مذكرات سجنية
إهداء
إلى الذين (صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر. وما بدلوا تبديلاً).
شكر وعرفان
“من لم يشكر الناس لم يشكر الله”
أقدم شكري لكل من كان له دور في إخراج هذا السجل إلى الوجود، مَنْ حرّضني على الكتابة، ومن شجّعني، ومن تحمّل جهود الطباعة والإخراج… وأخص بالذكر الأخوين الأستاذين الأديبين الناقدين: محمد الحسناوي وعبد الله الطنطاوي، فقد كان لتشجيعهما، وتوجيههما، ومراجعتهما اللغوية أطيب الأثر.
محمد عادل فارس
تقديم
الأديب الناقد الأستاذ محمد الحسناوي
الأولــى في أدب السجون .. سورية
بقلم : محمد الحسناوي
( أدب لم يزل تحت الأرض ، ولم يخرج بعد إلى النور ،وهــــو
أدب السجون . هذا الأدب لم يزل أبطاله في الغياهب المختلفة
ويتوقع أن يكون له شأن لو قيّض له من يجاهدون في سبيل
جمعه وتدوينه . .. ولو كنتم تعلمون مقدار الخسارة ، التـــي
سيمنى بها الأدب الإسلامي خاصة ، والفكر الإسلامي عامة ،
لضياع أدب السجون ، لقاتلتم بأظفاركم وأسنانكم للحصـــــول
عليه أو على بعضه. فليحرص كلّ كاتب على البحث عنــــــــه
والوصول إلى مظانه ، والحصول عليه ، وتوثيقه . فهــــــــذا
الأدب هو الوثيقة الحقيقية الوحيدة الباقية للتاريخ ، من حياة
هذا التاريخ .
محب الدين داوود – موقع رابطة أدباء الشـــــــــام –
كلمة الافتتاحيــــــــــــــــــــــــة )
( سيرشحنا المستقبل كأصحاب أكبر تراث عالمــــــي في أدب
السجون .
فرج بيرقدار – مقابلة مع عادل محمود – موقع الرأي )
لعل القطر السوري يحوز قصب السبق في ميدان (أدب السجون )(1) فلا تكاد تنجو من هذا الشرف / العار أسرة سورية ـ بفضل أربعين عاماً من حكم الطواريء ومحكمة أمن الدولة الاستثنائية وزوار الليل الأشاوس والغيلان المتناسلة على رأس أربعة عشر جهازاً قمعياً سوفياتياً نازياً وحكومات تأكل المواطنين ، ثم يأكل بعضها بعضاً ، كما تأكل الهرة أولادها .
يشرفني ويسعدني في الوقت نفسه أن أخط كلمات في التقديم لأول إنتاج مهندس سوري حلبي من حيّ المشارقة ، تربى في (سجون الرأي) السورية ، بعد أن نذر نفسه في سبيل الله لخدمة الناس وحب الناس ونظافة اليد والقلب واللسان .
كان يميل إلى التدين منذ نعومة أظفاره ، ويتمنى أن يتخرج في كلية الشريعة ، لكن أستاذ العربية العليم بمقتضيات العرض والطلب في سوق الحياة أقنع أهله بتوجيه الفتى إلى الدراسة العلمية ، فصار إلى (كلية الهندسة ) ، ثم إلى سجون الرأي .
ما علاقة ( الهندسة) بسجون الرأي ؟
بل ما ذنب ثلاثة أرباع الشعب السوري ليستضافوا في سجون الرأي جماعات جماعات ، وربما راح بعضهم ضحايا المجازر الجماعية .
إن اختصاصي الأدبي يخولني أن أتلمس في حروف المؤلف (الرهيبة ) دقة المهندس وصدق العالم وإيجاز الخبير . أسلوب لا يمكن إلا أن تحترمه وتعجب به ، بصدق نبرته وتعبيره عن صاحبه وعن التجربة/المأساة التي يتحدث عنها . هناك من ابتكر تسمية (الأدب التسجيلي ) ، وأزعم أن صاحب هذا السفر الملتهب صنع لنفسه أسلوباً ( فوق التسجيلي ) : من حرص على الدقة والتواضع ونثر الانطباعات والتحريضات والانتقادات نجوماً فشموساً فصواريخ عابرة للأضلاع والوجدانات والمحيطات على حدّ سواء .
