ليالي كرداسة الحلقة السابعة المهندس أنور رياض

(10)

    في بهو الشقة الفاخرة … تقدم شاب … فارع الطول … أسمر الوجه… لين القسمات … رفع يده بالتحية … ومع دقة الكعب … غاص حذاؤه أكثر في نسيج السجادة العجمي .

  • تمام يا أفندم … الراقصة وصلت .

نظر مبتسمًا في ود وقال :

  • بمفردها ؟
  • لا يا فندم … معاها السندريللا .

استمر في ابتسامته … غمز بعينه :

  • فقط ؟
  • الثالثة … بعد إذن سيادتك – حاجة خاصة بي … ملاكي … من أجل الورد يسقون العُلَّيق .

ارتفعت ضحكته وهو يشير إلي الباب :

  • خذ الملاكي إلي الشقة المجاورة …

قبل أن ينصرف … استوقفه مناديًا :

  • فريد … لا تنس المرور علي الحراسة تحت … اطلب لهم عشاء من الكبابجي … مع الحلو والفاكهة … ابسطهم … أما أنت فهديتك عندي … زجاجة ويسكي واردة من باريس اليوم .

التحية – هذه المرة … هزت – في حماس مدفوع الثمن – أرضية الشقة … قال وهو ينسحب بظهره :

  • شكرًا يا فندم … نحن غرقي خيرك .

كان يجلس علي شلتة … موضوعة علي الأرض … يستند بظهره إلي أخري علي الحائط … كان يلبس جلبابًا فضفاضًا عندما اقتربت منه الراقصة وهي تدق الأرض بكعبها … وترفع يدها بالتحية مقلدة تحية فريد :

  • تمام … يا حلو .

رسم ابتسامة علي وجهه … لم تعجبها

  • الحلو … ما له … مهموم ؟؟ .. ولا يهمك … حالاً يبدأ الدلع والشخلعة … عندي الدوا … والشفا … هيا يا سندريللا جهزي القعدة .

بدأت السندريللا تصب كئوس الويسكي … ثم تمد يدها إلي ( الجوزة ) وتمسك قطع الفحم المشتعل بالملقاط … ترصها فوق الدخان المعسل … تدس بينها قطعة الحشيش … حتى إذا استقرت مكانها … بدأت تجذب الأنفاس فيزداد وهج الفحم … ويخرج الدخان الأزرق من فمها وأنفها …

عندما اطمأنت إلي انتظام عملية احتراق الحشيش … ناولت الجوزة إلي الراقصة … التي جذبت عدة أنفاس . تقدمت … في حركة لولبية … وهي تضع مدخل الجوزة في فمها :

  • اتفضل يا باشا … بالشفا … هئ … هئ … هئ .

الشغل بدأ تجردت من ملابسها … ثم أدارت أسطوانة اللحن الراقص … سحبته من يده فقام واقفًا … لفت قميصها حول وسطه وهي تغنج :

  • ارقص … هز … يا باشا .

دق جرس الباب … لم ينزعج … نظر بحدة ليري فريد أمامه وهو يقول :

  • لا مؤاخذة يا فندم … العميد سعد يقول أن الأمر هام . لم يكمل كلامه … فقد أزاحه القادم … ليظهر جدار آدمي داكن الوجه … غائر القسمات …

قال دون أن يهتم بما يراه :

  • يبدو أن هناك تطور خطير في قضية حسين توفيق .

خلع القميص الملتف حول وسطه … سكب كأسه وهو يدفع العميد سعد أمامه إلي غرفة جانبية .

بدأت الراقصة في ارتداء ملابسها .. وتلملم حالها وهي تقول :

  • وكسة … ليلة نكد … هيا يا بنت نبحث عن شقة أخري نكمل فيها الليلة .

جلس مسترخيًا … في مواجهة العميد سعد .

  • خير يا سعد ؟
  • حسين توفيق … اعترف بأنه كان يريد قتل الرئيس بعد أن واجهناه بالجنايني الذي بلغ عنه … والذي اشتري له الطبنجة .
  • الجنايني الذي- كان يعمل لدي فيلا الأسرة في المعادي ؟؟
  • مضبوط …
  • ابن الـ ( ….. ) هذا … ظن أن الزمن يمكن أن يرجع إلي الوراء … قتل أمين عثمان عميل الاستعمار الإنجليزي … قلنا وطني غيور … هرب من السجن … انبهرنا بشجاعته … ذهب إلي سوريا فتآمر علي رئيسها الشيشكلي … فتدخل الريس وأنقذه من حبل المشنقة … ثم ساعده علي الهرب ورجع إلي مصر … وقام بتعيينه موظفًا في شركة بترول مع دخل محترم … وبدلاً من أن يشكر ويمتن ويحفظ الجميل … يسارع بالغدر … وبعض اليد التي أكرمته … ويتآمر علي قتل الرئيس … ويتآمر علي الثورة … يزايد علي وطنية الرئيس … من يكون وطنيًا إذًا ؟؟ .
  • يا فندم … الثورة لن ترحم أعداءها … لقد رأي في السجن الحربي أنيابها .
  • طبعًا … اعترف علي أعوانه .
  • ولكن … حدثت مفاجأة .

أنفاس الحشيش طارت … جفونه نصف المنسدلة علي عينه … انفتحت علي آخرها …

استمر العميد سعد :

  • عندما استجوبنا المهندس سامي عبد القادر زميل حسين توفيق عما إذا كانت له صلة بالإخوان … قال أنه يعرف واحد اسمه يوسف القرش من سنفا … محافظة الدقهلية … وأنه رأي عنده قنابل .

أصبح جسده مشدودًا علي آخره … رجعت إلي وجهه قسماته الحادة قال :

  • هل قبضتم عليه ؟؟
  • الشرطة العسكرية بقيادة الرائد رياض في طريقها إلي هناك … وأنا هناك في انتظار اتصال منهم … خلال نصف ساعة .

نصف ساعة … وقت معقول يناسب استئناف القعدة في الصالة … لازالت النار مشتعلة في الجوزة … وزجاجة الويسكي مع الكئوس … وضع العميد سعد جهاز اللاسلكي أمامه … وشرعًا في ضرب الأنفاس … مع رشفات من الويسكي .

