أرشيف يوم: مارس 16, 2021

قصة إسماعيل القمري مع الإعتقالات..!

قصة إسماعيل مع الإعتقالات..!

صاحب دار نشر القمري

إسماعيل أُعتقل لأول مرة في 2007، كان عنده وقتها 16 سنة.

تاني مرة كانت في 2009 وخرج بعد قيام ثورة يناير بشهر، تحديداً 25 فبراير 2011.

ثالث مرة كانت في 2015 وخرج في 2016.

رابع مرة كانت في 2017 وخرج في نفس السنة.

خامس مرة كانت في شهر 10 سنة 2018 اختفى قسرياً لمدة 120 يوم وظهر في النيابة شهر يناير 2019 وأخد إخلاء سبيل 3 نوفمبر 2020،
أختفى بعدها قسرياً لمدة 45 يوم،
وظهر في النيابة 16 ديسمبر على ذمة القضية 810 بتهمة الانضمام لداعش!

إسماعيل طول فترة حياته دخل 6 سجون ( العقرب – ليمان طرة – أبو زعبل شديد الحراسة – استقبال طرة – القناطر – سجن الجيزة المركزي)
واتصنف 5 تصنيفات عكس بعض في كل مرة أعتقل فيها
( سلفي – قاعدة – إخوان – داعش – يساري)!



إسماعيل بشهادة الجميع أول واحد من مشاهير السوشيال ميديا المحسوبين على الإسلاميين اللي تصدر لأفكار الدواعش وإتحمل قذف وسب ومقاطعة كثير من مشاهير الإسلاميين وقتها.

إسماعيل باحث وناشر مستقل ليس له أي إنتماء لأي تيار موجود على الساحة؛ لكنه هاضم لأفكار جميع التيارات الموجودة على الساحة بحكم معشرته ليهم داخل السجون وخارجها.

ربنا يفك أسره ويزيل عنه ظلم الظالمين ويرده إلى أهله هو وجميع المظلومين عاجلا غير آجل، ويرحم الله عبداً قال آميناً.

#الحرية_لإسماعيل_القمري

صفحفة الفيس بوك

عندما تكون زيارة المعتقل السياسي لعنة

كتبت زوجة المعتقل الاسلامي اسماعيل القمري صاحب دار نشر القمري عن لعنة الزيارة… تكاد تكون وثيقة من وجع تروي كل الغصص الحرار في دولة المخابرات

{{بقالي سنة وشهرين، بدون زيارة لإسماعيل، برغم إن يوم الزيارة ده كان لعنة بمعنى الكلمة، من أول الانتظار على باب السجن في الشمس بالأربع ساعات، ثم التفتيش وقلة أدب السجانات، ثم الانتظار ثاني جوا السجن أكثر من ثلاث اربع ساعات، ثم التفتيش تاني قبل الدخول للقاعة اللي بنقابل فيها أحبابنا، والمحايلة اللي بنتحايلها عشان ندخل أكلة معينة ولا علبة دواء!، وكل العذاب ده عشان نقعد معاهم نصف ساعة مثلاً! وحواليك بقى مخبرين وسجانين عمالين يلفوا حواليكم زي النحلة! لكن كل ده يهون في سبيل إننا نشوفهم ونهون عليه مرارة السجن والقرف! برغم كل ده أنا مفتقدة الزيارة بكل تفاصيلها، مفتقدة حتى الرخامة اللي كنت بقابلها من السجانات! مفتقدة جواب الزيارة اللي باخده من إسماعيل وأقراه في العربية وأنا مروحة، مفتقدة الهدايا البسيطة العظيمة! اللي هتفضل أغلى وأعظم هدايا تجيلي في حياتي!}}

صفحة الفيس بوك

لأنهم قالوا: لا -مذكرات سجنية الحلقة الرابعة

جاسم وشيخو وأبو حميد

هذا العنوان ليس اسماً لمسلسل إذاعي أو تلفزيوني، بل هو عنوان لمسلسل التعذيب في فرع مخابرات حلب في الحقبة التي كنت فيها ضيفاً على ذلك الفرع.

جاسم هو زعيمهم. لا أعرف اسمه بالكامل. يقال إنه جاسم الطِّيط، ويقال: جاسم سلطان. ولكنه يُعرف عادة باسمه: جاسم، أو بكنيته: أبي الفوز.

لقد حَرَمَهُ الله من أي جمال في خلقته، لكنه كان صاحب ذكاء خاص في اقتناص الفرص، كما سأوضِّح.

وكان يتباهى في أنَّه تخرّج على يديه الوزير الفلاني، أو المسؤول الكبير الفلاني، بمعنى أنهم اعتُقلوا عنده قبل تولِّيهم وظائفهم، أو بعد إخراجهم منها، ونالوا من يديه القويَّتين سيلاً من الخيزرانات، وغير ذلك مما يجود به حذاؤه، ولسانه كذلك!.

ويبدو أنه أطول الجلادين مدةً في هذه المهنة الشريفة، وهو يحسّ بالحرج، بل بالخوف الحقيقي وهو يسير في الشارع، أو يدخل بيته، أو ينام فيه!، أو يتسوَّق لعياله… بل يخاف على أولاده كذلك… فأعداؤه كُثُر، وكل من تلقّى منه تعذيباً فهو عدوٌّ له، ولا يأمن جاسم أن ينتقم منه بعض الأعداء!.

ولهذا فقد اتخذ لنفسه “استراتيجية أخرى” وهي أن يمتنع عن اصطناع أعداء جدد بقدر المستطاع، فإذا لم يكن مضطراً فإنه يتهرب من ممارسة التعذيب المباشر، بل يدفع إلى هذه المهمة بعض شركائه مثل شيخو وأبي حميد ومحمد وردة (الحمصي)… وفوق ذلك فإن استراتيجيَّته تقتضي أن يمارس النهب بأسلوب آخر. فهو يعيش في حلب منذ سنوات طويلة ويعرف كثيراً من تجارها ووجهائها… فكلما جاءه أحد المعتقلين سأله ما اسمك وما اسم أبيك، وما اسم أمك؟…

ثم يسأله: ما القرابة بينك وبين فلان، وفلان، وفلانة؟!. فإذا عرف أنَّ فلاناً عمه أو خاله أو ابن أخته أو… قام بجولة عليهم في أماكن عملهم أو بيوتهم الخاصة ليأخذ منهم الرشاوي بمقابل أن يحسن التعامل مع قريبهم المعتقل!. وقد تكون الرشوة نقوداً أو تكون ساعة يد، أو قطعة أثاث، أو بعض الألبسة… حسب اختصاص كل من هؤلاء الأقرباء.

أما “شيخو” فهو كما يقول عن نفسه: “شيخو أبو الشوارب”، أسمر البشرة، طويل القامة، له شاربان كبيران جداً، أسودان لامعان، يجعلان شكله مخيفاً.

وهو كردي، من قرية كفر جنّة، متعصب لقوميته، في لهجته العربية أثر واضح لكرديته، فهو يخلط مثلاً بين المذكر والمؤنث. وعلى الرغم من حبه الشديد للتعذيب، يراعي المعتقلين الأكراد قدر استطاعته!.

في أحد الأيام كان شيخو مناوباً، ينام في الفرع، وعند شروق الشمس سمع خبطاً على باب إحدى الغرف، واستمر الخبط حتى قام شيخو من نومه غاضباً وأتى بالخيزرانة معه ليؤدِّب هذا الذي يتجرَّأ على إيقاظه في هذه الساعة المبكرة، وقبل وصوله راح يصرخ: من هذا الذي يدق الباب؟ فجاءه الجواب: “آس. آس” وهي بالكردية تعني: “أنا. أنا” إذاً فالمعتقل هو أخونا طالب كلية الطب مستو، فابتلع شيخو غضبه، وظهرت البسمة على وجهه، وفتح الباب للأخ مستو حتى يقضي حاجته.