من غير ما اتفاق مسبق ولا تخطيط .. يذكرني أسلوب محمد عادل فارس الموجز المكثف تكثيف العطر والحكم والأمثال .. بأسلوب الدكتور مصطفى السباعي ـ في كتابه (هكذا علمتني الحياة) . لغة برقيات نارية .. قصراً ودفئاً واستهدافاً . أقل الفروق بين الرجلين اللذين يسطران مذكراتهما أن الفارس اختص بزبانية السجون الذين هم أذرعة السلاطين ، على حين غلب على اهتمامات السباعي التنديد بعلماء السلاطين . إنهما سجلا تجربتهما أدباً نابضاً ، سيذكره التاريخ الوجداني للإنسان وللأمم .
محمد عادل فارس مواطن شريف (نظيف ) ، لم يحمل سكيناً ولا عصا ، يُخطف من عمله مرة ومن فراشه مرة ، ويمدد على (مشرحة ) التحقيق أياماً وشهوراً وسنين ـ وتُغرز فيه سفافيد من خيزران أو حديد أو كهرباء وشتائم ، أشدّ لذعاً من النار والحديد والصرعات الكهربائية عالية التوتر حتى يملّ الزبانية الكبار والصغار من موجات التعذيب ، فإذا ملوا منه قذفوا به إلى كهوف الظلام والعفن والحيوانية . وإذا قال لهم : هذا مخالف للدستور الذي (خيّطتموه) على قياسكم ..ضحكوا وقالوا : وهل تصدقون ما نقوله لكم في الدستور ؟ وإذا قال لهم : إن أصدقائي الطلاب الذين أعلنوا عن رأيهم المكبوت على صفحات الجدران لا يستحقون كل هذا العذاب .. قالوا له : لا دور لك فعلاً ، ولكننا كنا نريد <ضربكم> منذ زمن بعيد ، وكنا ننتظر مناسبة ، فهذه كانت المناسبة.
إذن ليست هناك علاقة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم ، كما في الشريعة السمحاء وفي المجتمعات المتحضرة ، بل بين اللص والمواطن ، بين قاتل ومقتول طوال أربعين عاماً ونيّف .
انظر إلى بقايا (الفطرة)أو الخير التي ما زالت في نفوس بعض الجلادين ، التي أشار إليها الفارس أكثر من مرة . هل نتوقع من الضحية التي لاقت الأمرين من هذه الشرائح المفترسة أن تعترف لبعضها بمواقف خيرة ؟ قد تقول : هذه أمانة علمية ، حصلت للكاتب من الدرس ( الهندسي) الموضوعي . وقد تقول : بل هي جزء من تصور محمد عادل فارس للإنسان والكون والحياة وخالق الإنسان والكون والحياة ، ذلك التصور الإسلامي الذي يعتقد أن الإنسان مفطور على الخير ، لكن شياطين الإنس والجن تجتاله فتحرفه ( ولا يجرمنّكم شنآنُ قومٍ على أن تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى) ، فالإنسان بين النفس اللوامة والنفس الأمارة بالسوء ، فليختر . وصاحب الاختيار صاحب قرار ، وصاحب القرار خطير بخطورة القرار الذي يتخذه ، فإما جنة وإما نار ، إما سعادة وإما شقاء في الدنيا والآخرة . تلك أمانة عُرضت على السماوات والأرض فأبينَ أن يحملنها ، وحملها الإنسانُ إنه كانَ ظلوماً جهولاً .
يقول الفارس : ( كان السجن لي مدرسة عرفت فيها نفسي وعرفت شرائح مختلفة من البشر: من الإخوان ، ومن الإسلاميين الآخرين – وبخاصة أعضاء حزب التحرير – ومن الفلسطينيين – من فتح والجبهة الشعبية وغيرهما – ، ومن البعثيين الذين انشق عنهم حافظ ، أقصد اليمينيين جماعة أمين الحافظ ، واليساريين جماعة صلاح جديد …. فضلاً عن أفراد من هنا وهناك ، من التنظيمات الكردية ، ومن أصحاب انتماءات مختلفة ، ومن أناس غير سوريين : عراقيين وأردنيين وبريطانيين وكنديين وإسبانيين …) .