عند أول إشارة من الجهاز … فتح العميد صمام الصوت ويصيح في حماس :

  • نعم … يا رياض .
  • تمام يا فندم … وجدنا قنبلتين من النوع المستخدم في الجيش .
  • وهل قبضتم علي القرش ؟
  • لم نجده … قبضنا علي أخوه … وثلاثين شخصًا اشتبهنا فيهم … وأخذنا مراة القرش رهينة .
  • والمعلومات الأولية ؟
  • القنابل سرقها من وحدته صول اسمه عبد اللطيف شاهين … باعها أخوه … فلاح اسمه سالم ليوسف القرش نظير علية سجاير … أما يوسف القرش … فقد أخبرنا أخوه بأنه موجود عندكم في القاهرة لدي شخص اسمه حبيب عثمان … وقد اتصلت بالسرية كي يرسلوا قوة للقبض عليهم …

علق في غيظ :

  • ابن الـ … كااا لب … يبيع قنبلتين بعلبة سجاير ؟؟ .. اذهب يا سعد … جهز السهرة … في السجن الحربي .

نهض العميد سعد واقفًا … وانصرف .

حسب الأقدمية … العميد يرأس العقيد … ولكن …

في الواقع … والسيطرة … وحسب قاعدة … السلطان لمن غلب … ولمن سبق … وجلس علي الكرسي فالعقيدة شمس هو الرئيس … بحكم منصبه كمدير لمكتب المشير .

    قعدة الجوزة … ومؤانسة الكاس شيء … وأصول المهنة شيء آخر … الخلط بينهم غير مأمون العواقب … يا ولدي … فهو يعلم من هو العقيد شمس … وما أدراك ما العقيد شمس … شيطان … تسلل … وتسلق … ومارس جميع أنواع الاكروبات … وألعاب الهواء … والليل … ولَبدَ في الذرة … حتى أصبح المسئول الأول عن الأمن … حظ ؟؟ .. أحيانًا … فهم الفولة ؟؟ .. نعم … إخلاص ؟؟ .. لمن ؟ .. خدام .. وتابع ؟؟ .. كمرحلة … نعم … ودرجة صعود علي السلم ؟؟ .. نعم … ذكاء ؟؟ .. إذ كان الشر ذكاءً … ألف نعم …

    تعلم أن ينام مثل الذئب … وإحدى عينيه مفتوحة … صاعق في غدره … استطاع أن يتسلل إلي قلب وعقل المشير الذي يدير عمله بعقلية العمدة الجالس علي المصطبة ، ولديه كتيبة من الخدم والحشم … يغدق عليهم ويفك عليهم أزماتهم فيتفانون في خدمته … والولاء له … استطاع العقيد بدهاء الفلاح المنوفى أن يصبح هو الباب … وهو المفتاح … تخلص من جميع منافسيه في المكتب .

    وآخر مجموعة … لازالت رهن الاعتقال في السجن الحربي … والتهمة – المعتادة – هي … قلب نظام الحكم … السكة مفتوحة … والطريق سالك … هو … وهو وحده علي الحجر … يرجع إليه في شغل المناصب القيادية … ولا يتم الحصول علي منحة أو هبة إلا من خلال أصابعه … كان يدرك هوس عبد الناصر … بتأمين نفسه … فكان عليه أن يقدم كل فترة مؤامرة لقلب نظام الحكم … أو محاولة تمرد فردية … أو خبصية … أو فضيحة جنسية … بالصوت والصورة لواحد من الذي عليهم العين تصلح لابتزازه وتركيعه … والأدوات ؟ .. معروفة … نشر الجواسيس … وأجهزت التنصت … والتصوير … وتجنيد كتائب الراقصات … وخبيرات أهل الفن … ويدعم لك كله السجن الحربي المجهز بكل المعدات وأدوات إخراج مكنون الصدور … وكشف المستور … والعمدة هو الكرباج … السوداني … المنقوع في الزيت المغلي … الذي علي الجسد يهوي … وعلي الرأس … يدور

شيطان الجن .

    شيطان الجن … رجيم … إبليس … الملعون … شغلته … مهمته … تزويق الخطيئة … و … تزيين المعصية … فنان في تسويق معدات خراب النفوس … وتدمير الوجدان … وسبيله إلي ذلك هو التحريض … الإثارة … اللعب في الدماغ … نظام وسوسة … ورغم ذلك فليس له سلطان … ولا أيدي يمسك بهما الزبون ويدفعه … أو يقوده إلي كبيرة أو ذنب … وكل ما يملكه هو منظومة الغواية التي تخل بعملية الاختيار بين الهداية والضلال … لذا كان كيده ضعيف … يصرفه عن الإنسان … استعاذه بالله منه … وذكر … وتقرب من الله .

    شياطين الإنس … أي نعم … هم التلاميذ الذين هضموا منهج إبليس الأب … ومارسوه باحتراف … إلا أنهم يملكون معه القدرة علي اللعب في الأجساد … وتكسير الرءوس والأطراف … وشرب الدم … وإزهاق الأرواح … ومصادرة الكرامة … والتضييق علي  الأرزاق … وتشتيت الأعوان … وتمزيق الروابط … وسفح آدمية البشر … ومنع كل حق منحه الله له … وبلغ جبروت مستوي الاحتراف في الاستعانة بكل من تشوهت فطرته … وشاع نفاقه … واستأصلوا ضميره … وتضخمت غرائزه لتقوده إلي أسفل سافلين . هي ثورة … ليس علي حجرها كبير … شعار عبد الناصر المثل الأسفل … أكل أصحابه … ورفاقه واحدًا … واحدًا … وثورًا أبيض بعد ثور أسود … جمع حوله كل الصغار … أصحاب الطموح … وكل من يضع كل شيء تحت قدمه ليرتفع عليها درجة في السلم … رباهم علي الغدر … وضع القاعدة … أما أن تكون غادرًا … أو … مغدورًا به … قاتل … أو مقتول دهسًا تحت الأقدام … والصرم … أطلقهم في سباق وتنافس … وصراع … هو الفائز في كل الأحوال … أو … هكذا يتصور …

    النموذج المقالي … لواحد من شياطين الإنس … هو هذا العقيد .

    والنموذج الخاسر في هذه الحلبة … هو عبد الرحمن مخيون .