Image processed by CodeCarvings Piczard ### FREE Community Edition ### on 2019-07-10 12:08:39Z | | ÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÿÅWÑGÿ

وأكثر من مرة كان يؤتى ببعض المعتقلين الأكراد، وقد يؤمر شيخو نفسه بتعذيبهم، فيقوم بذلك، إذا كان المحقق فوق رأسه، لكنه في غياب المحقق كان يحاول أن يكرمهم.

ومن المآسي الصغيرة! أن عدد الملاعق التي خصصت لنا، كانت أقل من عددنا، وبعض الطعام كالمرق، يصعب تناوله من دون الملاعق. وكان أحد إخواننا في وضع صحي خاص، فكنّا نكرمه بأن نخصّص له ملعقة!. ولما شعر شيخو بذلك، خاطبَ أخانا مستو، باللغة الكردية: لم تعطون هذا العربي ملعقة؟! وظهر الغضب المكبوت في وجه مستو، ولما ذهب شيخو قام مستو بترجمة ما سمعه!.

وشيخو هذا أمِّيّ، لكنه يضع في جيب السترة على صدره، ثلاثة أقلام أو أكثر! وإذا رفع سماعة الهاتف، وسأله الطرف الآخر: مَنْ؟ أجاب: شيخو أبو الشوارب.

وقد قرّرت إدارة الفرع إجراء دورة محو أميّة لعناصر الفرع، ومنهم شيخو هذا، فكان يحضر الدروس لكنه لا يفهم شيئاً، وإذا أعطاه المدرّس وظيفةً ليكتبها، طلب من أحد المعتقلين أن يكتبها عنه! فإذا قدّم الوظيفة للمدرّس تبيّن له أنها ليست بخط شيخو، فيطلب من إدارة الفرع معاقبته! ثم يأخذ وظيفة أخرى، ويحاول أن يكتب، وكلما كتب حرفاً أو رقماً بدأ يشتم: “يلعن أبوه هذا أربعة” أي يلعن الله الرقم 4. ما أصعب كتابته! (ونكتفي بهذا المثال عن أمثلة أخرى فاحشة).

وكان أحد إخواننا المعتقلين ينصح شيخو أحياناً فيقول له: يجب أن تترك الخمر، فالخمر وبال عليك في الآخرة، وهدم لصحتك!. فيقول: لا. أنا مرضت وذهبت إلى الطبيب فكتب لي في الوصفة: “واحد فروج، وواحد عرق”! قلت له عندئذ: وهل صرفتَ الوصفة من الصيدلية أم من الخمارة؟!. فنظر في وجهي ولم يُحِرْ جواباً!.

ويقصّ علينا هذه القصة التي تصور شخصيته، فيقول:

مرة طلب مني النقيب أن أعذِّب أحد الموقوفين، وصعد النقيب إلى غرفته في الطابق الأعلى، فوضعتُ القيد في يَدَي الموقوف (المعتقل) حتى تقلَّ حركته، وأتمكن من ضربه كما أريد. ورحت أضربه بالخيزرانة مرة، وبعصا غليظة مرةً، وبعقب الحذاء مرة ثالثة.. ولم أشعر إلا وقد انكسرت يده كسراً ظاهراً، وهو يصرخ من شدة الألم. خفت أن يعاقبني النقيب على ذلك. فاتصلت به هاتفياً: سيدي، هذا الذي قلتَ لي: عذِّبْه، لقد انكسرت يده.

(وأراد المحقق أن يطمئنه فقال له): “يلعن أبوه. خلّي تنكسر إيدُه التانية” : فلتنكسر يده الثانية.

فقال شيخو: حاضر سيدي.

وراح يضرب الضحية بقسوة بالغة حتى كسر يده الثانية. استجابة لما فهمه من كلام النقيب!.

قلت لشيخو: وكيف تفعل ذلك؟! قال: النقيب ربّي! فإذا قال لي: اكسر يده فأنا أكسرها!.

ونكتفي بهذا الحديث عن شيخو لننتقل إلى الجلاد الثالث:

أبو حميد: هو الآخر كردي، لكنه يتكلم العربية بلهجة حلبية تامة، مع احتفاظه بلغته الكردية.

وهو ضخم الجسم، جميل الهيئة، قوي البنية جداً. كان يعمل -قبل دخوله هذه الوظيفة- عتّالاً ينقل الحمولات التي يعجز عنها العتّالون الآخرون!.

وإذا أُمر بالتعذيب قام “بواجبه” على أكمل وجه، لكنه إذا غاب عن أعين المحقق بدا لطيفاً مهذباً.

كان هو الآخر أميّاً، فكنّا نكتب بعض الرسائل إلى أهلينا وأصدقائنا، ونرسلها مع أبي حميد، بمقابل خمس ليرات للرسالة الواحدة، ونشرح له العنوان فيوصلها بأمانة، وقد يأتينا برسالة جوابية بمقابل أجر آخر، يأخذه منهم.

وأحياناً يحمل رسالتين أو ثلاثاً في آنٍ واحد. وبما أنه أمّي، كنا نخاف أن يخطئ فيسلِّم الرسالة إلى غير صاحبها، فننبهه إلى ذلك فيقول: لا تخافوا. رسالة فلان هنا في هذا الجيب، ورسالة فلان في جيب القميص، والرسالة الثالثة في الجيب الخلفي. وبالفعل كان يصيب الهدف!.

ومرة اعتُقل مجموعة من عصابة تضم أطباء فمَنْ دونهم، من مستشفى حلب العسكري. وكانت هذه العصابة تأخذ الرشاوي من المواطن حتى تهيّئ له سبيل الإعفاء من الخدمة العسكرية…

في أثناء التحقيق مع أحدهم يقول المحقق حيزة: ألا تخجلون على أنفسكم تأخذون الأموال من أجل تمكين المواطن من التهرب من خدمة العلم؟!.

فيتدخل أبو حميد فيقول: سيدي. هل تظن أن كل الناس مثلي ومثلك، يعيشون على رواتبهم؟!.

وقد ذكرتُ آنفاً كيف كنا ندفع الرشاوي لأبي حميد. أما الحيزة فقد كانت رشاواه بأسعار باهظة.

فقد جيء مرة بمهرِّب حشيش على مستوى دولي (يهرِّب بين الدول)، وضبطت معه بضعة عشر كيلوغراماً من هذه المادّة. فلما وصل إلى الفرع ووضع تحت التعذيب، أشار بطرف عينه إلى المحقق، والتقط المحقق الإشارة، فصَرف الجلاد من الغرفة.

ثم كتب التحقيق بالشكل الذي يرضي المهرِّب. ثم طَلَبَ له فطوراً -على حساب المهرِّب- وهو “مامونية”، من عند المستّت!.

ووضعه المحقق في غرفتنا بضع ساعات إلى أن أُفرج عنه. وقد حدَّثنا أنه دفع للمحقق ثلاثة آلاف ليرة مقابل ذلك!.

رئيس فرع الحلبوني

عندما نُقِلنا من معتقل فرع المخابرات في حلب إلى فرع الحلبوني في دمشق، في مطالع أيلول 1973م، كان رئيس الفرع هو الرائد عارف نصر، وهو شخصية غامضة، يُدير الأمور من وراء جدار!. فقد بقينا “ضيوفاً” عليه مدة تزيد على أربعة عشر شهراً، ولم نجتمع به مطلقاً. نعم قد نراه خِلْسة، ونحن نتسلّق أعالي النوافذ، فربما صادف ذلك دخولَه إلى مبنى الفرع عبر الساحة الواسعة، فكان دخوله يقترن “بخشوع” ظاهر من السجانين والحرس.. إذ إن مِشْيته تدل على تجبّر وغطرسة.