ما هذه المدرسة التي لم توفر مواطناً سورياً ولا عربياً ولا أجنبياً ؟؟
يقول الفارس أيضاً : ( الصفة العامة لمعظم ضباط المخابرات والمحققين الذين عرفتهم ، أنهم قليلو الذكاء ، ضعيفو الضمير ، محدودو الثقافة ، جفاة الطبع ،منحدرو الأخلاق … )
فلنتصور كيف يغدو هؤلاء الأغبياء الفاسدون حكاماً لسلالة أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز وصلاح الدين الأيوبي وأبي فراس الحمداني .
يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة هناك ، الذي يسمى <بناية العداس>أو<مدرسة نابلس>، إذ يقال : إن المبنى كان يملكه أحد الأثرياء من آل العدّاس ، وصادرته الدولة ، وجعلته مدرسة باسم ثانوية نابلس ـ ثم وجدت أن الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ، فصار!!) .
أولاً : هل ترى معي أن تحولات هذا المبنى تعكس بشكل رمزي بسيط .. تحولات الوطن السوري بأسره من مجتمع مدني مسالم إلى سجن قمعي كبير ؟؟
ثانياً لننبش معاً بعض ما في هذه العبارات من منجزات تعبيرية تفصيلية :
يقول الفارس : ( دخلنا فرع المخابرات العامة.. ) ، والحقيقة أدخلونا مجبرين قهراً لدرجة الاستسلام والقول: نحن دخلنا…
يقول : ( يسمى …) ، والحقيقة كان يسمى …
يقول : ( وصادرته الدولة ..) ، لم يذكر سبب المصادرة ، كأن من الطبيعي أن الدولة تصادر الممتلكات الشخصية للمواطنين متى تشاء وكيف تشاء وبلا سبب قانوني….
ويقول : ( وجعلته مدرسة ) ، هذه مرحلة من مراحل (الجعل) …
ويقول : ( ثم وجدت أن من الأنفع للمجتمع أن يصير فرعاً للمخابرات ) هكذا بلا سندقانوني .
ويقول : ( فصار!!) ، كأن الدولة (إله) أو حلت محل الإله ( تقول للشيء : كن فيكون ) ، وهذا هو جوهر الفساد في الأرض .. أن تحل الآلهة البشرية محل الإله الحقيقي العادل الرحمان الرحيم ، جبار السماوات والأرضين . ودعك من سخرية ( الأنفع للمجتمع ) التي تعكس زيف الأقوال والشعارات الممضوغة صباح مساء . هكذا ببساطة أراحوك وأراحوا المجتمع والرقابة الشفافة والصحافة من التفكير والنقد ثم الحساب .
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
- – انظر على سبيل التمثيل لا الحصر : دواوين (وما أنت وحدك – رقصة جديدة – في ساحة القلب – حمامة مطلقة الجناحين – تقاسيم آسيوية – خيانات اللغة والصمت) لفرج بيرقدار، وديوان مروان حديد – ومجوعة أشعار(من ذكريات الماضي) لعلي صدر الدين البيانوني، وديوان (ترانيم على أسوار تدمر) ليحيى الحاج يحيى، وديوان (القادمون الخضر) وروايتَي (نقطة انتهى التحقيق- ما لا ترونه) لسليم عبد القادر، وديوان ( الظل والحرور) لعبد الله عيسى السلامة، وديوان(في غيابة الجب) وقصص (بين القصر والقلعة) ورواية (خطوات في الليل) لمحمد الحسناوي، وقصص (الخطو الثقيل) (الوعر الأزرق) (النحنحات) لإبراهيم صمؤيل، وقصص جميل حتمل، وقصص (آه .. يا وطني) (تقول الحكاية) ورواية (بدر الزمان) لفاضل السباعي، ورواية (الشرنقة) (سقط سهواً) لحسيبة عبد الرحمن، ورواية (الصلصال) (طفلة من السماء) لسمر يزبك، ورواية (الفقد) للؤي حسين، ورواية (غبار الطلع) لعماد شيحة، وكتاب (التحقيق) لمحمود ترجمان، و(كتاب الخوف) لحكم البابا، ورواية (عينك على السفينة) لميّ الحافظ، وكتاب (شاهد ومشهود) لمحمد سليم حماد، وكتاب (خمس دقائق) لهبة الدباغ، وكتاب(في القاع) لخالد فاضل، و رواية نشرت في جريدة النهار لهالا الحاج ، وكتاب (النداء الأخير للحرية) لحبيب عيسى، وشريط (ابن العم) لمحمد علي الأتاسي، وشريط (قطعة الحلوى) لهالة محمد.
