … فهو لا يستريح إذا لعب الفأر في عبه … وسيلجأ إلي حركة تطهير … وقد بدأها بالفعل بتغيير كل أفراد الحراسة الخاصة … والخطوة التالية … مذبحة في الجماعة إياهم .
نظر إلي العميد سعد … طويلاً … ثم قال :
- أنت … شيطان يا سعد .
ضرب العميد كفه مصافحًا … وهو يضحك :
- يا بو الشموس … أنا تلميذك .
ظلت تحت رعاية الطبيب والممرض … فيما يسمي بالمستشفي … الطبيب … ضابط عسكري … والممرض مجند … يمارس عمله بمهنيه … ولكنه – بطريق غير مباشر – يخدم أعمال التعذيب … لأن مطلوب منه – ليس شفاء – المعتقل … وإنما إعداده بدنيًا لتحمل المزيد من العذاب … تمامًا مثلما يتم رعاية البغل لكي يستطيع جر العربة …
ظلت الحاجة زينب في المستشفي عدة أيام … حتى استردت البعض من عافيتها … والجروح التي تعفنت وامتلأت صديدًا … بدأت تندمل مكونة من اللحم عارية من طبقة الجلد … أصبحت تسبب ألمًا شنيعًا .. عند مجرد اللمس … وأحيانًا عند حركة الملابس فوقها
فوجئت باستدعاء إلي المكاتب .
قال لها العقيد :
- لا تخافي … أريد مناقشة صريحة معك .
نظرت في ريبة … ثم التفتت حولها … وأشارت إلي صفوت وحملة الكرابيج من حرس ( القرف ) .
قال بلا اهتمام :
- هؤلاء تعودوا الوقوف هنا … ولا يتحركون إلا بالأمر … وأنت جريئة ولذلك أريد منك بعض المعلومات العامة .
انتظرت … هات ما عندك … أيها الكريه .
قال :
- لماذا لا تتوقفون عن النشاط … كلما أمسكنا تنظيمًا .. قام آخر ولماذا العمل السري .
قالت :
- أنتم السبب …
نظر مندهشًا … استمرت :
- نحن دعاة … عملنا الأساسي وسط الناس … ندعوهم إلي فكرنا … ولا نملك إلا إقناعهم … ولا نجبر أحدًا علي ذلك … وأنتم تدعون أن الشعب معكم ويؤيدكم … فلماذا تخافون منا … بيننا وبينكم الناس … إما أن يقتنعوا بكم أو بنا عندئذ لن يكون هناك أي عمل سري .
قال :
- ديمقراطية يعني ؟
- سمها كيفما تشاء … ولكنها في النهاية حرية الحركة والتعبير .
- نتركها فوضي … تضحكوا علي الناس باسم الدين .
- وأنا أقول أن الذي يضحك علي الناس … هو نظامكم … الذي لا يريد أن يثق في قدرة الناس علي التمييز بين الحق والباطل … ويفرض وصايته ليستمر في الحكم .
- تنظيماتكم تلجأ للتآمر … والعمل العسكري .
- الدولة القوية … المستقرة … تستطيع أن تعاقب كل من يخرج علي شرعيتها … بالقضاء … والعدل …
- أنت تتحدثين عن نظام لا يطبق إلا في المريخ … نظام خيالي … نحن ثورة … والثورة تفرم كل من يقف في طريقها … أعداء الشعب … كلام الكتب لا يصلح إلا في المدارس .
سكت … ثم سأل فجأة :
- هل أنا كافر ؟؟
قالت :
- أنت أدري بنفسك .
قال :
- أريد إجابة واضحة … لقد سألت سيد قطب … وعبد الفتاح إسماعيل … أجابوني نفس الإجابة … الوحيد الذي كان صريحًا … هو هواش .
- ماذا قال ؟
- قال … نعم … أنت كافر .
- وماذا فعلت معه ؟
- سأخبرك … في الآخر .
سألت :
- ولماذا أنت مهتم بذلك ؟
- مجرد نقاش … معلومات .
- وإذا سألتك بطريقة عكسية … هل أنت مؤمن ؟؟
فكر قليلاً :
- أنا لا أهتم بالدين … ولا أضعه في دماغي … ويمكن اعتبره معوق للطموح … وقد لا يفهمني من سمعني وأنا أقول أننا نستطيع أن نضع الله في الزنزانة … هذا كلام لزوم الشغل … والدي كان أزهريًا … وأنا لا أنكر وجود الله … ولكن ربنا رب قلوب .
قالت :
- المشركون في مكة لم ينكروا وجود الله … وعبدوا الأصنام لتقربهم إليه .