كان يدير الفرع بشكل مباشر اثنان:

المحقق آصف يتولى أمور التحقيق والتعذيب ويُعدُّ ملفّات الموقوفين، ويرفع التوصيات بشأن التوقيف (الاعتقال) والإفراج.. وهو ضابط في مطلع الثلاثينيات من عمره، محدود الثقافة والذكاء!.

والمساعد شلحة (لا أعرف اسمه الأول)، يتابع الأمور الإدارية، من دوام للعناصر، وترتيب الحراسة، وتنظيم خدمات الطعام وغير ذلك. وهو كذلك ضعيف الثقافة والذكاء، قاسٍ جَلف. قد يتولى التحقيق في بعض المسائل الصغيرة.

وهو يعترف –بلسان حاله- أن الإخوان هم الأكثر نظافة في أخلاقهم وسلوكهم.. وفي طعامهم وثيابهم ومكان إقامتهم كذلك. فإذا جاءت توصية بأحد المعتقلين الجدد، فإن المساعد شلحة يضع هذا المعتقل الجديد في غرفة الإخوان، تكريماً له، وحفاظاً على نظافته البدنية والخلقية.

ولسنا ندري شيئاً عن العلاقة بين رئيس الفرع وبين كل من “آصف” و”شلحة” هل هي علاقة مودّة، أم علاقة إدارية وظيفية فحسب.

——————–

في أواخر العام 1974م حدث تغيير في إدارة الفرع، فقد عيّن رئيس جديد له، إنه الرائد محمد أحمد فتح الله.

كان متوسط الطول، أبيض البشرة، هادئاً ورزيناً.

وهو من منطقة يبرود -بين دمشق وحمص- وقد كان قبل ذلك “بمنصب القاضي الفرد العسكري”.

وكان مجيئه محاطاً لدينا بالغموض، فهل سيكون كسَلَفِه أم أقلّ سوءاً، أم أشد؟!.

واستمرّ الأمر نحو أسبوعين حتى بدأنا نلحظ ثمرات التغيير:

1-  أجرى رقابة على طعام الموقوفين، فعلم أن السجانين يسرقون أفضل الطعام، ويوزعون الباقي!. وأَمَر بسجن الرقيب أول أحمد سيفو (وهو ابن أخٍ للوزير شتيوي سيفو) بسبب سرقته بعض الطعام.

2- أمر بإعطاء الموقوفين حق الخروج إلى الباحة للتنفس، مدة نصف ساعة يومياً. (كنّا قبل عهده نخرج مرة واحدة في الأسبوع، لمدة عشر دقائق!).

3- اطّلع على ملفّات الموقوفين فوجد أنهم مظلومون، وليس هناك مسوّغ لاعتقالهم، فبدأ يرفع الكتب إلى إدارة المخابرات العامة يوصي بالإفراج عنهم. فاستجابت الإدارة فأفرجت عن بعض أصحاب القضايا الفردية البسيطة.

4- عندما لم تستجب الإدارة بالإفراج عن معظم المعتقلين، رفع كتاباً يقول فيه: إذا لم تستجيبوا، فلا أقلّ من أن تنقلوهم إلى سجون مدنيّة، حيث يمكن أن ينالوا بعض حقوق السجناء!. فاستجابوا لطلبه هذا، وتم نقلنا فعلاً. وكان نصيبي من سجن حلب المركزي، وخفّت بذلك وطأة السجن، فأين سجون المخابرات من السجون المدنية؟!.

لكن إدارة المخابرات العامة وجدت أنَّ هذا الرجل لا يصلح أن يكون رئيساً لفرع مخابرات، فمثل هذا المنصب يحتاج إلى ظالمٍ فظّ غليظ القلب حاقد لئيم.. فلم تمض سنة على توليه منصبه هذا حتى تم نقله إلى مكان آخر!.

الجلاد أبو طلال

إنه من أشهر جلادي فرع الحلبوني. لكن الاقتصار على وصفه جلاداً، لا يوضح حقيقة شخصيته، بل إن فيه بعض الظلم له.

بلغ من شهرته أنَّ بعض عناصر المخابرات في فروع أخرى، غير الحلبوني، يكنيّ أحدهم نفسه بأبي طلال تيمّناً بأبي طلال الحلبوني، ويطيل شاربيه ليكونا مثل شاربي أبي طلال.

والقلائل هم الذين يعرفون اسمه الحقيقي، فيكتفون بكنيته: أبي طلال.

اسمه هشام الشيخ نجيب، ويقال: إنَّ أباه شيخٌ بالفعل، لعله إمام مسجد مثلاً. وهو دمشقي.

وشخصيته غنية بالصفات المتناقضة، أو لنقل: بالخطوط ذات الألوان المختلفة.

تلمس فيه بعض الذكاء، وبعض العنف، والقدرة الكبيرة على التعذيب مع الروح الساديّة، وبعض التديّن، وبعض الوطنية، وكراهية حزب البعث الحاكم، وفيه قوة في الشخصية، وتعدد في المواهب، وفيه بعض الطِّيب، وبعض الجهل.

وحين نذكر بعض مواقفه تظهر تلك الخطوط المتباينة.

أحياناً يطلب المحقق من أبي طلال أن يقوم هو بدور المحقق في بعض القضايا الصغيرة، وعندئذ يبدو ذكاؤه، إذ يستطيع استخلاص الحقائق من دون أن يضرب المتهم صفعةً واحدة أو سوطاً واحداً. قد يهدد، وقد يمسك بيده الخيزرانة ويلوح بها ويضرب بها الأرض أو الحائط.. ويرفق ذلك باستدراج الموقوف (المتهم) حتى يستخرج منه الاعتراف المطلوب.

وإذا أصيب أبو طلال بمرض أو أصيب أحد أفراد أسرته فإنه يقول: لا شك أنَّ ذلك نتيجة دعاء أحد المظلومين الذين تولّيت تعذيبهم.

وإذا اقتضت منه مهنته أن يعذب أحد المتدينين، ولم يكن المحقق فوق رأسه، فإنه يختار أحد المسجونين غير المتدينين فينسب إليه ذنباً ما، ويفرغ فيه شحنة الغضب، حتى إذا وجد أنَّ الغضب ذهب عنه أمسك بالمتدين ليضربه ضرباً خفيفاً، أو يكتفي بتوبيخه…

وإذا جيء بموقوف من جنسيات غير سورية، وبخاصة إذا كان أوروبياً أو أمريكياً فإنه يتفنَّن في تعذيبه بمبادرة منه! وإذا سئل عن ذلك قال: إن أبناء وطننا يلقَون سوء العذاب عندنا، فهؤلاء أَولى!.

ومرة يخطر في باله أن يصلّي لله تعالى، فيقف في باحة السجن ويصلي علناً، لا يخاف أن يراه أحد!.

ومرة يعلن إفطاره في رمضان، فيضع -في باحة السجن كذلك- كرسيين متقابلين، يجلس على أحدهما، ويضع الطعام على الآخر ويأكل!.

وهو صاحب “مَقْمَرة” أي مقهى للعب القمار، يعمل فيها خارج أوقات الدوام، ويشغّل فيها بعض الشباب الأشقياء، ويستغلّ وظيفته في حماية المقمرة والعاملين عليها.

ومرة كان في أحد النوادي الليلية (الكباريهات) واشتبك مع عناصر من سرايا الدفاع، لا أعرف سبب الاشتباك، لكن عناصر المخابرات (من روّاد الكباريه) وقفوا مع أبي طلال، ضد عناصر السرايا (من روّاد ذلك المكان) وتبادلوا إطلاق النار على الخفيف فأصيب بساقه، ونقل إلى المستشفى، وبعد الشفاء بقي يعرُج عرجاً خفيفاً، ولعل هذا العرج استمرّ معه وشكّل عاهة دائمة.