* كاتب سوري عضو رابطة أدباء الشام
الذين قالوا لا
سيرة ذاتية
ما كنت أقصد أن تكون هذه المذكرات “السجنيّة” سجلاً لحياتي الشخصية، لكنّ أخاً فاضلاً اطلع عليها قبل نشرها، ورأى أن عرض السيرة الذاتية في مقدمتها، ولو باختصار، من شأنه أن يُحدث في نفس القارئ تعاطفاً وجدانياً، أو تقمصاً وجدانياً.
************
اسمي الكامل محمد عادل بن عبد القادر فارس.
ولدت في مدينة حلب الشهباء في 5/1/1944، في حي شعبي عريق، هو حي المشارقة، في الجزء الغربي منه، المعروف بحي المزرعة، المجاور لـ”قبر هنانو”.
يُعرف أهل الحي بالمروءة والشجاعة والشهامة.
وهم جميعاً مسلمون. لكن إسلامهم – في أيام صباي- يقترن بكثير من الجهل، فهو عاطفة وتقاليد، أكثر منه تديناً واعياً. فالشباب بعيدون عن التدين، وكثير منهم من يرتكب المحرمات…. وهم، مع ذلك، يتعصبون للإسلام، ويغارون على العِرض غيرة شديدة. والعِرض عندهم مقصور على ستر المرأة وعفّتها وسمعتها…
ويغلب على الحي آنذاك الأميّة والفقر، إلى جانب قليل من المتعلمين، وقليل من الموسرين.
ولقد كان أبي – رحمه الله- من متوسطي الحال في ذلك الحي! وكان على جانب من التديّن، ويحظى باحترام أهل الحي، واحترام التجار الذين يتعامل معهم… بسبب استقامته وسماحته وحرصه الشديد على أداء الأمانة والوفاء بالوعد والعهد. وقد كانت له دكان صغيرة، اقتطعها من البيت الذي نملكه، يعمل فيها سمّاناً، أي بقّالاً.
أما الوالدة – رحمها الله- فقد كانت أكثر تديّناً، وأكثر ثقافة!! فعلى الرغم من أمّيتها، فقد تأثرت بوالدها وإخوتها (جدي وأخوالي)، وقد كان جدي – رحمه الله- يحضر دروس العلماء، وكثيراً ما يقرأ تفسير الجلالين وغيره، وكان أخوالي على مستويات مختلفة من التعلم!.
ومنذ نعومة أظفاري بدأت التعلم في الكتاتيب، عند المشايخ و “الخوجات” وقد أنجزت تعلم القرآن الكريم كاملاً وأنا ابن ست سنين. وأكثر من أفادني في ذلك ” الخوجة بديعة أبو صالح” – رحمها الله- فقد كانت ذات هيبة ووقار، وحزم وعلم.
بدأت الدراسة الابتدائية عام 1950-1951م، في مدرسة “الاتحاد الوطني” في حي الكَتّاب، الذي يمثل الجزء الشرقي من حي المشارقة. وقد كنت في مستوى دراسي يتراوح بين الجيد والجيد جداً، ونلت شهادة الدراسة الابتدائية صيف 1955، وكانت المرحلة الابتدائية آنذاك خمس سنوات.
ومع أن مجموع علاماتي في الشهادة الابتدائية كان عالياً، فإن قبولي في ثانوية المأمون، التي تبعد عن بيتنا مسيرة بضع دقائق، كان متعذّراً أو متعسراً!