- وهل أنا أعبد الأصنام ؟؟
- أنت تفعل ما هو أسوأ … لماذا تعذبون الذين يأمرون بالقسط … وتمتهنون كرامة الإنسان … ويصل الأمر إلي درجة القتل ؟
- دخلنا في المحظور .
- أنت التي طلب الصراحة .
قال :
- سأصبر عليك … لأن المناقشة بدأت تحلو .
سكت … ثم قال :
- سأجيبك … نحن في ثورة … حرب … والحرب تجيز استخدام كافة الأسلحة لهزيمة العدو .
- وهل اعتدينا عليكم ؟
- نحن تغذينا بكم … قبل أن تتعشوا بنا .
- من قال أنه كان في نيتنا أن نتعشى بكم … أنتم تحكمون علي النوايا .
- ولماذا التنظيم …؟؟ .. هل كان الغرض منه بيع البطاطا في الشوارع ؟؟
- الجميع أكدوا لك … أنه كان لدراسة الدين … ثانيًا كم عدد أفراده … بضعة مئات … هل يشكل خطر … وأنتم تملكون الجيوش والمخابرات .
- كان من الممكن أن يتطور … ويتحول إلي تنظيم مسلح .
- عدنا للحكم علي النيات … وما في القلوب .
- لقد أخرجنا ما في قلوبكم ونياتكم .
- باستخدام التعذيب ؟
- بالتعذيب … وقتلكم جميعًا .
- وهل هذا من الإيمان … أو يتفق مع قواعد الشرع … التي تحرم الظلم … وتلفيق التهم … وعدم ترويع المؤمنين … قذفهم بالشتائم الفاجرة … وأخذ الجميع بذنب المخطئ … إن وجد مخطئ .
- أنا صبرت عليك … هذا كلام هلوسة .
لم تهتم بنبرة التهديد … استمرت لتفرغ ما في جعبتها :
- تقول أنها حرب … حرب بين الدولة وأبنائها … أليس من واجب الطرف الأقوى … وهي الدولة أن تبحث عن أسباب الخلاف بينها وبين طائفة من مواطنيها … وتناقشهم … وتتحاور معهم … في جو من الحرية … بدلاً من إشاعة الرعب … والخوف الذي يلجئ الناس إلي ممارسة معتقداتهم في السر .
انهزم … صرخ … ينادي صفوت :
- مصروف لها مائتين كرباج .
قبل أن يسحبها للخارج … قال متشفيًا … في سخرية :
- لم تجيبي علي سؤالي … هل أنا كافر ؟؟
قالت في ثبات :
- وأنت لم تجب علي سؤالي … ماذا فعلت مع الأخ هواش ؟
قال في لا مبالاة :
- صرفت له مائتي كرباج .
(23)
شوكت التوني
محامي … من أيام الزمن الجميل … زمن الطرابيش … الذي وإن كان يرمز إلي شعب حكمته ملكية داعرة … ورزح تحت عبء احتلال انجليزي كرس تخلفه وساند نظام الحكم منفصل تمامًا عن أماني وتطلعات الجماهير … إلا أنه زمن كانت تحيا فيه قيم الأخلاق … والشهامة … والكرم … ونجدة المبتلي والمصاب … بين أفراد المجتمع … فضلاً عن قيم الوطنية … ومقاومة الاحتلال … زمن كانت فطرة الناس فيه لازالت غضة … حِيَّيه … إلي أن فضَّت بكارتها ثورة فاجرة .
شوكت التوني الصعيدي النشأة … المحافظ المتمسك بالتقاليد … ورث عن أسرته التدين … وحب القراءة والأدب … ظروف النشأة والهواية … جمعته مع سيد قطب الصعيدي … الأديب … مع صلة من القرابة … عززت الصداقة بينهما … ورغم أنه كان من حزب السعديين بزعامة النقراشي … والعداوة بينه وبين الإخوان معروفة إلا أن التوني ظل علي علاقة طيبة بالشيخ البنا . شوكت التوني يجلس معتقلاً منذ عام … قبضوا عليه في سبتمبر 1966 انتهي به المطاف إلي غرفة في سجن مزرعة طره … يجلس حوله زملاءه المحامين … أطلقوا عليهم اسم المحامون العرب … تندرًا … الجلسة ضمت مجموعة من معتقلي الإخوان ولأنه كان واحدًا من المحامين الذين واجهوا الدجوى رئيس المحكمة التي حاكمت الإخوان … فقد كان الحديث يدور عن الأحداث الجارية .