وكان يمتاز بضربات معينة يعذّب بها الموقوفين. وذلك بأن يمسك الموقوف من مقدمة شعر رأسه، ويحرّكه يمنة ويسرة، فيستجيب ولا يستطيع المقاومة، ثم يشده بقوة نحوه فيرتمي إلى الأمام قليلاً، فيضربه ضربةً قوية بساعده (قرب المرفق) فيرميه أرضاً بقوةٍ قرب الجدار، وعندئذ يدوس بعقب حذائه على رأس الموقوف ويضربه عدداً من الضربات المؤلمة المهينة… ثم يخرج مزهوّاً بانتصاره!.

وهو يعبّر بطرق مختلفة عن كراهيته لحزب البعث وقيادته، وعن ضعف ولائه للسلطة التي يخدمها! فبين الحين والآخر تضبط السلطة بعض المتسللين من العراق عبر الحدود بحجة أنهم معارضون لحكم صدام حسين وطالبون للجوء السياسي في سورية، فكانت المخابرات تعتقلهم وتزجُّهم في سجن الحلبوني لتحقق معهم فتطمئن إلى وضعهم، أو تتهمهم بأنهم مدسوسون لإحداث شغب في سورية… فحين يقول أحدهم إنني قادم لطلب اللجوء السياسي كان أبو طلال يشتمه ويقول له: أعندنا تطلب اللجوء السياسي! والله نحن لا نشبع الخبز، فكيف نطعم غيرنا؟!.

ومرة اعتقل شاب عراقي يدرس في جامعة دمشق اسمه كُوسْرَتْ، يقول: إن أباه كردي وأمه عربية، وهو بعثي مرتبط بالقيادة القومية –مكتب العراق في دمشق. وحصل أن دارت شبهة حوله بأنه متعاون مع بعث العراق، فاعتقلته المخابرات، وجيء به إلى “الحلبوني” وبدأ به التعذيب، وكان الذي يعذبه أبا طلال، فيقول كوسرت: والله يا رفيق أنا بعثي، واسألوا عني القيادة القومية، فيجيبه أبو طلال: “كذا” عليك وعلى القيادة القومية.

يحدثنا كوسرت فيما بعد، وهو يروي قصة تعذيبه فيقول: ما كنت أصدّق أن تشتم القيادة القومية لحزب البعث داخل فرع المخابرات، وأن تصدر الشتيمة من أحد عناصر الفرع!.

ومن القصص الطريفة التي حدثنا بها أبو طلال قصتان:

الأولى تدل على بقايا القيم الدينية في نفسه، وهي أن شاباً اعتقلته المخابرات في الصباح الباكر من أحد الأيام، في منطلق الباصات وهو يريد السفر، وجيء به إلى الحلبوني، ووجهت إليه بعض التهم، وطُلب من أبي طلال أن يقوم بالتحقيق معه. يقول أبو طلال: حاولت معه بالحسنى، وبالتهديد، ثم بالضرب المبرّح… ولكنه لم يعترف بشيء، فوضعته في الزنزانة بانتظار جولة أخرى في اليوم التالي، وكنت يومها مناوِباً (أي عليه أن يبيت في الفرع نفسه) ومع شروق الشمس سمعت خبطاً على باب إحدى الزنازين، فاستيقظت لأستجلي الخبر، وإذا الشاب الذي أتحدّث عنه هو الذي يخبط الباب. فتحت له الباب وقلت له: ما شأنك؟! لماذا تطرق الباب في هذه الساعة المبكرة؟! قال: أريد أن تضربني، أريد أن تعذبني فإنني أستحق ذلك وأكثر!!. قلت في نفسي: هل أصيبَ الشاب بالجنون؟! قلت له: احكِ لي قصتك، فقال: أما التهم التي وجهتموها إلي فأنا منها بريء بريء. ولكنني أستحق الضرب والتعذيب لأن أمي لم تكن راضية عن سفري، وقد أرادت منعي من السفر فعصيتها وخرجت، فهذا نتيجة غضبها، وأسأل الله أن يغفر لي.

أما القصة الثانية فتدل على مدى الرعب الذي يعيشه عناصر المخابرات، إذ صار لهم في المجتمع أعداء كثر. يقول: كنت يوماً  مناوباً في الفرع. وكان علي أن أبيت هناك، لكنني كما أفعل مرات كثيرة، أبقىٰ حتى منتصف الليل ثم أذهب إلى بيتي، وهو قريب من الفرع، ويتحمل عني زملائي الأعباء إلى الصباح، وهي في الغالب أعباء شكلية.

ووصلت إلى البيت ، وبعد دقيقتين سمعت قرعاً بالباب، فقلت: لا شك أن أحد الناقمين كان يترصَّدُني، والآن يريد قتلي أو إيذائي، فلقّمتُ المسدس، وهيأت نفسي لأفتح الباب وأعاجل الواقف خلفه بضربة شديدة تجعله يتدحرج على الدرج ثم أرى إن كان هناك حاجة لإطلاق النار. وفعلاً فتحت الباب سريعاً ووجهت لكْمة قوية لهذا الطارق فتدحرج وهو يقول لي: مالَكَ يا أبا طلال؟ أنا صديقك فلان!!.

لقد كان صديقي فعلاً، وكان يعلم أني مناوب في الفرع، فجاء إلى هناك ليزورني ويسهر معي، فلما قيل له: الآن ذهب إلى البيت، لحق بي، وكان ما كان!.

الشيخ الشاعر يوسف عبيد

        كان من حظّي أن تعرَّفت إلى هذا الشيخ الشاعر في سجن حلب المركزي. فبعد فترة وجيزة من نقلي إلى هذا السجن، تم نقل اثنين من السجناء السياسيين، فصرنا ثلاثة في غرفة واحدة: أنا، والشيخ يوسف، وعبد العزيز ج، المحسوب على البعث العراقي.

        الشيخ أبو ضياء: يوسف عبيد رجل ضرير، ضخم الجسم، خفيف الظلّ، يحفظ القرآن الكريم، ويحمل إجازة (بكالوريوس) في الشريعة، وهو شاعر مجيد، ينتمي إلى حزب التحرير. ويكاد كل شعره أن يكون شعراً ملتزماً، بل إنَّ السبب المباشر في اعتقاله كان قصيدة قالها في هجاء حافظ أسد واتهامه إياه بالخيانة.

        ولا غرابة أن يكون يوسف عبيد من فحول الشعراء، فهو من قرية “عين النخيل” من أعمال منبج وما أكثر الشعراء الفحول المنبجانيين، بدءاً من البحتري، ومروراً بعمر أبي ريشة، ثم محمد منلا غزيّل وعبدالله عيسى السلامة… ولعلّ منبج قد أنجبت شعراء كُثُراً آخرين، فلست ممّن يتابع تاريخ الأدب والحركة الأدبية.

*   *   *

        بعد حرب تشرين “التحريرية”! قام وزير خارجية الولايات المتحدة هنري كسنجر، بزيارات، وُصفت بالمكّوكيّة، بين واشنطن وتل أبيب ودمشق. وفي إحدى المرات طال الفاصل بين زيارةٍ له وأخرى، فقد أمضى مدة تزيد على الشهر في الولايات المتحدة، تزوّج حينَها من “نانسي”، وعاد إلى دمشق، في استئناف لرحلاته المكّوكية.