كانت الثانويات تضم الصفوف من السادس حتى الثاني عشر! وكانت ثانوية المأمون، أو التجهيز الأولى (كما كان يُقال لها)، مخصصة لأبناء الأحياء الراقية، فلم أتمكن من تحصيل قبول فيها إلا بوساطة بعض الأقرباء والجيران، لاسيما أستاذ اللغة العربية الشهير علي رضا!.
وفي الحقيقة، كنت أرغب بالدراسة في الثانوية الشرعية، انسجاماً مع توجهي الديني العفوي، لكن الأستاذ علي رضا نفسه، أقنع أهلي بالعدول عن تلك الفكرة، وقال لهم: تلك الدراسة لا تؤهله إلا لأن يكون مؤذناً أو إمام مسجد!.
لم أندم على دخولي الدراسة العامة، بل تجاوبت معها، ونلت الشهادة الثانوية في صيف 1962، بمعدل عال! وكنت طوال دراستي أحب مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية والرياضيات والعلوم.
وهنا أيضاً كانت رغبتي الحقيقية أن أدرس الشريعة، أو الأدب العربي، لكن اعتباراً آخر صرفني عن ذلك. فالدراسة في أي من الاختصاصين المذكورين ستتم في جامعة دمشق، وهذا يرتّب علي نفقات السفر والسكن، فضلاً عن الأقساط الجامعية والكتب… مما يعجز والدي عن دفعه. وكان بالإمكان أن أدرس من غير دوام في الجامعة، وأكتفي بالسفر لأجل التسجيل والامتحانات فحسب… لكنني، في هذه الحال، لن أتمكن من التلقي على الأساتذة الكبار، ولن أتمثل المعارف المطلوبة بعمق، إنما سأحصل على شهادة لا تسمن ولا تغني من جوع. وكنت أرى – ولا أزال- أن من اختار الدراسة في فرع من فروع العلم فعليه أن يتقنه.
هكذا كانت قناعتي. وكان علي أن أختار بين كليات جامعة حلب: كلية الهندسة (بفروعها: المدني والمعماري والميكانيك والكهرباء) وكلية الزراعة وكلية الحقوق. فاخترت دراسة الهندسة المدنية.
وقد تجاوبت كذلك مع الدراسة وأحببتها، وأفدت منها تنمية التفكير العلمي، لاسيما الجانب الرياضي منه.
وتخرجت في صيف 1967، بدرجة “جيد”.
ولا زلت أذكر أنني خرجت من امتحان إحدى المواد، يوم الإثنين، الخامس من حزيران، فرأيت الطلاب متجمعين في ساحات الكلية يتحدثون عن حرب اعتدت فيها إسرائيل على مصر…
وتوقف الامتحان نحو شهر أو يزيد، ليستأنف من جديد.
***************
وبعد تخرجي في كلية الهندسة انتسبت إلي كلية الشريعة، ودرست فيها سنة واحدة، وتركت الدراسة على إثر قبولي موظفاً في مؤسسة المشاريع الكبرى.
وفي الحقيقة فإن السنة التي أعقبت تخرجي في كلية الهندسة، كانت سنة غنية في حياتي. ففضلاً عن نشاطي الدعوي في صفوف جماعة الإخوان المسلمين، وفي المساجد، فقد عملت متدرباً في مكتب المهندس عبد العزيز رجب باشا، وفق النظام المعمول به في نقابة المهندسين، وفي الوقت نفسه درستُ ودرّست. درستُ في كلية الشريعة، ودرّست مادة الرياضيات في إعدادية الحسن بن الهيثم وأنهيت العام الدراسي والامتحانات وقدّمت نتائجها إلى إدارة المدرسة، ثم ذهبت إلى دمشق لامتحانات كلية الشريعة، وكانت قد انقضت امتحانات ثلاث مواد، فتقدمت إلى امتحان المواد السبع الباقية ونجحت فيها جميعاً بفضل الله.
****************
كان توجهي الإسلامي – في طفولتي ومراهقتي- يتراوح بين العاطفة والالتزام السلوكي، صعوداً وهبوطاً، لكنني لم أتوجه مطلقاً وجهة بعيدة عن الدين، ولم أنخرط فيما ينخرط فيه بعض أبناء جيلي من انحرافات سلوكية.