قال في تأثر :
- وددت لو أن الشيخ عبد الفتاح إسماعيل معنا الآن … ليري قدر الله وقد أطبق علي نظام الطاغية … كنت أرقبه طوال فترة المحاكمة … كلما جاء ذكر إسماعيل الفيومي … بكي … ولعله كان يشعر بشيء من المسئولية عن قرار منع إسماعيل من قتل عبد الناصر … بعد هزيمة الساعات الستة أصبح عبد الناصر رهينة في قبضة جيش اليهود المتمركز علي ضفة القناة … هو الآن يموت كل ساعة … يعيش عذاب الخزي والعار … بما جلبه علي شعب مسكين ضاعت أرضه … ودمروا جيشًا كان ضحية غباء أهوج … واستهتار قادة رتعوا في الفساد وأهدروا أمانة علقها الشعب في رقابهم … أليست هذه النهاية أكثر عبرة وعظة مما لو كان الفيومي قتله ليجعل منه قديسًا وبطلاً تاريخيًا … ويظل دمه الفاسد معلقًا في رقبة الإخوان علي اعتبار أنهم قتلة … وجناة .
علق واحد من الإخوان :
- أتمني أن أرجع إلي السجن الحربي … لأري شمس بدران داخل الزنزانة … وأسأله إن كان قد رأي كيف يغير الله من حال إلي حال … وهو الذي كان يدعي أن باستطاعته وضعه في زنزانة … سبحانه وتعالي … كبرت كلمة تخرج من أفواههم … وكان يسخر من استشهاد زينب الغزالي بقوله سبحانه … وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون …
قال آخر من الإخوان … كان في السجن الحربي …:
- سمعت من الشهيد هواش أنه رأي في منامه كأن الزنازين فتحت … وخرج منها الإخوان ليدخل فيها كل من شارك في تعذيب الإخوان من زبانية السجن الحربي .
قال المحامي التوني :
- هذه مؤشرات تدخل القدرة الإلهية … وهي مبشرات للمؤمنين … لن تتوقف حتى تنتهي دولة الظلم .
شوكت التوني … اعتقل علي ذمة كلمة قالها … وسجلها عليه ( صديق عزيز ) في نادي الجزيرة … عندما جاء ذكر إسماعيل الفيومي في جلسة سمر … قال التوني … ليته عملها … وخلصنا منه … ليس التسجيل فقط هو الذي أثارهم … وإنما سلسلة من المواقف أمام محاكمهم … وجرأته … وخوضه في المحظور .
دفع الثمن من حريته … اعتقلوه … صادروا أملاك الأسرة … فصلوا أخيه المستشار … وشتتوا زبائن مكتبه … واغتالوا أخاه الأصغر … قتلته سيارة مسرعة … في الشارع … وهو يمشي علي الرصيف … صدمته وحده من بين عشرات من المارة … وفي النهاية اعتقلوه … وطافوا به في – نزهة بائسة – بين سجن أبو زعبل … وسجن المخابرات … لينتهي به المقام مع مجموعة المحامين العرب المغضوب عليهم لنفس الأسباب … نكتة هنا … وتعليق هناك وتلسين ينقله نمام … أو خباص … في تقرير عن عبارة عداء تمس ذات القائد الملهم .
ماذا فعلت مع الدجوى … أيها المحامي … ذو اللسان الطويل … أو الفارس الذي لا يزال يحارب بالسيف … في زمن تغير فيه النزال إلي تكتيك المقالب … ونظام الدس … وتشكيلات الخداع .
يذكر أول أيام المحاكمة
الدجوى يجلس علي المنصة … مزهوًا – كالطاووس – بنياشينه … منفوخًا … مع أن الجميع يعلم أنه لا يعدو أن يكون آلة تسجيل … بداخله شريط يدور فيصدر صوته بالأسئلة … والاستجواب … حتى عبارات السخرية لقنوها له … ونظرًا لاحتمال تعرضه لمأزق … فقد وضعوا له – كما يحدث في المسارح – ملقنًا يجلس في غرفة مجاورة … وبينهما دائرة اتصال كهربائية … أخفوها بعناية – شغل مخابرات – تمثل نجدة – تدركه عند الغرق … حتى لا يتعرض لمواجهة من يفوقه ذكاءً وعلمًا … سواء من المعتقلين … أو من المحامين – وهم قلة من أمثال طويل اللسان – شوكت التوني … أما بقية المحامين فقد تم انتدابهم ممن هم مشهود لهم بالقدرة علي إدانة موكليهم … وتلبيسهم التهم بخبرة تفوق خبرة الإدعاء … وحماس يتضاءل أمامه حماس النيابة … ولا يعرفون من المرافعة إلا طلب المغفرة من الثورة الرحيمة بأبنائها العصاة …
التوني عندما سمع الحاجب يصيح محكمة … حبكته النكتة … مال علي أذن المحامي جاره … وقال الأجدر أن يصيح … ( مش محكمة ) … رآهما الدجوى يبتسمان … أشاح بوجهه غيظًا … فلا يوجد أحد في المحكمة يمكن أن يكون موضع تعليق ساخر … سواه … هكذا صور له ذكاؤه .