    الذي كان زميل سلاح لعبد الناصر في حرب فلسطين … انضم إلي ضباط الانقلاب … كانوا يعقدون الاجتماعات في بيته في مرحلة التجهيزات الأولي … يعني … صداقة … وثقة … ظل مديرًا لمكتبه إلي عام 1961 … تسع سنوات يحفظ أسراره … وينفذ رغباته … بلغت الثقة أن أرسله إلي أمريكا بجواز سفر سري باسم مستعار … في بعثة ليدرس أساليب المخابرات … الذي جهز له جواز السفر … زكريا محيي الدين … تسعة أشهر … لا يخرج من مبني المخابرات الأمريكية … إخلاص … تفاني … عندما عاد … يري … ويسمع … ثم تكلم … خانه ذكاؤه … فارتكب المحظورات الثلاثة … نسي قواعد اللعب … صار بيدي ملاحظاته الشخصية علي تصرفات عبد الناصر … اختل إدراكه عندما ظن أن السنين لم تفعل فعلها … وأن زميل السلاح صار رئيسًا للدولة … ومضيف جماعة الانقلاب ظل مكانه ضابطا .. موظفا عنده … مسافة لم يحسن قياسها .. وكان لابد من تصفيته … بدأ بإطلاق شلوت قذفه إلي مخازن الكهنة … وهي عقوبة لو قدرها حق قدرها … لاعتبرها هبة … ونعمة … قياسًا علي ما حدث لغيره … لم يتركوه … تابعوه … لاحقوه … فاكتشفوا أنه يضمر الانتقام … ثم … أصدر منشورات يفضح فيها تصرفات زميل الأمس … وطاغية اليوم … ولعبوا معه … لعبتهم المكررة … دسوا عليه ضابط مخابرات … و … اصطادوه … وفي السجن الحربي … لا تشفع صرخة … يا أمي ارحميني

    وكانت واحدة من التهم الموجهة إليه هي :

    الاتصال بمخابرات أجنبية والسفر بجواز سفر مزور .

                           (11)

    بعد انصراف العميد سعد … جلس العقيد … أشعل سيجارة … انتظر لحظات … غارقًا في التفكير . توجه إلي التليفون … طلب رقمًا .

  • أنا … أفندم … نظرية سيادتك عن الإخوان لا تنزل الأرض … معلومات المخابرات وردت من الخارج … يبدو أنها صحيحة …
  • ما هو الجديد ؟
  • السنارة غمزت يا فندم … لدينا طرف خيط … سنبلغ سيادتك أولاً … بأول … عندما تتضح الصورة .
  • هذا ما توقعته … وأخبرت به الرئيس … الداخلية ليست علي المستوي … والمباحث نايمة في العسل … رجالنا … هما حماة البلد .
  • يا فندم … الشرطة جهاز مدني … لا يعرف الضبط والربط … علاج البوظان … هو عزل الوزير الشورطجي … ويحل محله من رجال سيادتك … وزير من المخابرات .
  • شد حيلك … وخلص … عندئذ لن يصبح أمام الرئيس إلا التسليم .
  • أنا عندي تفاؤل جامد … وستسمع أخبارًا طيبة … قريبًا جدًا .

مكتب وزير الداخلية عبد العظيم فهمي

يدخل اللواء زهدي … يقول مندهشًا

  • خير يا باشا … حضرت فجأة من الإسكندرية .

أشار بيده في كدر :

  • أوامر المشير … يا سيدي .

زاد فضوله :

  • كان من المفروض حضور معاليك … غدًا بعد مغادرة الرئيس إلي جده … والاطمئنان علي إجراءات الأمن .

استمر وكأنه يحدث نفسه :

  • أنا متأكد أن شمس اتصل الآن بالرئيس … وقال له أن وزير الداخلية ترك الإسكندرية … وقال له أن وزير الداخلية ترك الإسكندرية … وهي زاخرة بخلايا الإخوان المسلمين المتربصين لاغتيالك … والقضاء علي النظام … وحضر إلي القاهرة لغرض غامض .
  • التشكيك في كفاءة الشرطة … وولاءك .
  • هذا هو هدفهم .
  • ولكن لماذا طلب منك المشير العودة ؟
  • قال أن القاهرة كادت تقع في يد انقلاب ينظمه الإخوان المسلمون … والمخابرات أنقذت أعناقنا بأعجوبة من الشنق … وأنت ووزارة داخليتك نائمون في العسل .
  • وهل تقبل هذا الكلام ؟؟

قال في ثقة مهزوزة :

  • قلت له سيادتك تشير إلي تقارير ثبت أنها غير صحيحة … ولا توجد مؤامرة إخوانية … ولا حاجة … وأنا مسئول .

رد في غيظ :

  • وكمان بتكذب تقارير المخابرات … علي كل حال … تأخذ الطائرة إلي القاهرة الآن … ولنا بعد ذلك كلام .

قال زهدي :

  • هل كان يقصد التقارير التي جاءتهم من أمريكا وروسيا عن كتابات سيد قطب … وأخوه محمد … في مواضيع الجاهلية … والحاكمية … والكلام الفاضي المعروف لدينا ؟
  • نعم … ولكن كالعادة … الموساد هو الذي وراء مخابرات أمريكا … وروسيا يعملون من الحبة قبة … ويبدو أنهم صوروا البلد وكأنها في حالة ضياع … خاصة مع مشاكل حرب اليمن … وموقفنا الضعيف … مما دفع الرئيس للتنازل بالذهاب إلي الملك فيصل … الذي وصفه في إحدى خطبه بأنه ( …. ) السعودية … طبعًا الوضع الداخلي … نحن أدري به .
  • ولكن ليست هذه هي المرة الأولي لمثل هذه التقارير المضروبة … كان الريس يسألنا عنها … ويأخذ برأينا ولا يعيرها التفافًا .
  • يبدو لي . أنه قد يجدها فرصة … لأن يلعب بورقة الإخوان … الخروج من مأزقه الخارجي … والداخلي .

مضت فترة صمت طويلة … قطعها زهدي :

  • وما العمل … يا باشا ؟

لا يوجد سوي حل واحد .