        الشاعر يوسف عبيد نظم قصيدة بعنوان “شهر العسل”، على أنه لزيارة كسينجر هذه، بصحبة عروسه. ابتدأ الشاعر قصيدته واصفاً العروس وعروسه:

شربَ المُدامةَ وانثنى نشوانَ مغـرور  الأمــاني

واختال فوق الريح في سبّاقةٍ كالبرق  جامحةَ العِنان

وعروسُهُ الحسناء في صَلَـفٍ تتيـه بعُنفـــوانِ

والخنجر المسـموم في يـده كَنَـابِ  الأُفعــوان

وحقائبُ الدولارِ مُثقلةٌ فِصاحَ النطق،  ساحرة البيان

يُلْقَى بها ثمناً لمأجورٍ صغيرِ النفس خَوَّانٍ جبــانِ

فلتبرزِ الأوطانُ هاتفةً مُرَحِّبَةَ المرابع والمغانــي

بوزير أمريكا بِرَكْبِ عروسه الحسناءِ سيِّدةِ الغواني

وفي مقطعٍ آخر يخاطب رأس النظام:

يا مَنْ تسير وراء أمريكا ذليـل الـرأس، منقاد اللجـامِ

   وترى الوسام الأجنبي بصدرك الخاوي فتفخر بالوسـام

 وتَعَبُّ كأس الغدر خلف ستائر الإجرام، والجولان ظامي

لا تَحسَبِ الأوطان غافلةً عـن اللُّعَبِ المُدمِّرةِ الجسـامِ

وهكذا إلى آخر سبعين بيتاً.

        ويبدو أنه ألقى هذه القصيدة في عدد من السهرات والتجمعات. فاعتقلته المخابرات، وسجنته في فرع مخابرات حلب، ثم في الحلبوني، ثم كان مستقرُّه في سجن حلب المركزي.
        وفي كلِّ سجن من هذه السجون كان رؤساء هذه السجون، ومحقّقوها، وسجّانوها، وسجناؤها… يُعجبون بالقصيدة، ويلتذّون بسماعها، لكنَّهم لا يجرؤُون غالباً أن يُبْدوا إعجابهم بها وبقائلها، وشماتتهم بـ “بطل الجولان” فكانوا يحتالون لسماع القصيدة مرة تلو الأخرى.

        ففي بداية الاعتقال استمع المحقق إلى القصيدة كاملةً من الشاعر، وبعد ذلك قال كلاماً يلوم فيه ذلك الشاعر لَوْماً رسمياً!. يقصُّ أبو ضياء علينا قصة جلوسه أمام هذا المحقق:

وجلسـتُ فـي صمـتٍ وألـقى بالسـؤال: أَأَنـتَ شاعـــر؟!

ومتى نظمتَ الشعرَ، أوَ ما علمتَ بأنَّ نظم الشعر من إحدى الكبائر؟

ولـمَ الهجــاءُ المـرُّ للأسـد الهمـام، وعَدْلُه كالشمس ظاهـر؟!
وإذا تطـاول شاعـرٌ يهجـوه، فالمذيـاعُ يُخْـرس كـلَّ شاعــر.

        وهكذا في قصيدة جديدة، يردُّ فيها على المحقّق “الموظف”.

        وفي الحلبوني كذلك، كان يأتي عنصر المخابرات، من سجّانٍ أو محقّق، أو رئيس حَرَس… فيقول:  هل صحيح يا أبا ضياء أنك نظمت قصيدة في هجاء الرئيس؟! فيقول: نعم. فيقول: هل يمكن أن تسمعنا إياها؟!.. فيسمعه إياها كاملة.

        يذهب هذا “العنصر” ثم يعود ومعه عنصر آخر أو اثنان، ويطلب من أبي ضياء أن يُسمع القصيدة ثانية.

        ثم يأتي عنصر آخر فيكرر القصة. وكلهم يبدي سروره وإعجابه! فتصوّروا.

        بل إننا، في سجن حلب المركزي، شاهدنا موقفاً أعجب. ففي أمسية أحد الأيام، كان يمرّ أمام السجن قائد شرطة محافظة حلب، ومعه “النائب العام” وبدا لهما أن يزورا ذلك السجن. واستقبلهما الضابط المناوب النقيب نهاد شقيفة، وراح الثلاثة يتجولون في ردهات السجن. فلما مرّوا أمام غرفتنا توقفوا، وتعرّفوا بنا وبقضايانا, وكان منظر أبي ضياء لافتاً للانتباه، فهو سجين سياسي ضرير! سأله قائد الشرطة: ما قضيتك؟. قال: قلتُ قصيدة في هجاء الرئيس!. قال: هل تسمعنا إياها؟! قال: نعم. وبدأ ينشد قصيدته. وكنتُ أنظر في وجوه الثلاثة: النقيب والضيفين، فأرى مظاهر الفرح والإعجاب.

        وبعد ذهابهم. عاد إلينا النقيب فقال: إنَّ السيد رئيس شرطة المحافظة يطلب نسخة من القصيدة!!!.

*   *   *

        وأختم هذا الحديث عن الشاعر أبي ضياء، فأقول: لكل شاعر أبيات يقولها تندّراً وتملُّحاً، وتكون في الغالب بِنت لحظتها، وهي، وإن لم تكن في مستوى الشعر العالي الذي ينسب إليه، تعبِّر عن مشاعره العفويّة.

        مرّة كان يتناقش مع أحد البعثيين، فقال البعثي: شعارنا: أمة عربية واحدة. ذات رسالة خالدة. فسأله أبو ضياء: وما تعريف الشعار؟! فارتبك. وبعد ذهابه قلت: أتسأله عن التعريف، والتعريفات يعجز عنها من هو أكثر علماً وثقافة منه، بل لعلَّ هذا “الرفيق” لا يفرِّق بين الشعير والشعار؟! فضحك وقال:

الشِّعر والشعير والشعار         يحسبها سواءً الحمارُ

———-

        ومرة، فقد نعليه من مكانهما. وهو يسمي النعلين “كُلاشاً” فقلت له: خُذْ أيَّ كُلاش من كلاشاتنا! فقال:

إذا ذهب الكُلاش فلا كلاشٌ      يقومُ مقامهُ عند اللَّبـوس

كان شِراكَهُ لمســاتُ خَزٍّ  كأنَّ مَدَاسَهُ وجه الرئيس!.

———-

        وقد قضينا في السجن معاً ما يزيد على السنة، فكانت روح أبي ضياء الحلوة تُذهب أكدار السجن، وتضفي عليه سروراً وحبوراً.

        رحمه الله رحمةً واسعة، فقد علمت أنه توفي في صبيحة يوم الأربعاء 24/10/1427هـ- 15/11/2006م.

وهو من مواليد قريته (عين النخيل) عام 1931م.

أدب السجون يزدهر في تركيا

كتب الصحافي كريم فهيم في صحيفة “واشنطن بوست”، أنه فيما يقبع معارضون في سجون تركيا على مر تاريخها الحديث المضطرب، فإن القصائد والمذكرات والروايات الخيالية وحتى سيناريوهات الأفلام، كانت دائماً تتسلّل إلى الخارج.

وتتمتع تركيا بتاريخ طويل من أدب السجون، لكن السنوات الأخيرة كانت مثمرة بشكل خاص. فقد أدت حملة القمع التي شنتها الحكومة والتي وضعت الآلاف من الناس وراء القضبان إلى طفرة ملحوظة في النشر، إذ نشرت ثمانية كتب على الأقل من سجناء حاليين أو سابقين، خلال العامين الماضيين وحدهما

أوضح فهيم أن إحدى هذه الروايات كانت عبارة عن مذكرات كتبها الروائي أحمد ألتان بعنوان يوحي بمدة طويلة من السجن:”لن أرى العالم مرة أخرى”. كما أن صلاح الدين دميرطاش، محامي حقوق الإنسان السجين والرئيس المشارك السابق لأكبر حزب معارض، وضع كتاباً حزيناً من القصص القصيرة، التي أصبحت من أكثر الكتب مبيعاً في تركيا، وتنشرها الممثلة ساره جيسيكا باركر، التي باتت بصمة أدبية جديدة في الولايات المتحدة.

لمحة عن الاضطرابات
ومع توسع السجون في تركيا، تقدم أحدث الكتب لمحة عن الإضطرابات السياسية في البلاد خلال العامين اللذين أعقبا المحاولة الإنقلابية الفاشلة في عام 2016 ضد حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان. وسجنت السلطات عشرات الألاف من الأشخاص الذين تم اتهامهم بمساعدة الإنقلابيين أو حزب العمال الكردستاني المحظور.