التوني صدمه بطلباته … القانونية .
- الكشف عن المعتقلين بواسطة لجنة طبية لإثبات ما بهم من إصابات .
- انتقال المحكمة لمعاينة مكان اعتقال المتهمين … وهو السجن الحربي .
- بطلان إجراءات القبض عليهم واحتجازهم بمعرفة الشرطة العسكرية … وأيضًا النيابة لقيامها بالتحقيق داخل خيمة نصبوها لها في داخل السجن الحربي .
طلبات كلها استفزازية يا توني … أنت نفسك قلت أنها ( موش محكمة )
اللعب مع الوحوش … يخربش
الملقن وسوس له في أذنه قال في عصبية
- طلباتك مرفوضة يا أستاذ … اقعد يا أستاذ … خلاص يا أستاذ … لا تضيع وقت المحكمة يا أستاذ .
- الهضيبي … يجلس في قفص الاتهام … وقور هادئ … كأنه هو القاضي … يحاكم الدجوى … عند أول دخوله إلي القاعة … توجه إلي القفص … وسلم عليه … امتلأت عيناه بالدموع … نظر إليه وقال :
- وبعدين يا أستاذ توني … لقد عشنا طوال عمرنا رجالاً … أنبكي الآن ؟
نعم نبكي يا فضيلة المرشد … نبكي بلدًا عزيزًا ضاع فيه الحق … وغاب عنه العدل … نبكي الظلم الذي طال واستطال شره … واستفحل داؤه … وعز علي المريض أن يجد دواءه … الظلم قبيح … وأقبح منه … العجز عن حسمه ومقاومته . لقد عرفتك يا شيخنا … تقيًا … ورعًا … شهد بذلك حماي زميلك المستشار عندما كان يطلب منك دائمًا – بحق الزمالة – أن تدعو له … لالتزامك بالطاعات … مبتعدًا عن كل ما نهي الله عنه … عرفتك صلبًا في الحق … وعندما زارك المحامي صبري باشا أبو علم في المحكمة … وكان له قضية يدافع فيها أمامك … طلبت منه القهوة إلا أنك سرعان ما رددتها وأنهيت الجلسة عندما عرض – مجاملة – خدماته عليك … الاعتزاز برسالة القاضي … ونزاهة متأصلة في خلقك .
أنت الآن جالس … في القفص … حولك كوكبة من الرجال … ولا كل الرجال يشع من وجوههم نور الصلاح … والطاعة .. تملؤهم ثقة من لا يسجد إلا لله … لا يعبد إلا إياه … يؤمن بقدره … الذي كله خير … في السراء … والضراء وثبات لم يهتز لتجربة بشعة … خاضوها … ولازالوا يعيشون وطأتها .
سيد قطب يبتسم في وداعة … روح محلقة وثابة … تسكن جسدًا استسلم لأمراضه … عالم … فقيه … مفسر لكتاب الله … تفيأ تحت ظلاله … مبدع في كتبه … رشيق العبارة … نظر إلي الدجوى … في استعلاء … وكأنه فأر تحت قدمه وهو يوجه إليه الاتهام … دبر … وتآمر … وخطط … وحرض … وآخر الاتهامات أنه حمل حميدة قطب رسائل نقلها إلي الإخوان … ! !
ماذا قال لك يا توني … عندما شاهدك في القاعة ؟
لم تجد عبارة تقولها سوي :
- شد حيلك .
أجابك في ثقة :
- كما عهدتني … لم أتغير … قد ينال مني الموت … قبل أن ينالوا مني … رفض الصفقة … التي قدموها له مقابل تخفيف حكم الإعدام .
قال لأخته :
- لو كان ما يطلبونه صحيحًا لقلته … وما استطاعت قوة علي وجه الأرض أن تمنعني من قوله … ولكنه لم يحدث … وأنا لا أقول كذبًا … أبدًا .
وكانوا يعرضون عليه أن يقول أن التنظيم علي صلة بجهات أجنبية .
قالت حميدة :
- حمزة البسيوني استدعاني … شاهدت معه أمر بتنفيذ حكم الإعدام … وطلب مني عرض الصفقة عليك .
سأل :
- وأنت ترضين ذلك ؟ ..
قالت :
- لا .
قال :
- إنهم لا يستطيعون ضرًا … ولا نفعًا … إن الأعمار بيد الله … وهو لا يستطيعون التحكم في حياتي … ولا يستطيعون إطالة الأعمار ، ولا تقصيرها … كل ذلك بيد الله … والله من ورائهم محيط .