وبدءاً من عام 1960 بدأ التزامي يتبلور أكثر، ويتعمق أكثر، وقراءتي تتوجه نحو الكتب الدينية، إلى جانب الكتب الأدبية. ورحت أحضر دروس المشايخ: عبد الفتاح أبي غدة، وعبد القادر عيسى، وعبد الله سراج الدين، ومحمد السلقيني، وعبد الوهاب سكر، ثم محمد الحامد، رحمهم الله جميعاً، فضلاً عن علماء أفاضل حضرت لهم مجالس علم أو خطباً، قليلة العدد، لكنها غزيرة الفائدة، كالشيوخ الفضلاء إبراهيم السلقيني، ومحمد علي الصابوني ومحمد عوّامة وعبد الحميد طهماز ومحمود الحامد ومحمد بشير الشقفة وغيرهم وغيرهم…
وقد أدرجت أسماء شيوخ حمويين، لأنني سكنت حماة في أثناء وظيفتي مهندساً في المشاريع الكبرى.
لكن الشيخين اللذين كان لهما أكبر الأثر في ثقافتي وتوجهي هما:
الشيخ عبد الفتاح أبو غدة – رحمه الله- الذي أفدت منه الكثير الكثير في الفقه والأخلاق والوعظ الراقي والذوق والأدب… وفي الولاء للإسلام وقضاياه، وفي حب العلم والقراءة…
والشيخ محمد السلقيني – رحمه الله- الذي أفدت منه شيئين عظيمين، إلى جانب أشياء مفيدة كثيرة، الشيء العظيم الأول هو فهم العبارة الفقهية، أي القدرة على حل عبارات كتب الفقه القديمة، والشيء العظيم الثاني هو الإخلاص والتجرد والتربية بالحال، فقد تعلمت من تواضعه الحقيقي العفوي ومن تضحيته بالمال والجهد والجاه… مالا يمكن أن أتعلمه لو قرأت كل مجلّدات المكتبات!.
وفي مطلع 1964 تقريباً انتسبت فعلياً إلى جماعة الإخوان المسلمين، وكانت السنوات الأولى من هذا الانتساب تمثل ذروة نشاطي الدعوي.
وفي نيسان 1973 دخلت المعتقل لمدة أربع سنوات.
وفي نيسان 1979 دخلت المعتقل مرة ثانية لمدة عشرة شهور!
وفي كانون الأول 1980 غادرت سورية فراراً بديني!
************
من أهم الشخصيات التي تأثرت بها الشهيد سيد قطب، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة.
وبطبيعة الحال فقد تأثرت بعشرات الشخصيات الأخرى، بل بمئاتها، من علماء وأدباء وخطباء ومدرّسين وزملاء….. من إسلاميين وعلمانيين.
************
قراءاتي متنوعة، في علوم الشريعة (التفسير والفقه وأصول الفقه وعلوم الحديث…)، واللغة العربية وآدابها، وفي علوم النفس والتربية، وفي الثقافة العلمية، لاسيما الطبية.
************
تزوجت في أواخر عام 1971، من امرأة تقية، صبرتْ معي على البأساء والضراء، على السجن الطويل، وعلى الغربة، وعلى الانهماك في أعمال الدعوة… وما يرافق ذلك من متاعب وحرمان…فكانت زوجاً صالحة…أسأل الله تعالى أن يثيبها على صبرها وبذلها، ويجزيها عني خير جزاء.
وقد رزقت منها ثمانية أولاد: اثنان من الذكور، وست من الإناث… أسأل الله لي ولهم الثبات على الإيمان، والوفاة على الإسلام، وأن يلحقنا بالصالحين.
الولد البكر عندي بنتٌ ذاقت اليُتم وأنا حيّ، حيث تم اعتقالي وعمرها نحو ثلاثة أشهر، وخرجتُ وعمرها أربع سنوات وثلاثة أشهر… وكان لأمها وبيت جدها فضل كبير في رعايتها وتخفيف آلام اليتم عنها! جزاهم الله خيراً.
أربعة من أولادي تخرجوا في الجامعات، والأربعة الآخرون على مقاعد الدراسة في مراحل مختلفة منها.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
أبو عبيدة محمد عادل فارس