6 كتب على الأقل

وطاولت أحكام السجن صحافيين وسياسيين معارضين وغيرهم من النقاد، كما تبخر تسامح الحكومة مع أصوات المعارضة. وتم تأليف ستة كتب على الأقل من قبل أعضاء في حزب سياسي مؤيد للأكراد . وكان العشرات من أنصار حزب الشعوب الديمقراطية قد سجنوا أو طردوا من مناصبهم عقب اتهامهم بالعلاقة مع حزب العمال الكردستاني، علماً أن الحزب نفى أي صلة له بالمتشددين. وفي كتاب ألفته غولتان كيساناك، الرئيسة السابقة لحزب الشعوب الديمقراطية التي أمضت 14 عاماً في السجن، عمدت إلى إرسال أسئلة لسجناء آخرين عبر محاميهم. وأبرزت شعبية بعض الأعمال الإقبال المرن على أدب السجون. ويبدو أن جميع القراء لديهم تقريباً كاتب مفضل على الأقل أمضى فترة في السجن.

تقليد القراءة
وأشار فهيم إلى أن مورين فريلي التي ترجمت كتاب دميرطاش “الفجر” إلى الإنكليزية كتبت في مقدمتها أنه “إلى جانب التقليد العظيم في تركيا لكتابة المقاومة، هناك تقليد عظيم من قراءة هذه الكتب”. واستناداً إلى ناشر الكتاب، فإن 200 ألف نسخة منه قد بيعت منه في تركيا. وقالت آيمي ماري سبانغلر، التي تمثل دميرطاش وغيره من المؤلفين في تركيا، إن الحجم الفعلي لقراء “الفجر” من المرجح أن يكون أكبر. وأضافت أنه من الصعب في بعض الأحيان العثور على المكتبات، لكن بسبب شعبية المؤلف، فقد تم تناقل نسخ من الكتاب في ما بين الأشخاص الذين لا يشترون الكتب عادة. وفي ديسمبر (كانون الأول) نشرت صورة في مجلة “فوغ” لأوف باركر وهي تحمل كتاب “الفجر” أمام منزلها في ويست فيلدج بنيويورك على وسائل التواصل الإجتماعي مما تسبب بضجة كبيرة في تركيا واتهمتها حكومة أردوغان بنشر الدعاية الإرهابية في الخارج.

الدعم الخارجي
ولفت الكاتب إلى أن الحديث عن الدعم الخارجي في تركيا ليس جديداً، إذ قام بابلو نيرودا وغيره من الفنانين العالميين بحملة لإطلاق سراح الشاعر التركي ناظم حكمت. وفي عام 1982 منحت لجنة تحكيم في مهرجان كان السينمائي التركي يلماز غوني جائزة عن فيلمه الذي أخرجه من السجن.

المصدر

24.ae

معتقلات السيسي تُعيد إحياء “أدب السجون” عبر رسائل من خلف القضبان

أعاد معتقلون مصريون إلى الصدارة نوعا من الأدب اختفي  منذ سنوات مضت، لا تكاد تقترب منه أضواء النقد، إلا في حالات نادرة، وهو أدب السجون.

في 25 أكتوبر الماضي، أثارت رسالة مهربة من سجين مصري شاب، يدعى أيمن علي موسي، حالة من التعاطف الشديد على مواقع التواصل الاجتماعي.

موسى جرى فصله من كلية الهندسة في الجامعة البريطانية بالقاهرة، وحكم عليه بالسجن 15 عاما؛ بتهمة التظاهر في أكتوبر2013.

ولم يستطع هذ الشاب أن يودع والده، الذي توفي بعد عام من حبسه ولم يحضر أيضا جنازته؛ ما دعاه إلى استعادة ثلاثة أعوام قضاها سجينا، فكتب رسالة تهنئة لنفسه بعيد ميلاده.

يقول موسى: “عيد ميلاد سعيد؟! ..٢٥ أكتوبر ٢٠١٣ أتممت سن المراهقة في السجن، كان عيدُ ميلادي الواحد والعشرون هو الأول في السجن.. ٢٠١٤، كان الثاني…، ٢٠١٥، الثالث…، اليوم… ٢٠١٦… هو عيد ميلادي الثالث والعشرون… الرابع في السجن.. أُول عيدِ ميلاد بدون أبي… بدون مستقبلٍ واضح أمامي، بعدما تم إيقاف قيدي بكلية الهندسة، بعدما تم الحكم عليّ بالسجن خمسة عشر عامًا بدون سبب! أجلس في زنزانتي على الأرض، حيث أنام، أشعر بأني فأر محاصر في مصيدة بمعمل، ينتظر أن تتم عليه التجربة، ولا أعلم بأي النتائج ستنتهي، إلى أي شيء ستحوّلني!!”.

 يضيف موسى: “أنا متعب من خسارة هدية في كل عيد ميلاد.. هذا العام، بدلاً من أن أرتدي قبعة التخرج والعباءة مع أصدقائي، حاصلاً على شهادة تخرجي، ارتديت بدلة سجين وأصفاد يد، منتظرًا أن يتم نقلي إلى سجن آخر هذا العام.. تغيبت عن جنازة أبي.. أنا أفتقد أبي”.

بعد حكم الرئيس المصري، جمال عبد الناصر (1956: 1970) لاقى أدب السجون اعترافا نقديا، حيث ظهرت مذكرات وكتابات روائية مختلفة،لكن في المرحلة الراهنة بمصر، ظهر أدب السجون في صورة جديدة، وهي رسائل مهربة تحمل تنقل آلاما وآهات من خلف قضبان السجون.

وتعكس هذه الرسائل أوضاعا غير إنسانية، بحسب سجناء، وهي تُكتب أحيانا على أوراق علب السجائر، وتبقى المتنفس الوحيد لآلاف الشباب المحبوسين (دون حكم قضائي)، والمسجونين على خلفية احتجاجات سياسية مختلفة.

ويعرف الشاعر والكاتب السوري، ممدوح عدوان، في كتابه “حيونة الإنسان”، أدب السجون بأنه “نوع من الأدب استطاع أن يكتبه أولئك الذين عانوا السجن والتعذيب خلال فترة سجنهم وتعذيبهم أو بعدها، أو كتبه الذين رصدوا تجارب سجناء عرفوهم أو سمعوا عنهم”.

وقبل أيام، بعث الباحث والصحفي المصري، هشام جعفر، المحبوس في سجن “العقرب” جنوبي القاهرة، برسالة إلي ابنه قال فيها: “”ابني العزيز عدنان.. اشتقت إليك وإلى أحفادي كثيرا، اشتقت إلى روجيدة وتمنيت رؤية آدم، اشتقت إلى بذور هذا الوطن”.

ورغم حبسه منذ منذ أكثر من عام دون حكم قضائي يدينه، يوصي جعفر ابنه بقوله: “إياك يا بني أن تزرع فيهم (الأحفاد) كره هذا الوطن، إياك يا بني أن تدعهم يفقدون الانتماء إليه أو يفقدون الرغبة في ذلك، إياك إياك”.

ويعاني جعفر (52 عاما) في السجن من حالة صحية متردية، تشمل ضعف البصر والتهاب البروستاتا والضغط والسكري.

وهو رغم ذلك يوصي ابنه عدنان قائلا: “ازرع بداخلهم (الأحفاد) هذا الوطن، لا تدعه يخرج من قلوبهم، إجعلهم دائما يشتاقون إليه ويشعرون بالحنين، وإن كفرت أو كفروا، فحينها سأتيقّن أن ضريبة سجني ذهبت سدى.. أنا لم ولن أكفر بالوطن فلا تدعهم يكفرون به. ودمنا إلى لقاء أتمناه قريبا”.