عند صعوده درج المشنقة … أراد الواعظ أن يلقنه الشهادة … رد عليه :
- حتى أنت جاءوا بك لتكمل المسرحية … نحن يا أخي نعدم بسبب لا إله إلا الله .
سأله أحد ضابط الحراسة عن معني كلمة شهيد قال :
- شهيد يعني أنه شهد شريعة الله أغلي من حياته .
صدقت … أيها الصدوق .
محمد يوسف الهواش
الصوفي المتجرد … زميل سيد قطب … صنوه … وأمين سره … ما من جملة … ولا عبارة … ولا فكرة … وإلا يعرف متى … وأين كتبها الأستاذ … روحه رافقت روحه في علوها وسموها … ونفس الجسد … الذي هدّه المرض … ورغم ذلك لم يرحموه من العذاب … كل تهمته … أنه يمكن أن يكون خليفة سيد قطب … يومًا ما … في قيادة التنظيم …
ما هو حكم هذه التهمة الشنيعة في القانون … يا توني ؟ ..
…. أي محامي مبتدئ … يحصل علي حكم براءة … حتى بدون أن يترافع … وهل القانون الوضعي … – بلاش الإسلام – يحكم الناس علي نيتهم … و … يمكن … ! ! الرجل الصابر … المريض … لم يرحموه من العذاب … كانوا يأخذونه للتحقيق زاحفًا علي مرفقيه … وركبتيه … ولم يستطع أن يوقع علي محضر النيابة لإصابة أعصاب يده . من التعذيب .
ماذا قال يا توني عندما سأله الدجوى : :
- هل لك أي اعتراض علي المحكمة ؟
قال في نبرته الهادئة :
- أنني كمسلم … ومن وحي عقيدتي أرفض أن أتحاكم أو أحاكم إلي محكمة لا تحكم بما أنزل الله .
توج ثباته بشري من رسول الله صلي الله عليه وسلم … عندما رآه في المنام مع جمع من الصحابة يبايعونه … قال رسول الله :
- هل غيرنا من بعدك ؟
- هل بدلنا من بعدك ؟
فأجابه صلي الله عليه وسلم :
- لا … بل أمناء … أمناء … أمناء .
ليلة الحكم عليه بالشنق قال للإخوان :
- إن هؤلاء لا يحكمون … الحكم لله … والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء …
نحن وهم في قبضة الله كالذر ، وإن كان الله يرانا أهلاً للشهادة سوف يختارنا ، وإن كان غير ذلك فسوف يجري فينا وفيهم قدر الله … وقد صدق …
هل تذكر الأسد بن الأسد … مأمون الهضيبي المستشار رئيس محكمة جنايات غزة … كان الدجوى يحكم غزة بصفته العسكرية … والمأمون يعرف … قصته عندما وقع أسيرًا في يد اليهود عام 1965 ذليلاً مهنيًا .
عرضوا له فيلمًا يثني فيه علي الجيش الإسرائيلي وشجاعته عندما عالجوا زوجته ونقلوها لإجراء عملية جراحية في أحد مستشفيات تل أبيب … يومها توعده عبد الناصر بالمحاكمة العسكرية … عند عودته من الأسر . وقد تحقق وعيد عبد الناصر له … بترقيته حتى رتبة الفريق الأول وبذلك أصبح القاضي الذي يس\ال قبل أن يحكم … ويبحث عن اتجاه الريح … ويطمئن علي المسجل أمامه لكي يطلع عليه الريس ليري مدي غلطته … وجبروته وشدته علي أعداء الثورة .
رفع المأمون المستشار صوته في الإجابة علي أحد الأسئلة … فما كان من الدجوى القاضي إلا أن قال في عنهجية :
- انتهي الاستجواب .
رد صائحًا :
- لا … لابد أن أتكلم إلي النهاية .
- محاميك يكمل الكلام .
صاح المأمون في حسم :
- لابد أن تسمعني .
و … رضخ الدجوى … للمستشار النزيه … ابن المستشار النزيه … الذي ينقل عشرات الآلاف من تبرعات أهل غزة وفلسطين … ولم تمتد يده بالإحصاء أو العد ليسلمها أمانة من حق أسر المعتقلين … لينتهي به الأمر معتقلاً … ثم سجينًا … فليس من آل الهضيبي من هو عزيز علي الابتلاء .
ماذا لديك يا توني من ذكريات عن رجال يشمخون بينما أجسادهم مخددة أخاديد من أثر السياط … وأجسادهم الشابة الغضة قد طمعت منها أنياب الكلاب الجائعة … نومهم أرق … من العذاب … ونهارهم ضنى من الإيذاء … فلا نوم … ولا راحة … ولا أمل ولا رجاء في عدالة الكلاب …
هؤلاء أحفاد الذين كانوا يدفنون في رمضاء مكة … وتثقل صدورهم بالأحجار المحماة بجمرات النار … وحرقة الوقدة اللاذعة من شمس البطحاء وهم صابرون … صامدون .