  • ما العمل ؟ .. العمل أن نسير مع التيار … افتح القلعة … وأبو زعبل ولنضرب ضربات استكشافية … هه … لعل … وعسي

                           (12)

    حفلات الاستقبال في السجن الحربي … عرض مستمر … بابه مفتوح دائمًا … كلما ألقي فيه فوج … طلب المزيد … الرئيس لا يشعر بالاطمئنان … إذا خلا من زواره … وكأنه فندقًا يدر عليه دخلاً … الرئيس يركبه هاجس الثورة المضادة … ولا يفارقه أنه يومًا تآمر … ودبر … وتخفي … وتسلل … وبات يحلم ويجمع ويطرح … وِسْواس … لا يفارقه خوفًا بمن يتربص به … لم يتوقف لحظة عن تصفية من حوله … وضرب كل من شك فيه … دائمًا … وأبدًا … شعاره … الغداء به … قبل أن يتعشى بك … طابور طويل من الأعداء … والعداء … هل من المعقول ألا يدبر أحدهم مكيدة … أو حتى محاولة لأخذ بثأره .

    كل حين يتصل به شمس … ليبشره … بالعمار … وبعدد النزلاء … حتى أصبح شغله الشاغل … ولعبته التي أجادها … هو … إشباع قلقه … بالمزيد من القلق … حتى أصبح شمس هو المورد الوحيد لزبائن السجن الحربي … والسمسار المعتمد . وهو سعيد بالثقة … من القطبين … يلعب علي الحبلين … في ثبات … رجل المشير … نعم … لا يخفي ذلك … وما المشير إلا التائب … والرئيس … هو الرأس … حقق المعادلة … وجمع بين الصعبين …

    أصبح رجل المهمات … أسندوا له عملية تصفية بقايا الإقطاع … فسارت الركبان … بما فعله مع عائلة الفقى … وإعلانه قرية كمشيش … أرضًا مغلقة مستباحة لجنوده … فأطلقهم تتارًا يكتسحون الأخضر واليابس فاكتسب إلي خبراته … ما جعله أهلاً للتعامل مع الأمن المدني . وكانت قضية حسين توفيق … هي البداية … لفتح جديد .

    أهل سنفا … قذفوا بهم إلي السجن الحربي … في فترة – كان يمر فيها بحالة نادرة من الركود … العساكر في وضع استرخاء … قضية حسين توفيق … لم تأخذ من وقتهم الكثير … كرباج والثاني … صفعتين … وركلتين … و … كان الاعتراف … ودارت العجلة … عندما شاهدوا الجلاليب … تهل … وقطيع الفلاحين … وسمعوا اسم الإخوان … أدرك الزبانية أن أيام الشغل قد هب ريحها … وليالي النوم والكسل … قد ولت … وانتهت … و … أعلنوا حالة الاستنفار .

    بدأت المحرقة

    صوت يوسف القرش – سيء الحظ – أول ما تعرض لعاصفة الكرابيج التي اشتاقت إلي الدم .

  • يا رب … يا … رب .

يجاوبه صوت حبيب …

  • يا الله … يا الله .

وصراخ ثلاثون فلاحًا أخذوهم من الدار … إلي النار … يدورون في هلع … ورعب في دائرة أحكم حلقتها حاملو الكرابيج … يحرثون أجسادهم بشفراتها فيشقونها خطوطًا ينبع منها الدم .

قال العميد سعد :

  • تكلم يا قرش … أنت من الإخوان … ليس لديك فرصة للإنكار … من هم أعضاء أسرتك … وماذا كنت ستفعل بالقنابل ؟
  • إخوان ؟ .. أنا تركت الإخوان من زمان .

الضرب لم يتوقف … والحفل ساهر …

والإنكار صامد .

حضر شمس … قال في حسم :

  • ليس لدينا وقت … أحضروا زوجة القرش .

نادي ثور آدمي أسود الخلق … و … الخلق … وصار محرضًا :

  • أمام زوجها … أفعل فيها الفاحشة .

المتكلم هذه المرة هو حبيب … انهار … خارت قواه …

  • اتركوها … اتركوها … سأتكلم .

اعترف علي نقيب أسرته … مصطفي الخضيرى .

مكتب وزير الداخلية … في المقابل يجلس اللواء زهدي . الوزير يطلب تعليق مكالمات التليفون … يلتفت :

  • الريس اتصل بي من موسكو … يسأل عما لدي عن الإخوان … التقارير وصلته عن وجود تنظيم لهم … وطلب مني مساعدة المباحث والشرطة العسكرية .

ظل ساكنًا … استطرد الوزير في قلق :

  • يبدو أنهم اكتشفوا شيئًا … وأقنعوه بنقل ملف الإخوان إليهم .

قال زهدي … وقد أخذته المفاجأة :

  • يا فندم … أنا لا أصدق هذا الكلام … قد يكونوا قد اكتشفوا محاولة … أو حتى تجمعًا … هنا … أو هناك … يقرأون ( شوية ) قرآن … وكم حديث … ولكن الكلام الكبير عن تنظيم يهدد أمن البلد … فهذا كلام منفوخ فيه … لغرض في نفس أبو قردان … خاصة لوضعناه في إطار الصراع للسيطرة علي أجهزة الأمن … بين الريس … والمشير … سيادتك تذكر أن الريس أراد التخلص من المشير عقب انفصال سوريا … محملاً إياه مسئولية الفشل هناك … ولكن المشير عاد بما يشبه الانقلاب … وبسلطات أكبر … و …

قاطعه :

  • هذا موقف قديم … و … انتهي .
  • لا يا فندم … لم ينتهي … المشير أدري بصديقه … والحاشية حوله لا تأمن للريس أبدًا … بعضهم يلعب علي الحبلين … ولكنهم في الأول والنهاية … مصلحتهم مع المشير … لسبب بسيط … أنهم متأكدون من أنه – ليس من صفاته – الغدر برجاله … سيادتك نسيت … ظروف عودتك آخر مرة من إسكندرية .

قال مؤمنًا :

  • ليس هناك … أفضل من ورقة الإخوان … يلعب بها الجميع … الريس … قبل المشير .