وفي أكتوبر 2015، اقتحمت عناصر من قوات الأمن المصرية مقر عمل جعفر في “مؤسسة مدى الإعلامية” (غير حكومية)، وألقي القبض عليه، ثم نقل إلى سجن العقرب، ولم تتم إحالته إلى القضاء حتى الآن.

ومن بين السجناء في مصر، الناشط السياسي الشاب أحمد دومة، وهو يقضي عقوبة السجن المؤبد (25 عاما) في القضية المعروفة إعلاميا بـ”حرق المجمع العلمي” وسط القاهرة في ديسمبر/ كانون الثاني 2011، إضافة حكم بالحبس ثلاث سنوات بتهمة خرق قانون تنظيم التظاهر.

ومن خلف القضبان، قال دومة (28 عاما) في رسالة مهربة: “أصبح اشتياقي للأشياء التافهة موجعا للغاية. أن تدخن سيجارة في شرفة منزلك، تتمشى ليلاً في شوارع وسط البلد (يقصد القاهرة)، تجلس مع رفاقك على القهوة، تأكل الآيس كريم المفضل وأنت تقرأ، تقف بجوار صديق يحتاجك، تتلقى العزاء حتى في صديق مات.. لا تعرف قيمة الأشياء في حياتك وإن بدت تافهة إلا بعد فقدانها”.

واشتهرت العديد من الأعمال الأدبية العربية والغربية باعتبارها تنتمي إلى أدب السجون، لكن تبقي الأعمال التي كتبها مبدعون فلسطينيون وسوريون ومصريون ومغاربة هي الأبرز في هذه المساحة من المعاناة الإنسانية.

وتعد رواية “فرج” للكاتبة والأديبة المصرية الراحلة، رضوى عاشور، والصادرة عام 2008، واحدة من أبرز هذه الأعمال، إذ تنقل تجربة أجيال متتالية مع السجن، بداية من تجربة والدها، ثم تجربتها هي، وأخيرا تجربة شقيقها الصغير.

وعبر هذه الأجزاء الثلاثة، يعرض ذلك العمل الأدبي تفاصيل الملاحقة والقمع السياسي في فترات مختلفة، وكأنها أرادت القول إن التجربة واحدة ومشتركة.

وعن السجون المصرية خلال حكم عبد الناصر، قدم الكاتب المصري الراحل أحمد رائف عام 1977 كتاب “البوابة السوداء”، الذي رصد فيه تجربته وتجربة رفاق له من جماعة الإخوان المسلمين، إضافة إلى سجناء آخرين شيوعيين وغيرهم، حيث نقل تجارب شخصية جدا له ولرفاقه في أقبية التحقيق والتعذيب.

وفي كتابها “مذكراتي في سجن النساء”، الصادرة عام 2000، تقدم الكاتبة المصرية، نوال السعداوي، عرضا للاعتقال السياسي خلال حكم الرئيس المصري الراحل، أنور السادات (1970: 1981)، الذي شنت أجهزته الأمنية حملات اعتقال كبيرة بحق مثقفين وكتاب مصريين. وتتميز رواية السعداوي لمذكراتها بجمعها بين نوعين من القمع، هما القمع السياسي وما تطلق عليه “القمع الذكوري للمرأة في المجتمع المصري”.

المصدر رصد

أدب شباب السجون.. صُنع في مصر

“هل تعرف ما مصير الحكايات التي لا نكتبها؟، إنها تصبح ملكًا لأعدائنا”.

منذ أن عرف العالم سلطة من بني البشر عرف سجنًا، ومنذ ذلك الحين تحولت تلك “العتمة المبهرة” إلى مساحة تربطنا بها الحكايات، حكايات من عاشوا فيها، من ظُلموا فيها، من ماتوا فيها، ومن عادوا منها إلى الحياة، روحًا قبل أن يكون جسدًا. عُرفت هذه الحكايات حديثًا حينما تم تدوينها وسردها في صورة أدبية باسم «أدب السجون»، واليوم نلقي الضوء على تطور جديد يشهده العالم في هذا اللون من الأدب. ففي العصر الذي سُجن في مصر عشرات الآلاف من الشباب على خلفية احتجاجات سياسية، خُلق ودون ترتيب مسبق نوع جديد من أدب السجون، سنسميه اصطلاحًا «أدب شباب السجون». هذا النوع الجديد تميز بخصال متفردة نتأمل فيها اليوم ونعيد قراءتها لنذكر أنفسنا بهم من جانب، ولنحمي ذكرانا جميعًا من النسيان أو السرقة على الجانب الآخر.

الكتابة طوق نجاة وحيد

 تمثل الكتابة حاليًا في مصر موطن القوة الوحيد للشباب. فبعد هزائم متتالية في كافة الاستحقاقات الأخرى وفقدان الأمل في القدرة على التأثير، بقيت الكتابة كآخر ملجأ لهم، نكتب ونكتب في كافة الفراغات المتاحة للكتابة، نكتب لنسخر ممن يقهرونا، كما نكتب لنخلد من لم نستطع إنقاذهم.

لذا فالكتابة في سجون مصر لها وضع خاص، ففوق كل هذا هي ليست فقط سبيلًا للهروب من إحباط السجون أو طريقة لقتل الوقت حيث لا وقت يمر، كما تخرج معظم كتابات أدب السجون الكلاسيكي، الكتابة هنا تخطّت ذلك لتصبح طوق النجاة الوحيد. الشاب في سجون مصر لا يكتب لتدوين مذكراته كما أنه لا يأمل في جمع كتاباته لاحقًا لنشرها في صورة منتج أدبي، الشاب في مصر يكتب لأنه ما زال يصدق أن هناك من سيقرأ هذه الكلمات وسيتدخل لإنقاذه، أو على أقل تقدير سيتدخل لتحسين ظروف “الحبسة”، الشاب في سجون مصر يكتب تمسكًا بالحياة.

يقول عمر حاذق في رسالته من سجن برج العرب في فبراير 2014 والمعنونة “أن تكتب بجوار برميل زبالة”: “مَنْ كان يتخيل أنني قادر على الكتابة في جوار هذه الصراصير كلها؟”.

ثم يذكر في رسالة أخرى في نهاية ديسمبر 2014 تحسن ظروف كتابته؛ إذ أصبح قادرًا على صنع مكتب صغير من قفص طماطم قديم وزادت الإضاءة المتسربة عبر الزنازين بعض الشيء وتم شفاؤه من “الجرب” الذي أصابه نتيجة انتشار العدوى في سجون مصر رديئة التهوية مزدحمة النزل التي يتكدس فيها أكثر من خمسين شابًا في ثلاثة أمتار، فيقول:

“الحياة تدافع عن نفسها يا إخوتي في محبة هذا الوطن، لذلك لم أقدر على النجاة من هذا الشهر الفادح إلا حين أقنعت نفسي أنني إنسان نظيف لأن قلبي نظيف وهذا يكفي؛ لأنني أحب الحياة والحرية وفقراء شعبي وهذا يكفي، لا تنسوني من محبتكم ودعواتكم وأمنياتكم الجميلة”.

(عمر حاذق، رسالة بعنوان “شجرة الكريسماس في زنزانتي”).

 خرج «حاذق» من سجن برج العرب يوم الأربعاء ٢٣ سبتمبر ٢٠١٥ بالعفو الرئاسي الصادر لمائة ناشط (من بين أكثر من ٤٠ ألف سجين سياسي)، ليكتب بعد ذلك سلسلة من المقالات تحت عنوان “لماذا يموت السجناء في سجون مصر؟”. هي الكتابة مرة أخرى، طوق نجاة يتشبث به من في الداخل والخارج على حد سواء.

مقاومة النسيان وسط زحام الزنازين

“أتعرفين يا آمنة متى يستسلم الإنسان؟، يستسلم الإنسان حين ينسى من يحب، ولا يتذكر سوى نفسه”.