هل تذكر حكاية المهندس مرسي مصطفي مرسي … الذي وصف عبد الناصر بأنه امتداد لحكم أتاتورك … كلاهما أخلص العمل وفق تخطيط الصليبية والصهيونية فما كان منن القاضي العادل إلا أن أبلغ السجن الحربي … فكانت ليلة من العذاب امتدت بلا توقف حتى حضوره في اليوم التالي للمحكمة … ليسأله الدجوى عن سبب ما به من إصابات … فيرد المهندس مرسي متهكمًا :
- وقعت من السلم .
عندئذ تبدو علامات الانتصار عليه … وهو يقول للصحافة :
- اشهدوا … حتى لا يكتب عنا أحد أننا نعذب المعتقلين .
أما حكاية الشيخ محمد الأودن … فهي تمثل بشاعة الغدر … وقلة الأصل … والندالة متجسدة في رجال جلسوا علي القمة … وآخرين باعوا الإنسان في سبيل الزحف إلي أقدامها .
الشيخ البالغ ثمانين عامًا يجلس في القفص ينتظر الحكم عليه بتهمة أنه رفض أن يجند نفسه مخبرًا في جهاز المباحث … أو بصاصًا مأجورًا في نظام شمس بدران … التهمة هي علم … ولم يبلغ … الرجل الذي كان ضباط الثورة يسعون إليه يومًا ما … ولابد أنهم – الآن – يخجلون من ذكره … كانوا يسعون طالبين نصحه … ووعظه وانقلبوا عليه يطلبون رأسه … والانتقام منه … وتلفيق تهمة لوضعه في السجن .
ما هي الحكاية ؟
المحامي شمس الشناوي … زميل شوكت التوني … في يوم من الأيام صحب الأخ عبد الفتاح شريف لزيارته … وهو أحد قادة التنظيم … انتهت الواقعة .
…. وكيل النيابة لم يجد تهمة يوجهها للشناوي … طلب الإفراج عنه .
ومع أن الإفراج كان وقتها معناه … قضاء بقية مدة الاعتقال المقدرة بما لا نهاية في سجن طره … إلا أن الخروج من السجن الحربي نفسه كان بمثابة إفراج حقيقي أثناء وقوفه أمام المكاتب شاهده شمس باشا :
- رايح فين يا ولد .
- إفراج .
- نعم … يا روح أمك ؟؟ .. لن تخرج من هنا إلا في حالة واحدة أن تعترف علي الأودن .
المحامي الشناوي رفض … لأنه لم يحدث شيء … والافتراء حرام .
نادي شمس عبد الفتاح شريف … وطلب منه أن يشهد ضد الرجل فقال له أن لا يستطيع أن يشهد علي شيء لم يحدث … فقال له أنني لا أسألك إن كان حدث أم لا … أنا أطلب منك أن تشهد بما أقوله لك … يعني شهادة زور … فرفض . المهم … العقيد اتصل بجمال عبد الناصر … ووعده بأن يخلص علي الشيخ الأودن … وسكته إلي ذلك … هو المحامي شمس … العقيد وعد الريس … يعني طريق بلا عودة … ولا تراجع … الاعتراف … أو الموت … والمحامي … لن يشهد زورً … حتى ولو مات … العذاب صار ألوانًا … كرابيج … وتعليق … وفلقة … وحرق بالسجاير والأسياخ وكلاب تنهش … ظلوا يضربوه … حتى قطع النفس .
جاء الطبيب مسرعًا … وهم يضربونه … قال لهم أنتم تضربون جسدًا ميتًا … لا نبض … ولا حياة … وأخذ جثته إلي العيادة ولأن الأجل لم يحن بعد … أراد الله له أن يسترد حياته بعد علاج يائس …
شمس الشناوي يجلس في القفص أمامك … يا توني … أسدًا … ثابتًا يكتب مرافعته بنفسه بعد أن سمح له الدجوى بذلك … وولده الطفل الصغير يقول له يا بابا … لن يقرأ لك أحد هذه الأوراق
ويميل عليه فضيلة المرشد ويقول مداعبًا :
- اسمع كلام ابنك … ابنك أنصح منك .