استمر زهدي في تأكيد :

  • يا فندم الجماعة انتهت فعليًا … في ضربة 54 … سيادتك كنت محققًا في السجن الحربي … وكنا معك … المحاولات التي تمت بعد ذلك في مارس 1955 … كان تنظيمًا ماليًا … وتم تصفيته … وآخر مجموعة في يوليو 1955 كانوا مجموعة من العيال الطلبة … ولو كانت الظروف عادية … لكنا اكتفينا بعملية التأديب التي تمت … بدلاً من تقديمهم للمحاكمة … ومنذ ذلك الحين … لا حس … ولا خبر … متابعتنا مستمرة …
  • الوضع اختلف الآن … هناك أعداد كبيرة تم الإفراج عنهم .
  • يا فندم … هم أيضًا تحت نظرنا … وملاحقاتنا .
  • طيب ما هي أخبار القلعة … و … أبي زعبل ؟
  • قبضنا علي مجموعات … خاصة ممن قضوا مدة السجن بالكامل خمس سنوات وعشر سنوات … وكانوا يرفضون التأييد … و … اشتغلنا معهم … ولكن … النتائج سلبية .
  • أخشي أن يكون الضباط يعملون بلا حماس .
  • فعلاً يا فندم … البعض فقط … لأن متابعتهم الميدانية تقول أنه لا يوجد نشاط يهدد … وأن الحكاية كلها مفبركة لوضعهم تحت وصايا رجال المشير … وإهدار جهدهم … وكفاءتهم … خاصة بعد أن رأوا العقيد شمس … يزور القلعة … ويتدخل في التحقيق .
  • أنا لا أحب أن أسمع هذا الكلام … لابد من أن نؤدي واجبنا بصرف النظر عن أي شيء .
  • أنا موافق سيادتك … ولكن وجدت من واجبي أن أذكره لسيادتك … وأيضًا … وأنا لن أترك أي تقصير بدون حساب .
  • أريد تقارير كل ساعة عن الوضع … وأرجو أن يركز الضباط … علي أفكار سيد قطب … لأنها محور التقارير الواردة من الخارج .
  • نحن قبضنا علي محمد قطب … وسنقبض علي سيد أيضًا … حتى يرتاح الجميع منهم … تذكر سيادتك أنني اعترضت علي الإفراج عنه .

دخل مدير المكتب … مستأذنًا :

  • سكرتارية رئاسة الجمهورية علي التليفون … يا فندم .

رفع الوزير السماعة … كان وجهه يتلون مع ما يسمعه … وضع السماعة … في يأس … وقال … :

  • انتهي الأمر يا زهدي … الأوامر … اعتقال جميع الإخوان الليلة … الرئيس سيعلن ذلك من موسكو بعد إتمام العملية … أوامر لكل الفروع … إعلان الطواريء … استدعاء الإجازات … ترتيب القوات … والسيارات … استعينوا بالسيارات الأجرة وجهزوا الأقسام .

أدرك زهدي … أن أيامه هو والوزير أصبحت معدودة … لا … بل أن المصير قد يتحرك خلال ساعات … وربما لا يكمل فنجان قهوته في مكتبه . انفرط لسانه … فلم يكن هناك ما يدعو إلي الحذر .

قال :

  • أكثر من خمسين ألف … في ليلة واحدة … ما هذه الهستريا … ولماذا الإعلان من روسيا ؟

أضاف ساخرًا :

  • لعل السبب … هو أن جيوش الإخوان … ودباباتهم تتقدم … نحو القاهرة .

                           (13)

    أخبار الاعتقالات تتواتر …

    بعد محمد قطب … وتفتيش عشته في رأس البر … ومنزله في حلوان …

  • وحتى يبث الطمأنينة في نفوس أعضاء التنظيم … ويهديء من روعهم … قام الأستاذ سيد قطب إرسال احتجاج إلي إدارة المباحث … حملها ابن أخته إلي الضابط أحمد راسخ … الجو كان مختلفًا ومتوترًا بين رجال الداخلية … فكان من الطبيعة ألا يهتموا بها … بل … واعتقلوا الأستاذ سيد نفسه .

زارها الشيخ عبد الفتاح … وطلب من الحاجة زينب أن تتصل بالمرشد الموجود في الإسكندرية … فأرسل السيدة حرمه إلي القاهرة لتكون حلقة وصل بينهما … كما رتب الأخ مرسي مصطفي مرسي لينقل الأخبار بينه وبينها .

الشيخ عبد الفتاح نفسه اتصلوا به من البلد … وأخبروه بأنهم يبحثون عنه … وقد أخذوا أخاه رهينة … ولكنه لم يعلم بأنهم انتزعوا من علي عنوان الشيخ عبد الفتاح فايد … خطيب بنت الشيخ محمد عبد المقصود … الذي يسكن في المطرية … كواحد من الأماكن الذي يتردد عليها .

عندما اقتربت القوة المهاجمة من المنزل … كانت الألوان تتلألأ … والمعازيم … والإنس … فقد كانت ليلة زفاف العريس … الكرسي في الكلوب … أخذوه … مع نسيبه … إلي السجن الحربي … ليتم الزفاف الكبير … وتصبح الدخلة ليلة من ليالي العمر … التي لا يمكن نسيانها .

الشيخ فايد … العريس … كان هو الوليمة التالية لوحوش السجن الحربي … وبجوار صهره العجوز … لا يسمعان سوي أمر واحد

  • تكلم .
  • ثم سيل من السباب … مفتوح لا ينقطع … ينبع من أفواه المجاري … الشيخ العجوز … سقط من أول حذاء ميري يضرب ظهره … ثم تناولته الأرجل رفسًا … بينهم . أما الشيخ فايد … فبعد ساعة واحدة … كان جسده ورجليه ينزفان دمًا … تشقق الجلد … وتهتك اللحم شظايا علي أطراف الكرابيج أما الوجه … فلا أنف … ولا شفتين … ولا وجنات … ولا خطوط فاصلة … وإنما صار قطعة واحدة … منتفخة حتى العينين … طمسهما الورم و …

انكسر الصمود .

اعترف علي المجموعة التي كانت معه في مصيف رأس البر .