وسط عشرات الآلاف من الشباب في السجون، أصبحت الكتابة وسيلة لمقاومة النسيان، أصبح من يكتبون هم القادرين على لمس أرواح البشر وشغل مساحة في بالهم، هم القادرين على منع أحبابهم من اعتياد غيابهم، في حين يبقى الصامتون منسيين.

ولذلك اتصف “أدب شباب السجون” بحرية في استخدام اللغة، فمن يكتب ليس كاتبًا محترفًا ولا أديبًا يشغله حسن الصياغة وتراكيب الفصحى، من يكتب يهتم بأن ينقل ثقل الظلام الساكن في روحه إلى أحبابه و رفاق جيله، ينقله لهم من وسط عتمة الحقيقة ولكنه يظل مستمسكًا برحابة الخيال.

الشاب في سجون مصر يكتب وهو يبكي في أغلب الأحيان، لذا تخرج الكتابة محملة بالعواطف حتى تكاد تتحول لمشاهد حية وأنت تقرؤها. “يا ناس نصيبها من الوطن أوجاع، الوجع هنا مهما اتوصف مش هيتحس”، هكذا يبدأ طلاب طنطا (أحمد أبو ليلة، إبراهيم سمير، عبد الرحمن سمير) والمحبوسون على خلفية الاحتجاجات الطلابية على بيع حزيرتي تيران وصنافير في رسالتهم الأخيرة، قبل أن ينهوها كالتالي:

“الحرية للحضن اللي نفسه يعدي سلك الزيارة، الحرية للصبح اللي بيتحايل

 على القضبان يدخل علشان نشوفه، الحرية لأصحاب القضية اللي اتنسوا”. 

يقضي طلاب طنطا الآن مدة التجديد الثالثة على ذمة تحقيقات تتهمهم بالتعبير سلميًّا عن رفضهم لبيع الأرض، وما زال زملاؤهم وأحبتهم متمسكين بألا يسقطوا في بئر النسيان.

مراجعات وسط حطام الهزيمة

“نحن لسنا أبطالاً، ولكننا مضطرون أن نكون كذلك”.

هُزم جيل الشباب وهو الآن يتلقى عقابه على مطالبته بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية في يناير، ووسط ظلام السجون يتلقى هؤلاء الشباب صدمة جديدة تدفعهم لمراجعة كل ما آمنوا به، تتطور كتابات المحبوسين منهم تبعًا للمدة، وتبعًا للأمل في الخروج، في حين تصبح أكثرها اتساقًا مع الحقيقة مع من حصلوا على أحكام بالسجن وليسوا فقط محتجزين كمحبوسين احتياطيًا. تشهد كتابات هؤلاء على وجه الخصوص مراجعات شديدة الأهمية في نهج أفكار جيل مكتمل، تعيد تقييم مساره الاحتجاجي والتنظيمي، كما لا تخلو من ندم على أخطاء اقترفوها وفرص تم إضاعتها من بين أيديهم.

“ليس لدي شيء لأقوله: لا آمال، لا أحلام، لا مخاوف، لا محاذير، لا رؤى، لا شيء، لا شيء مطلقًا. لقد حاولت أن أتذكر ما كتبته للجارديان منذ خمس سنوات مضت حينما عشت آخر أيام حياتي الطبيعية. إني أحاول أن أتخيل من قرأوا ذلك المقال، وأي تأثير كان له عليهم. أحاول أن أتذكر كيف كانت الحياة حينما كان الغد يبدو مفتوحًا على المُمْكِنات، وحينما بدا أن كلماتي لها فعالية التأثير (ولو قليلًا فقط) على الصورة التي يمكن أن يبدو عليها ذلك الغد”.

(علاء عبد الفتاح في رسالة نشرت في الذكرى الخامسة للثورة).

هذا الشعور العميق بالحزن الممتزج بالملل القاتل من ظلام السجن لم يمنع هذه الكتابات من أن تحمل بين طياتها شعورًا بالفخر على الأوقات التي استطاع فيها هذا الجيل أن يملك زمام حياته وأن يغير من المعادلة ولو لم يمتد هذا إلى القليل من الزمن. يقول «أحمد سعيد» الطبيب المصري الذى يقضى حكمًا بالسجن لعامين على خلفية قانون التظاهر: «لكنني فعلت ما فعلت حتى أشعر بأنني حر، وكي أسترد حريتي قبل أن تتحول إلى ذكرى فحسب، وحتى أحافظ على بصيص الضوء الأخير الذي انبثق من الثورة، وعن حلم الزمن الذي شعرت فيه بأنه لا بد لأحدهم من أن يفعل هذا».

“رغم ذلك، هناك أمر واحد أذكره فعلًا؛ شيء واحد أعيه: الشعور بالاستطاعة كان حقيقيًا. ربما كان من السذاجة أن نصدق بأن أحلامنا قد تتحقق؛ لكنه ليس من الغباء أن نعتقد بأن عالًما آخر هو شيء ممكن. لقد كان كذلك بالفعل، أو على الأقل تلك هي الصورة التي أذكر بها الأمر”.

(علاء عبد الفتاح في رسالة نشرت في الذكرى الخامسة للثورة).

نربي الأمل ونحب الحياة

“وإن عشنا سأذكرك أننا سنبكي كثيرًا بعد أن نتحرر”.

قد تكون هذه هي الصفة الجامعة الوحيدة في كافة كتابات هذا الجيل، لتصبح هي الصفة المميزة لأدب شباب السجون كما سميناه في بداية هذا المقال، حب الحياة هو المحرك لكل هذا، لا فارق بين كتاباتهم الحزينة وتلك الفرحة، المتفائلة وتلك التي أصابها الإحباط، الكتابات التي تدّعي القوة وتلك التي تعترف بأنها وأصحابها قد أصابهم الوهن، الجميع وخلف كل هذه الرتوش يتمسك بحبه للحياة.

“هذا الجيل الذي شعر في لحظة ما أنه أمام ميلاد جديد لوطن يعشقه، تخلى عن كل ما يشغله لبناء مستقبله الشخصي والتفت بكل كيانه لهذا البناء الجديد”.

(من رسالة جعفر الزعفراني إلى ابنته).

هذا الجيل قد فتح عينيه على أحلام وآمال في عالم أفضل، اتصل بباقي البشر في مختلف أنحاء العالم وتمنى أن يلحق بركب التطور البشري حتى أصبحت غايته الأسمى هي السعادة، فلما ارتطم ببشاعة الماضي وضيق أفقه عاد ليلجأ لدافعه الوحيد للبقاء على قيد الحياة، وهذا الدافع هو ما يدفعه كل يوم للكتابة، الأمل في أنه يومًا ما سيحيا حياة سعيدة، تلك الحياة التي أحبها قبل أن يراها.

يقول الباحث والحقوقي محمد ناجي في رسالته الأخيرة التي كتبها من محبسه إثر إلقاء القبض عليه بتهمة التعبير سلميًّا عن رفضه لبيع جزيرتي تيران وصنافير:

“لعلك تتساءل الآن وأنت تقرأ هذه السطور عن كيفية دخول شخص يدعى حب الحياة بهذا الشكل في إضراب مفتوح وكلي عن الطعام منذ الأربعاء 18 مايو 2016. أليس هذا تناقضًا؟!، لا. لا أراه كذلك على الإطلاق بل هو قمة الاتساق؛ فأنا الآن أدافع بحياتي عن حياتي، أقامر بكل شيء من أجل كل شيء. ومن ناحية أخرى لم يأت هذا القرار من إحباط أو يأس وإنما الأمل، ذلك الأمل الذي يدفعنا إلى استخدام كل أسلحتنا لتحقيق ما نحلم به”.

قبل أن يختتم رسالته بجملة نجيب محفوظ الخالدة في الحرافيش: “لا تجزع، قد ينفتح الباب يومًا لأولئك الذين يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة”.

مجلة المجتمع