ولكن
ماذا قلت أنت يا شوكت في مرافعتك ؟
هل تذكر ؟
قال الشاعر من أكثر من ألف عام :
ولا يـقـيـم عـلـي ذل أُريـد بـه إلا الأذلاَّن عِـيـرُ الـحـي والـوتـد
- ما مصلحة الحاكمين أن يجولوا هذا الشعب الذي عاش أكثر من سبعة آلاف عام لا عمل له إلا الكفاح الدموي من أجل أن تبقي مصر . وبقيت مصر بعد فنيت كل الإمبراطوريات التي غزتها …
إمبراطورية روما
إمبراطورية فارس
وإمبراطورية فرنسا
وإمبراطورية بريطانيا
ما مصلحة الحاكمين في أن يخلقوا من هذا الشعب المكافح المقاتل أغنامًا تساق وحميرًا تقيم هي – وأوتادها – علي الذل … وكلابًا جائعة تتبع سيدها إلي حيث اللقمة تسد الرمق … وتجفف الريق السائل . ولكن عندما ينادي منادي الحرب وينفخ في نفير القتال أين يجد هؤلاء الحاكمون رجالاً يقاتلون ؟؟ .. إنهم يستطيعون أن يجلبوهم من المدن والقرى ويلبسونهم ثياب الجند ويسوقونهم إلي ميدان القتال . ولكنهم سيجدونهم عند النزال أغنامًا تثغو ، وحميرًا تنهق … وكلابًا تعوي ذيولها بين أفخاذها … وتنبح نباح الخوف والفزع والهزيمة .
إن هذه السياسة … سياسة محاربة الأحرار … وإذلال الأعزاء وتجريح أهل القمة … زرع لأشجار الزقوم … سيجني الحاكمون حصادها في يوم من الأيام … بعد شهر … بعد عام … بعد سنين … ولكنهم سيجنونه مرًا وعلقمًا … وشوكًا … وحسكًا وماء من جحيم . وكأنك يا شوكت كنت تقرأ الغيب … فهذا ما حدث في هزيمة 1967 … وبالضبط … ثم استكملت المرافعة … فقلت :
- إننا جميعًا أهل هذا البلد … لا يملك أحد منا شبرًا من الأرض أكثر من أخيه … فلماذا يعمل الحاكمون كأنهم الأوصياء … أو المالكون … وباق الشعب هم الأجراء .
قد يكونون مخدوعين من التصفيق … والتهليل … والهتاف … والحشود .
لا … هذا إما خداع من الشعب لحاكميه .
وإما ذَّلة خشية الموت والفقر … والأذى .
ولكنهم … والله … منافقون .
ثم قلت :
أنني أخاطب هذا الشعب … ولا أخاطب المحكمة … فأنا واثق أن مصير هؤلاء المتهمين قد تقرر قبل تقديمهم للمحاكمة … ولكن بقي آخرون … هم من أدافع عنهم الآن .
إن مصر ستبقي بحدودها الجغرافية … بأرضها … وهي غير قابلة للفناء
ولكن الذي سيختفي هي إنسانيتها ، لن تبقي فيه ناس لأن الناس حرية وكرامة وعدل .
أما عن وقائع القضية … فلا توجد قضية .
هذا التجمع … هو لفتية آمنوا بربهم … إذ قاموا … فقالوا ربنا رب السموات والأرض … لن ندعو من دونه إله … لقد قلنا إذ شططًا … كان اجتماعهم لدراسة الدين … فأين هي الجريمة ؟؟
أما قتل رئيس الجمهورية … مع أنه لم يحدث … ولم يفكر فيه أحد … فإن الرئيس هو فرد عادي … يكون اليوم رئيسًا … وغدًا شخصًا عاديًا … والقانون في يدي وليس فيه أي نص يغلظ العقوبة جزاء لقتل رئيس الجمهورية … فلماذا هذا الاعتقال الجماعي ؟؟
لدغته العقرب يا توني … التسجيل مفتوح أمامه …
- أنت اتجننت يا أستاذ … كلمة تهدم بها جبل … ثم تقول قانون … هذا تحريض .
قال في ثقة :
- لندع القانون … ونتكلم بالقرآن … الذي يقول لنبيه … أكرم الخلق
أنك ميت … وهم ميتون .
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل …
مصر لن تموت … بموت فرد .
- هذا تهريج … كيف لا يكون قلبًا لنظام الحكم أن يتفق جماعة علي قتل رئيس الجمهورية .
- لم يحدث هذا الاتفاق .
- والإقرارات … وتوقيعاتهم عليها .
- هذه الإقرارات أكفان للمتهمين … أرسلتها معهم المخابرات والشرطة العسكرية … وقد أثبتتها النيابة بنصها في محاضرها … ولذلك فإن تحقيقات النيابة باطلة … وقد أسْتُلبت هذه الأقوال من أصحابها بعذاب لا يحتمله البشر .
وكان الختام :
- بأن أودع هؤلاء الأعزاء الذين يحول بيني وبينهم قضبان لا تزيد عن مسافة الأنملة … وقد يفرقنا عن بعض غدًا زمان قد يطول سنين مديدة … وقد يعودون بعد قليل راجعين إلي أحضان مصر الحبيبة .
هذه الطاقة من الزهور هي التي تحتاجه مصر في كفاحها المرير …
عطورهم الأخلاق التي يتمسكون بها ويستمدونها من القرآن أسوة برسول الله علي صلوات الله وسلامه … وبهاؤهم العلم الذي نجد ونلهث في سبيل امتلاكه لخير مصر أمنا العزيزة .
دوت القاعة … كلها … بالتصفيق
تصفيق … حقيقي
في زمن لا يعبر فيه شدة التصفيق … إلا عن عمق النفاق .
مقدمة :
الحاجة زينب الغزالي … تجلس في شرفة بيتها … تنظر إلي الأفق أمامها … الشمس تنحدر نحو الغروب … يوم آخر يغرب من عمرها … ويمر الزمن … وتدبر الدنيا … وكل شيء هالك إلا وجهه سبحانه . مشوار طويل … طويل … يا حاجة … إذا كان فيه من غصة في الحلق … ليس إلا لأن الله لم يكتب لك صحبة الشهداء … الأستاذ الإمام سيد … الزاهد العابد … هواش … ورفيق الدرب … الصوام القوام … الشيخ عبد الفتاح …
هذه حكمتك يا ربي … تجري بها مقاديرك .
استشهدوا … وحكموا عليك بالسجن المؤبد … وإرادة الله الغالبة … أطاحت بحكم الطاغية … وقوضت نظامه … بعد أن ذاق ذل الهزيمة … ومات في حسرة … ومن عذاب سلطه الله عليه في آخر عمره … من مرض السكر الذي اغتال جهازه العصبي … لم تستطيع أسوار الجند وكتائب الحراس أن يحموه منه … ثم خر في النهاية … ميتًا .
أنت الآن يا حاجة خارج أسوار السجن … وكل من مد يده إليك بعذاب داخله … في نفس السجن … وربما في نفس الزنزانة .
سبحانك يا ربي … كانوا يسألونني أين نصرك للمؤمنين ؟؟
أفاقت من تأملها علي صوت أم عبده :
- ضيف … يريد مقابلتك .
التفتت إليها … قالت .
- شاب … اسمه … عبد الفتاح إسماعيل .
أطالت النظر إلي وجهه … ثم قالت :
- الخالق … الناطق … أنت تشبهه .
قال في حياء :
- عمي … وكان يحبني … ويفضلني علي أبنائه … ويصحبني صغيرًا في بعض مقابلاته … ترك وصية … أن أقابلك … ولم تسنح لي الفرصة إلا الآن .
سكتت … أكمل بعد تردد :
- جئت أبايعك علي الجهاد في سبيل الله .
نظرت إليه طويلاً … ثم قالت :
– صحبت الشهيد حسن البنا … وكان عهده … بناء الدعوة … والحرص علي تقوية أساستها … ثم جاءت محنة 1948 … لم تستمر طويلاً … ثم خلفه الإمام الصابر حسن الهضيبي . أول عهده كان إحياء للجماعة … وانتشار … ونشاط … حتى صارت الجماعة قوة … مرهوبة … هذه المرة أرادوا … الإجهاز عليها واشتدت المحنة … وعم الظلام … وكانت موجة الطغيان عاتية .
ولأن الله يكافئ عباده المجاهدين … فقد قبض لهذه الدعوة من يحافظ علي جذوتها أن تنطفئ … كانوا داخل السجن … الشيخ المجاهد عمر التلمساني … والرعيل الأول مصطفي مشهور … والعدوى … وإخوانهم . وكنا خارج السجن … معلمنا الأستاذ سيد قطب … والشيخ عبد الفتاح إسماعيل … جميعًا ندين ببيعتنا – داخل السجن … وخارجه … لإمامنا ومرشدنا الهضيبي كان الغرض من تنظيمنا … هو التحصن … والتجمع … والترابط … دفاعًا عن وجود … خوفًا من الضياع … والتحلل .
وكان غرضهم داخل السجون … هو … هو … نفسه .
والحمد لله … فقد فشلوا في إطفاء نور الله .
ولن ينجحوا .
لقد بدأ عهد جديد … تفتح فيه أبواب ظنوا أنهم أحكموا إغلاقها بالمتاريس .
عهد الإحياء الثاني للجماعة .
النصر قادم وأنتم صانعوه .
شبابكم … هو المستقبل … يا بني .
- تعالي يا بني معي .
- إلي أين … يا أماه ؟
- نذهب لنبايع معًا … فضيلة المرشد … الإمام الجديد للجماعة .