قبضوا علي محمود فخري … وبعد الاستقبال … والشاي … والقهوة … واسم أمك … واختر لنفسك اسم امرأة … والترحيب الحار … أرادوا اختصار الطريق … أحضروا له الشيخ فايد … محمولاً في بطانية … وقد تجلط الدم سوادًا في كل أنحاء جسده … تعرف علي وجهه بصعوبة … في لحظة … اختل فيها اتزانه … لقد قبضوا عليه باعتراف … وكان عليه أن يكون واحدًا من الحلقات … أو …

أسقط في يده … لا داعي لـ … أو … اعترف علي معسكر بلطيم … محمد عواد … وشقة مرسي مصطفي في إمبابة و … و … وبدأ الخيط … يكر .  

سمع محمد عواد طرقًا خفيفًا علي باب شقته … نظر من ثقب الباب ليجد مصطفي الخضيرى أمامه …

في شيء من الاضطراب قال :

  • اعتقلوا حبيب عثمان … مع يوسف القرش … ويبدو أن هناك اعترفات أخري … لأن الاعتقالات شغالة

سحبه عواد إلي داخل الشقة … قال :

  • سأجهز لك كوبًا من العصير … حتى تسترد أنفاسك … الحر شديد .

أمسك بذراعه يستوقفه :

  • أجلس … الوقت ضيق … لابد أن ندبر مكانًا نختفي فيه .
  • لا تشغل بالك بي … فنحن منذ أن دخلنا الدعوة … ونحن نعلم أن السجن هو مصير متوقع … وهو خلوة إلي الله .
  • يا أخ محمد … ولا تلقوا بأيديكم إلي التهلكة .
  • وهل نحن الذين سعينا … إلي التهلكة … إنما نحن في جهد صعب لكي نحافظ علي ديننا أمام هذا الطاغوت … ولا نريد منهم إلا حرية الدعوة إلي الله .

انقطع الحوار فجأة عندما سمعا هدير سيارات تقتحم الشارع وتتوقف فجأة … أطل عواد فرأي الشرطة العسكرية تنتشر … ووقف أحد الضباط أمام البقال … فيما يبدو ليستدل علي العنوان … أدرك أنه المقصود …

قال لحبيب :

  • سأشغلهم عنك … اهرب بسرعة … أنت أهم مني للجماعة .

قال عبارته … وهو يجري نحو الباب … واندفع إلي السلالم يطويها قفزًا … ومنها إلي الشارع .

صاح الضابط إلي الجنود : أمسكوه .

في لحظات كان مقيدًا … دفعوه داخل إحدى السيارات المندفعة إلي … المصير المحتوم .

بجوار العقيد شمس … كان يجلس اللواء حمزة البسيوني … والرائد حسن كفافي … والرائد رياض إبراهيم … وقف علي الباب … صفوت الروبي .

  • تمام يا فندم … محمد عواد .

 قال ذلك … وهو يدفعه من ظهره … وقع … منكفئًا علي وجهه تحت أقدامهم وضع حمزة البسيوني قدمه علي صدغه وأذنيه … وهو يضغط بكل ثقل جسده نظر إليه العقيد وقال : أهلاً .

تحول إلي الصول صفوت … وقال في لوم متفق عليه :

  • يا صفوت … التعليمات هي حضور المعتقل زاحفًا … أنا شايف أنه لا زال يتنفس نظر إلي عواد … وقال فجأة :
  • ما اسم أمك … يا ولد ؟

محمد عواد المدرس … والشاعر … يعرف الكثير من قصص السجن الحربي التي أصبحت جزءً من أدبيات الإخوات … السؤال لم يكن مفاجئًا … بل أن الموقف كله يتكرر … تمامًا … مثلما كان يتخيله .

رد في ثبات …

  • اسم أمي ليس عورة … وهي أم … مثل أمك التي ولدتك .
  • يا … ابن الكاااالب .

خرجت من أفواه الأربعة في نفس الوقت … تعليق جديد … ولا شك … لم يسمعوه من أحد المعتقلين … قبل هذا … إلا أن رد فعل صفوت الروبي … كان سريعًا … سحبه من قفاه … ومن حوله طقم الزبانية وقد استفزهم ثورة قائدهم … الهدف أصبح هو الانتقام

تمزقت ثيابه … أصبح الضرب علي اللحم … بعد أن تشققت طبقة الجلد … كلما شق الكرباج خطا تبعه الآخر بشق آخر أكبر … في نفس الموضع … وعندما تهوي الكرابيج بعد ذلك لا تجد سوي اللحم … فتمزقه قطعًا … تطير حوله ملوثة الدم … أهكذا الألم … كما كنت تتخيله ؟؟ .. وهل كانوا يحتملون هذا العذاب … كما تحتمله الآن … هل صبروا … وثبتوا …؟؟ كم مضي عليك يا عواد ؟ .. دقائق ؟؟ .. ساعات ؟؟ .. ليس للزمن قيمة … مادام العذاب بلا توقف .

  • مع من أنت الآن يا عواد ؟
  • أنا مع الرعيل الأول من الصحابة .
  • أين أنت يا محمد ؟
  • أنا في بطحاء مكة … وهذه الصحاري من حولي .
  • ولكنها تضاء بالكهرباء .
  • وهل هناك فرق … بين الحق والباطل .

هذا هو أبو جهل … وأمية بن خلف … وهؤلاء عبيدهم ولكن في لباس آخر

  • وماذا يستخدمون في تعذيبك يا عواد ؟؟
  • لا يهم … العذاب واحد … الألم هو الألم .
  • وكيف تتحمل هذه الآلام … وقد تجاوزت طاقة البشر ؟؟
  • أي ألم … أنها مثل شك الدبوس … أنا مع الله … أنا في الحضرة الإلهية … قريب … قريب … هل ترون ما أري … أنه العون الرباني … طاقة كلها نور تملأ كياني … هاتف يملأ أذني .

يا نار كوني بردًا … وسلامًا … علي إبراهيم … ( أبينا ) إبراهيم … جدنا … ليس لهم إلا هذا الهيكل … جسدي … فليفعلوا به ما شاءوا .

  • يا كفرة … يا كفار القرن العشرين … لن تنالوا مني .

بلغ الجنون مداه … زاد الضرب سعارًا … زاد تطاير اللحم … جمعه صفوت في كفه … حشا به فمه وهو يصرخ :

  • اخرس … يا ابن الكلب .

أغمي عليه … فقد الوعي .

سحبه صفوت … ألقاه في فسقية الماء … ركب فوق العسكري ( خروشوف ) … وظل يضغط رأسه داخل الماء …

خرج العقيد من مكتبه … سأل :

  • هل قطع النفس ؟

قال صفوت :

  • لا يافندم … مغمي عليه فقط .
  • خلاص … نكمل الليلة القادمة .

وضعه العساكر في بطانية … ساروا به إلي السجن … فتحوا الزنزانة … ثم ألقوه علي أرضها … و … أغلقوا باب الجب .

كم مضي عليه … الوقت هنا … لا قيمة له … الحياة نفسها … مهددة … وهي الوقت … ماذا كان يقول الشاعر يا محمد … إن الحياة دقائق … وثوان … وهي هنا كرابيج … وتحقير … وشتائم .

مع الإفاقة تحركت السكاكين المغروسة في لحمه المشرح … لهيب النار يشتعل عندما حاول الجلوس … مجرد الحركة … مد يده أو رجله … أو حتى إصبعه … ظن أن الضرب كان علي جسده فقط … وإنما طال إحدى عينيه طرف كرباج فتورمت … وانسدت تمامًا …

عجيب … إنه لم يكن يشعر بمثل هذا العذاب … عندما كانت الكرابيج تلهب جسده … أدرك أن ألم الجراح بعد الضرب تكون أشد وأبكي … بل هي العذاب الحقيقي … هيه … يا عواد … هذا هو السجن الحربي الذي حدثوك عنه … ورسمه خيالك … نفس الصورة … وإن اختلفت الوجوه التي تعاقبت عليه … وجه واحد قبيح … ظل كما هو … وجه الطاغية … أصل البلاء … وأساس النكبة … وآخر تابع له … لا … بل هو ديل الكلب … هو حمزة البسيوني … عدو الله … هه يا عواد … أنت تخوض التجربة … جسدًَا … وإحساسًا … وروحًا … الروح تحلق في عنان السماء … رغم أن الجسد منقوع في حمض ماء النار ماذا كنت تتمني يا عواد ؟

هل تذكر الحوار الذي دار يومًا مع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل … عندما قال لك

  • لا تبتئس يا بن عواد ؟ .. فقد يمكن الله للمسلمين بنصره … وعندئذ ستصبح واحدًا من قادتهم

وكان ردك :

  • لم أبايع علي هذا الشيخ … وإنما بايعت علي أن أرمي برصاصة هنا … في رقبتي .

بايعت علي الشهادة … وحددت طريقها … طلقة من بندقية … موت سريع … ولكنك الآن … لا ميت … ولا حي … برزخ دنيوي … في … مقبرة السجن الحربي … آه … آه … صرخ صامتًا … عندما تحرك إصبعه … ماذا كنت تقول شعرًا يا عواد … ألم تنظم القصيد يتغنى به إخوانك … وينشر في المجلات … هل تذكر

         هتـف الشـهـيد بـعـزة وبـسـالـة                                   سـأخـوض أوراد الـردى مـتـقـدمـًا

         سـأزود عـن صـرح الكتـاب بـعزة                                   باسـم الإلـه أصـول لا باسـم الـحمـى

         وإذا الشـهـيد مـضـرج بـدمـائـه                                   لـمـح الخـلـود بقـلبـه فتـبـسـمــا

هذا شعر لفارس بن حرب … يواجه جيشًا في معركة حربية … يصول … ويجول … أنت الآن أعزل … لا حول … ولا قوة … بين أنياب شياطين لا تعرف الرحمة … إجرام حيواني يفتك بك … هل تستطيع الآن أن تنظم شعرًا … لا … لا … ليس هذا مقام الشعر … هذا مقام الذكر … فليكن ما يكون … قدر … و … نفذ … ملحمة كتبوها علينا … لا … لست أعزلاً … رغم العذاب … رغم اللهيب … رغم الألم … رغم الجسد الذي تفحم … فإن الروح … صامدة … صابرة … وبحول الله … وقوته … مدد … مدد … مدد يا الله … ما أحلي اسمك … يا كبير … يا كبير … ما أروع ذكرك … كلهم أقزام … ورب الكعبة … كلهم … كلهم … أقزام .

انفتح باب الزنزانة … اكتسح ضوء النهار عتمتها …

صاح العسكري … وهو يهجم عليه بالكرباج .

  • قف يا بن الـ … قف يا ولد … عظم … ارفع يدك بالتحية .

لم يتحرك … انتفض جسده مع لسع الكرباج … تقدم منه عسكري آخر يحمل في يده جردل … ومعه فرشاة …

  • اخلع قميصك .

القميص تمزق … التصقت بقاياه بجراحه … وجفت وتصلبت … حاول الوقوف … يا الله … ما هذا الوجع … يا معين … أعني … يا قوي … أخيرًا وقف يترنح … بدأ العسكري الممرض عمله بلا بنج … خلص شرائط القماش من اللحم … خرجت مع قطع من جلده ولحمه … لتترك وراءها دماء تنزف … الصمود يا عواد … الصبر ليس لك إلا الصبر … علي طريقة النقاشين كان العسكري الممرض يقوم بغمس الفرشة في الجردل … ثم يطلي جسده بالمطهر … و … خرج .

أغلقوا الباب … عاد الظلام … مع الظلم … ووحدته … هل هذا ما كنت تتصوره يا عواد … عن الخلوة مع الله … الواقع … نعم مختلف … أما الخلوة … لا … هي حقيقة … نعم حقيقة … النور الرباني يضئ ظلمتي … رضيت يا ربي بقضائك … و … تقر عيني بمشيئتك … ويقنع عقلي بحكمتك … إن لم يكن بك علي غضب … فلا أبالي … ما أطيب الذكر … أرطب به لساني . في سكون العتمة … كان لسانه يتحرك بما يحفظ من كتاب الله … للآيات طعم آخر … القرآن يتحرك … ينبض بالحياة … حياة تعرض له صبر الأنبياء … وابتلاء المرسلين … وإصرارهم … ثباتهم … وضوح الرؤية … والغاية .

مر الوقت … يتلو … ثم يغفو … يذكر … تأخذه سنة من نوم … يفيق منها علي أسياخ الألم مغروسة في لحمه … ترده إلي الواقع … نوم أشبه بالإغماء … إفاقة هي التوهان أخيرًا … فتحوا الباب … لا … لم يفتحوه … اقتحموه … وبالكرابيج .

  • اجري … يا ولد … اجري يا بن الـ … اجري .

ترنح واقفًا … أين قدميه … بل أين بصره … كل شيء أمامه يتراقص … المصابيح في حالة كسوف جزئي … الضوء في فناء السجن … ضوء حزين … ذهب عنه الوهج … فبهت … أصبح يميل إلي الاحمرار وكأن لون الدم … أو كأنه ينزف أشعة من دم … أشباح العساكر تتحرك في الأنحاء لا يدل عليها إلا فرقعة الكرابيج تهوي علي الظهور … مع أصوات الاستغاثة … هنا … وهناك ، تصدر حوله … صداها موحش .

دفعوه خارجًا فتهاوى علي الأرض … جذبه أحدهم ليقف … أحس بقبضته تعصر عنقه … فشلت المحاولة و … أخيرًا جروه فوق رمال الطريق … زحفًا … والكرابيج لا تتوقف … تنهش فيما تبقي من جسده … حتى وصل إلي ساحة التعذيب الرئيسية … أمام المكاتب … أسندوه واقفًا … قابله الضابط كفافي … صاح في العساكر .

  • اتركوه … أليس عندكم رحمة … هات الليمون المثلج يا عسكري .

وضع يده علي كتفه … انتفض جسده … عندما لمس جراحه .

  • يا عواد … أعقل … ودع نشوفية الدماغ … لا مكان للرحمة هنا … تكلم … لعبة … قديمة … مكشوفة … يا كفافي … خرج الكلام ممزقًا .
  • ليس عندي ما أقوله .
  • الجميع اعترفوا عليك … الإنكار لا يفيد .
  • –          …………..
  • ليس هذا وقت البطولة … تكلم .

ليتك تفهم أيها المغرور … نحن لا نسعى إلي بطولة … أو تسجيل مواقف … أنه الإيمان … ومواجهة الطغيان … أنه الصبر … طاقة وسعها الله علي … فلم لا أصمد … يا رب زدنى احتمالاً … وطاقة … ماذا قالوا لفرعون … وهو يصلبهم في جذوع النخل … ( قَالُواْ لَن نُؤْثِرَكَ عَلَي مَا جَاءَنَا مِنَ الَبيِنَاتِ وَالَذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَاَ أَنتَ قَاضٍ إِنَمَا تَقْضيِ هَذِهِ الَحَيَاةَ الَدُنَيَا ) … لكم الدنيا … أيها الكلاب … اقضوا فيها ما شئتم .

  • …. ……….
  • تكلم يا عواد … التنظيم يا عواد … ماذا كنتم تفعلون في معسكر بلطيم … ومن كان معك …

قال في إصرار … لا … لم يكن قولاً … وإنما كان ترتيلاً :

  • ( إِنّيِ نَذَرْتُ لِلرَّحَمنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلّمِ الَيّوْمَ إِنسِيّاً )  .

أدار له الضابط ظهره … الإشارة واضحة … انقضوا عليه … أصبح الضرب غلاًَّ … وهمجيًا … أثارهم إصراره علي الصمت … جن جنون صفوت الروبي … لم يخلق بعد من يرفض الكلام هنا … جسده أصبح مفتوحًا … مستباحًا … في أي مكان … وعلي أي عضو .

  • أين أنت الآن يا عودة ؟

كنت بالأمس في رمضاء مكة … ولكنك اليوم مع أصحاب الأخدود … يضعون المناشير في رءوسهم … ويشقونها … فلا يصرفهم عن دينهم … تمنين الموت برصاصة من بندقية … ويريد الله لك أن تموت … صبرًا … وتعذيبًا … لا اعتراض يا ربي …والرضا بقضائك … والصبر … صبر ساعة … ساعة واحدة … وتنال ما كنت ترجوه … لا فرق بين الرصاصة … والكرباج … كلاهما … أداة للقتل … وكلاهما يؤدي إلي جنة الخلد … مع محمد … وصحبه – مع البنا … وعبد القادر عودة وفرغلي … والطيب … ويوسف طلعت .

أغمي عليه … دفعه صفوت الروبي … وألقي به في الفسقية … وفوقه الثور الهائج العسكري خروشوف يدفن رأسه في الماء … تجلي الشيطان في ثياب الصول صفوت … ركل العسكري ليبعده … هذا العسكري أحقي من أن ينال هذا المجد … أمسك برأس ( الشهيد ) عواد يدقه في الحائط … إلي أن صعدت النفس المطمئنة إلي بارئها …

  • خلاص … يا فندم .

لم يرد الضابط كفافي … استدار ودخل المكتب … إنهم يعرفون ما يجب عليهم فعله … فقد فعلوه مرارًا .

جلس يشرب الليمون المثلج … رشفة … رشفة .

أيها المواطنون … ارفعوا رءوسكم … فقد مضي عهد الاستعمار ، أيها المواطنون … الأحرار ، أيها المواطنون … القومية العربية … حرية … وحدة … اشتراكية .

أيها المواطنون … ثورتنا … بيضاء .

… بيضاء … بلون الدم .

عن adminis

شاهد أيضاً

رواية (العنكبوت)

الاخ جمال شعيرات ـ صاحب رواية (العنكبوت) ورواية( سطوة الفرار) الرواية التي تندرج في إطار …

رواية القوقعة -الحلقة الخامسة مصطفى خليفة

يرد عليه الرقيب الأعوج : – تسقط … تسقط .. تسقط . – يعيش الرئيس المفدى …

رواية القوقعة -الحلقة الرابعة مصطفى خليفة

29أيلول استيقظت في الصباح الباكر على أنين رجل يتألم بشدة. كان يضع يده على بطنه …

رواية القوقعة -الحلقة الثالثة مصطفى خليفة

22 شباط فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا …

رواية القوقعة -الحلقة الثانية مصطفى خليفة

16 تشرين الثاني منذ الصباح يعم ضجيج مكبرات الصوت. أرجاء السجن وما حوله تبث الأناشيد …

رواية القوقعة الحلقة الأولى مصطفى خليفة

يوميات متلصص إنها قصة الفتية الأبرار في سجون الطغيان، يكتبها سجين عاش معهم المأساة. ولعل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *