أبو راشد عبد الهادي و”الجندي”
كان رجلاً ضخم الجسم، أبيض البشرة، أقرب للشُّقرة، دمثاً حلو الحديث… لكنه كذلك سريع الغضب، وإذا غضب خرج عن حدود الاتّزان. قوي الشخصية، قوي الإرادة، عنيد..
اسمه أبو راشد: أحمد راشد عبد الهادي، فلسطيني من جنين، ينتمي إلى حزب البعث، وقد كان معتقلاً لبضع سنوات في سجون بعض الدول المجاورة عندما حدث انقلاب الثامن من آذار 1963م، وعندئذ ارتفعت معنوياته، وازداد تمسكه بحزبه، وراح يحلم بأن تمتدّ “الثورة” إلى أقطار مجاورة، فيحرّره رفاقه من سجون “الرجعيين”!.
خرج من السجن فتوجه إلى بلد الصمود والتصدي، وصار قائداً في قوات “الصاعقة” التي ترعاها سورية، برتبة رائد. وبسبب حزبيته وموقعه الجديد توثّقت علاقته بالمسؤولين السوريين، العسكريين والأمنيين، لا سيما “عبد الكريم الجندي” مدير المخابرات العامة!.
لكن الصورة المتوهجة التي كان قد رسمها في مخيّلته للرفاق المناضلين والحزب القائد، بدأت تخبو تدريجياً، ثم صارت قاتمة سوداء، وهذا ما دعاه إلى انتقاد تصرّفات السلطة والحزب وأجهزة الدولة، في بعض المناسبات، ولأنَّ “النقد الذاتي” محظور فقد جاء “زائران” إلى أبي راشد يطلبان منه زيارة أحد فروع الأمن! قال لهما: عندي سفرٌ غداً، فأريد أن أمرّ على مكتب الطيران حتى أؤجل الحجز، فأتمكن من السفر بعد انتهائي من زيارة فرع الأمن هذا!. قالا: لا حاجة. زيارتك لن تستمر أكثر من نصف ساعة، وبإمكانك أن تسافر غداً في الوقت الذي حجزته من قبل!.
وكما هي العادة، فإن دقائق “المخابرات” تُعَدُّ بالأسابيع أو الشهور أو السنين. وفعلاً استمرت إقامة أبي راشد في “الحلبوني” حوالي ثلاث سنوات.
وفي الحلبوني قضى في إحدى الغرف شهوراً مع الرفيق الآخر نقولا حنّا. وكان كل من الرفيقين على علاقة سابقة بمدير المخابرات العامة السابق عبد الكريم الجندي.
أما الأستاذ نقولا، فيحدثنا عن ذكرياته مع “الجندي” يوم كان هذا “الجندي” وزيراً للإصلاح الزراعي، وكان نقولا رئيساً لفرع الحزب في الحسكة. يقول: أُبلِغنا بأن السيد الوزير سيزور المحافظة للقيام بمهماته بالإشراف على مديرية الإصلاح الزراعي هناك، وسوف يأتي بالطائرة وينزل في مطار الحسكة في يوم كذا. وكنتُ بين كبار المستقبلين له، وفي صالة استقبال الشرف في المطار، جلسنا قليلاً لنشرب فنجان القهوة، وأخرجت من جيبي علبة السجائر لأقدّم له سيجارة، وكانت السجائر أمريكية! فنظر إليّ غاضباً معاتباً: “يا رفيق! أنحن ندخّن التبغ الأجنبي؟!” فخجلت من نفسي. وأخرج الوزير سيجارة “وطنية”، وقدّم إليّ سيجارة مماثلة.
وابتلعتُ الإهانة، واحمرّ وجهي خجلاً من هذا الموقف أمام مجموعة المستقبلين!.
وكان من برنامج الزيارة سهرة سمر فنّية!، وكنت بجوار السيد الوزير في هذه السهرة، فأنا من أهم رجالات الحزب هناك، وفي هذه السهرة، أخرج “الجندي” علبة سجائر أمريكية من جيبه، وولاعة ذهبية، وقدّم لي كذلك سيجارة، وأشعلها لي بولاعته الفاخرة!. فلم أتمالك نفسي: “يا رفيق، اليوم وبّختني في صالة الاستقبال في المطار لأنني قدمت إليك سيجارة أمريكية، ثم ها أنت ذا تفعل مثله وزيادة!” فقال: في الصالة كان يوجد آخرون، غير حزبيين، ويجب أن نظهر أمامهم بمظهر أخلاقي ثوري، أما هنا فلا يوجد غير الحزبيين!!!.
وتأتي مرحلة يصبح فيها “الجندي” مديراً للمخابرات العامة، ويكثر تردده على فرع الحلبوني ليتعرّف بنفسه على المعتقلين أولاً بأول، وقد يشرف بنفسه على بعض التحقيقات، وقد يحلو له أن يمارس أنواعاً ثورية من التعذيب، ففي بعض المرات، يأمر الجلادين بأن يلقوا السجين على ظهره، ويفتحوا فمه، ويقوم مدير المخابرات العامة بالبول في فم السجين!!.
ومرة يتم اعتقال مجموعة من الضباط في الجيش السوري، بتهمة تشكيل نواة لتنظيم خاص!. ويمرُّ مدير المخابرات العامة على الزنازين التي يُحتجز فيها هؤلاء، فيفتح “الطاقة” على كلٍّ منهم، ويطلب منه أن يقترب من الطاقة، ويُمسك مدير المخابرات بيده أحد نعليه (وكثيراً ما كان يلبس البدلة الخاكي الرمادية، ويلبس بقدميه النعلين المعروفين بالشاروخ!) ويضرب رأس الضابط السجين ووجهه بالنعل!. وجاء دور ضابط سجين برتبة ملازم أول. وحين أمره مدير المخابرات بالاقتراب من الطاقة، وبيده النعل، صرخ الملازم الأول: أيها الحقير، أتُظهر قوتك عليّ، وأنا في الزنزانة؟! إذا كنتَ رجلاً فافتح الباب عليّ، وتجرّأْ على ضربي!.
عندئذ أمَرَ مدير المخابرات العامة السجّانين بفتح الباب لذلك الضابط، وأن يصنعوا فنجانين من القهوة، له وللضابط. وجلسا متقابلين على الطاولة، وقال “الجندي”: إنَّ جميع زملائك الذين تحمَّلوا مني الضرب ولم يردُّوا: كلاب. وأنت وحدك الرجل من دونهم!.
* * *
وينتحر عبد الكريم الجندي، ويشكك بعض الناس بالخبر، ويقولون: بل إنَّ حافظ أسد هو الذي قتله، أي إنه نُحر ولم ينتحر، وتدور إشاعات حول أسباب “نحره” أو “انتحاره”.
وليس هذا غريباً، فنظامٌ تعوَّد على الكذب والتعمية وارتكاب الجرائم… لا يصدِّقه الناس، وإن صدق مرةً. إنه كالراعي الكذّاب.
والذي أقتنع به أنَّ “الجندي” قد انتحر فعلاً. وعندي ثلاث روايات تتفق على هذا، وتختلف في أجزاء من رواية الحادثة أو تحليلها:
الرواية الأولى: مصدرها بعض أعضاء حزب التحرير الذين كانوا معي في المعتقل، وهي أنَّ عبد الكريم الجندي رئيس المخابرات (وكذلك القادة المتنفذون في السلطة، أيام صلاح جديد ونور الدين الأتاسي، أي قبل انقلاب حافظ أسد) كانوا عملاء لبريطانيا، وأرادت الولايات المتحدة أن تطيح بهم بالتعاون مع عميلها حافظ أسد. وحين أحسّ “الجندي” بتحرك أسد، كان الوقت متأخراً، وكان أسد قد رتّب أوراقه بشكلٍ كامل، فأقدم “الجندي” على الانتحار إحساساً منه بالإخفاق والهزيمة.
الرواية الثانية عن أبي راشد: أحمد عبد الهادي. ومؤدّاها أن “الجندي” وهو في موقع مدير المخابرات العامة، علم بتحرك حافظ أسد للقيام بانقلابه بدعم من المخابرات الأمريكية، وكان علمه هذا متأخراً بحيث لم يعد بإمكان “الجندي” أن يحبطه، فقد وزَّع أسد أنصاره من الضباط على المواقع الحساسة في مختلف القطعات العسكرية. فاتصل هاتفياً بحافظ، وقال له: “هذه الرقبة لن أسلِّمها للأمريكان” وأطلق الرصاص في رأسه وانتحر.
الرواية الثالثة وقد اطّلعتُ عليها مؤخراً من خلال المكالمة الهاتفية التي نُشر نصها في “الوطن العربي” في 15/11/2006 بين تمام البرازي وبين السيد عبد الحليم خدام: السياسي البعثي المخضرم. يقول السيد خدام: ((عبد الكريم “الجندي” انتحر. وكنتُ عند رئيس شعبة المخابرات العسكرية ابن أختي، ورنَّ عنده الهاتف، وكان على الخط أبو حسين، أي عبد الكريم الجندي، وقال له: “أنا قررت الانتحار.. اسمعْ” وأسمعنا طلقة الرصاص!)).
———-
ونعود إلى أبي راشد عبد الهادي، فقد كانت له مواقف جريئة داخل المعتقل.
منها أنه، بل جميع المعتقلين، كان يرى كيف يؤخذ عناصر المخابرات من فرع الحلبوني، ومثل ذلك في الفروع الأخرى، من أجل تأمين الحراسة لهنري كيسنجر، في رحلاته المكوكية. فكان أبو راشد إذا أراد أن يعنّف السجانين في الحلبوني، ويشتم رؤساءهم كذلك، كان يصرخ بأعلى صوته: لستم أكثر من كلاب حراسة لكسنجر!.
ومنها أن رجلاً اعتُقل معنا لفترة شهر تقريباً، وادّعى، في أحاديثه معنا، أنَّ له صلات برئيس مكتب الأمن القومي ناجي جميل، وأنَّ بإمكانه القيام ببعض الوساطات للإفراج عن بعض المعتقلين. فانفرد به أبو راشد، واتفق معه على أن يدفع له مبلغاً من المال مقابل تلك الوساطة، وكتب له كتاباً إلى أهله (أي إلى أهل أبي راشد، في دمشق) كي يسلموا المبلغ لهذا الوسيط، وتسلّم المبلغ فعلاً، لكنه ذهب ولم يَعُدْ!. عندئذ كتب أبو راشد كتاباً إلى رئيس مكتب الأمن القومي يقول فيه: إنَّ فلاناً قد أخذ مني مبلغ كذا، كي يدفعه رشوة لك حتى تطلق سراحي، فإما أنه صادق، وقد أعطاك حصتك فلماذا لم تفرج عني؟ وإما أنّه كاذب يدّعي عليكم بما ليس فيكم، فعليكم أن تعتقلوه وتحاسبوه!.
قصة “طامس” واليهودي
“طامس” اسم أستعيره لأحد المعتقلين الفلسطينيين الذين تعرفت إليهم في “الحلبوني”!.. وله قصة مؤسِفة مُقْرِفة!.
في إحدى أمسيات رمضان، في أيام حرب تشرين “التحريرية” عام 1973م، وكان التيار الكهربائي مقطوعاً، سمعنا ضجيجاً وأصواتاً منكرة من الصراخ والشتائم والضرب… في ساحة السجن… ومع أننا تعودنا سماع أصوات “حفلات” التعذيب الشنيعة… فإن نفوسنا لم تألفْها، وهل تألف النفوس ما يخالف الطبيعة البشرية التي خلقها الباري سبحانه؟!
لم يستمر طويلاً تساؤلنا عما يجري، وعمّن يمارَس عليه التعذيب فقد فتح الباب علينا كبير السجانين أبو طلال، وأدخل معه اثنين في حالة لا يحسدان عليها، وهو يوجّه إليهما الشتائم، من فوق “الزنّار” ومن تحته كذلك. وقال لهما: اجلسا هنا، وأشار إلى زاوية الغرفة حيث نضع أحذيتنا!.
ثم وجّه الكلام إلينا: إياكم أن تتحدّثوا مع هذين الكلبين!. قاطعوهما تماماً، لا تقتربوا منهما. هل فهمتهم؟!.
ولم يكن يتوقع منا جواباً.
غادر الغرفة فبدأنا نتهامس فيما بيننا: ما القصة؟! لماذا يحذِّرنا من الحديث مع هذين؟! ومن هذان؟!.
بعد نحو دقيقتين عاد إلينا أبو طلال ففتح الغرفة ثانية وقال: لقد نهيتكم عن الحديث مع هذين الكلبين، وأريد أن تعرفوا أنَّ هذا، وأشار إلى أحدهما، يهودي، والآخر “……” ونطق بكلمة بذيئة، تعني أنه أسوأ.
أبو طلال رجل ذكي نوعاً ما، وقد علم أنه لا بدَّ أن نتحدث مع النزيلين الجديدين مهما حذّرَنا.. لذلك أفشى إلينا بسرِّهما: أحدهما يهودي، والثاني أسوأ.
لكن كلامه هذا لا يشفي الغليل: فهل الأول يهودي فعلاً؟! وهل هو يهودي سوري، أم إسرائيلي، أم أنه مثلاً جاسوس دخل البلاد بصورة سائح…؟
والثاني؟! ما صفته وما ذنبه حتى يصفه بأنه أسوأ من صاحبه؟!
ساعةً بعد ساعة، ويوماً بعد يوم، بدأت الصورة تتّضح.
كان السجانون يتبارون في إهانة هذين، وقد أطلقوا على أحدهما اسم “حمار” والآخر اسم “بغل”، فكلما فتح باب الغرفة لنخرج إلى “الخطّ” أي إلى دورة المياه والمغسلة، كانوا يوجهون الإهانات إلى الحمار والبغل، ويأمرانهما ببعض الأعمال المذلّة، كجمع الأوساخ، وفتح المجاري…
وبعد حوالي أسبوع جرى “التطبيع” بين السجانين وبين طامس واليهودي.. ثم صار التعامل مع طامس تعاملاً حسناً.
علمنا أن اليهودي دمشقي من حي الشاغور، وهو متهم بالتعامل مع إسرائيل.
وعندما كنا نقوم إلى الصلاة يقف هو على رجليه. فنقول له: لماذا تكلف نفسك القيام؟ ابقَ قاعداً!! فيقول: يجب أن أقوم احتراماً للصلاة!.
وبعد أيام قليلة من مكثه معنا في الغرفة قال: أريد أن أُسْلِم. ونطق بالشهادتين، وطلب أن نعلمه الصلاة. وصار يجلس معنا في الحلقة القرآنية التي نعقدها مرتين كلَّ يوم. وصار يصلي معنا.
وبعد حوالي شهر، تم نقل طامس واليهودي إلى القبو مرة أخرى، فقد كان سبب نقلهما إلى غرفتنا أنَّ القبو في أيام الحرب قد امتلأ بالنزلاء، وكان لا بد من نقل بعضهم إلينا!.
ثم بعد شهرين آخرين تقريباً تم نقلنا نحن أيضاً إلى القبو، فعلمنا من بعض المعتقلين الذين شاهدناهم أنَّ اليهودي قال لهم: لقد عشت مع الإخوان المسلمين في غرفة واحدة فترة من الزمن، وضحكتُ عليهم فأظهرت لهم إسلامي!.
والحقيقة أننا وإن قبلنا منه إسلامه حين أظهره، ووكلنا أمره إلى الله، لم نكن مطمئنين إليه، فقد كان الخبث يظهر منه في كثيرٍ من تصرفاته.
أما “طامس” فقد علمنا قصته، جملة وتفصيلاً، لا سيما بعد أن عشنا معه في القبو.
كان شاباً في الرابعة والعشرين من عمره، قويَّ البنية، قليل العلم والثقافة، لا يتجاوز تعلمه المدرسي المرحلة الابتدائية، ولكنه يملك “خبرة جيدة” في ميادين الخمر والنساء والنوادي الليلية…
وبما أنه من “الضفة” ويملك حقَّ الخروج والدخول إلى الأرض المحتلة، فقد اكتشفتْ فيه المخابرات السورية والمخابرات الإسرائيلية هذه الإمكانات والمواهب!
أما المخابرات السورية، ممثّلة بالفرع الخارجي، أو برئيس الفرع الخارجي: العقيد م المحاميد، فقد تعاقدت معه على عملٍ ظاهري شكلي، وعمل حقيقي، أما العمل الظاهري فهو أن يسافر إلى إسرائيل مرتين في السنة ويأتيها ببعض الأخبار، أي أن يتجسس على إسرائيل، ويخدم بذلك قضيته! وأما العمل الحقيقي فأن يعمل “قوّاداً” عند العقيد المحاميد: فيجلب له المومسات الصغيرات يستمتع بهنّ! ويكون بذلك قد وضع القوّاد المناسب في المكان المناسب.
وبسبب هذا العمل الحقير الذي يقوم به، فقد كان يتردد كثيراً إلى الفرع الخارجي، وكان عناصر هذا الفرع قد عرفوه وصادقوه، ولعلَّ بعضهم كذلك كان يستفيد من مواهبه الفذّة تلك!.
وكانت المخابرات السورية تعلم بعلاقة طامس مع المخابرات الإسرائيلية، وكذلك تعلَمُ هذه بعلاقته مع تلك، لكن كلاً منهما تحاول اللعب بذكاء بحيث تستفيد، وتتقي الضرر!.
وحصلت المشكلة الفاجعة، وهي أنَّ المخابرات الإسرائيلية طلبت من طامس أن يحصل لها على خريطة مواقع معسكرات فتح في لبنان!.
وحمل طامس الطلب إلى العقيد المحاميد. ورأى العقيد أن الأمر سهل. ما المانع أن يعطيه هذه الخريطة؟!
وفعلاً أخذ طامس الخريطة وسافر بها. نزل ليلة في أحد فنادق عمان، في طريقه إلى الضفة ثم إلى أسياده في الأرض المحتلة.
كانت مخابرات “فتح” تشك في طامس، وقد وضعته تحت المراقبة. فلما نزل في الفندق ذلك، أرسلت إليه إحدى المومسات “المتعاونات”، وسرعان ما وقع ما وقع! شربا من الويسكي، ونزعا ثيابهما، ثم… ثم نام السكران مستغرقاً في أحلامه، واستيقظت صاحبته ففتحت حقيبته وأخرجت الخريطة.. ثم وصلت هذه الخريطة إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي حملها بدوره إلى حافظ أسد ليقول له: أهذا ما ترسلون به عميلكم إلى إسرائيل؟!.
لم يكن صعباً أن يعرف أسد أن العنصر طامس تابع للعقيد المحاميد، فأرسل إليه يعاتبه أو يعنفه: كيف تستعينون بمثل هذا العميل الغبي؟!.
ماذا يفعل المحاميد؟! هل يحاسب طامساً لأنه نزل في فندق، ولأنه سكر وزنى؟! وهل أنشأ معه العلاقة إلا على أساس هذه المواهب؟!؟
وكان طامس هو المجرم وهو الضحية. فأمر المحاميد بسجنه ونقله إلى الحلبوني وديعة. بمعنى أن مسؤولي فرع الحلبوني لا يملكون صلاحية التحقيق معه، إنما يحتجزونه فقط ويذلّونه.
وكان طامس يقول لنا: لا يمكن أن أخرج من السجن طالما بقي المحاميد في موقعه.
وبالفعل فما إن عُزِل المحاميد حتى خرج طامس من السجن.
أما السرُّ في تحسن معاملة السجانين في الحلبوني لطامس، فإن أبا طلال الذي كان مغتاظاً في بداية الأمر من طامس، وقد أخذ عنه فكرةً سيئة تقتضي أنه عميل جاسوس خائن… تبيّن له بعدئذ أنَّ طامساً رجل شريف!. إنه فقط قوّاد سكير مغرَّر به، متعامل مع المخابرات السورية والإسرائيلية!.
السبعة الناجون
كان ذلك في خريف عام 1974م.
وكانوا ثمانية لا سبعة، ينتمون إلى اتجاهات سياسية وجنسيات مختلفة. أعرف أن واحداً منهم كان ألماني الجنسية، وآخر من غزة، وثالثاً شركسي سوري….
وكانت أعمارهم تتراوح بين الخامسة والعشرين، وبين الأربعين، وكانوا جميعاً محشورين في غرفة واحدة من الغرف الأربع في سجن الحلبوني.
كانت الغرف الأربع على نسق واحد، كلها مطلّة على الساحة الواسعة. وحتى لا يستمتع نزلاء الغرف بمنظر الساحة فقد بني جدار حاجز بارتفاع مترين على بعد حوالي مترين ونصف من نوافذ تلك الغرف. وكانت كل غرفتين تشتركان بممرٍّ يفصل بينهما، فالدخول إلى أيِّ غرفة يحتاج أولاً إلى دخول الممر، ولهذا الممر باب يقفل على الدوام، فلو استطاع السجين فتح باب غرفته أو كسره لأصبح داخل الممر المقفول كذلك، ولو استطاع فتح باب الممر لأصبح في الممر المكشوف المفصول عن الساحة.
وكان السجناء الثمانية في الغرفة الأخيرة التي لها جدار على الشارع، وليس في هذا الجدار أي نافذة أو فتحة!.
فكّر بعض هؤلاء السجناء بحيلة يتمكنون بها من النجاة. وإذاً فليحفروا فتحة في الجدار الملاصق للشارع. ولم يكن ذلك سهلاً، فمن أين يأتون بأدوات الحفر؟ وأين يذهبون بنواتج الحفر؟، وكيف تتم العملية من غير أن ينتبه السجانون؟!.
إنَّ نيل الحرية يحتاج إلى ثمن. وكان هذا الثمن تفكيراً ذكياً، وجهداً ودأباً على مدى عشرين يوماً، وتيقُّظاً لئلا تشعر إدارة السجن فتحبط المشروع، وتذيق طلاب الحرية مزيداً من التنكيل!.
بدأ هؤلاء السجناء بالحرص على اقتناء ملاعق الطعام ذات الطرف المدبّب، تلك التي ينقش على مقبضتها سنبلة، وهي مصنوعة من “الكْروم”. وراحوا تدريجياً، يحفرون بها “الزريقة” أي طبقة الإسمنت التي تغطي اللبنات على الوجه الداخلي للجدار، في المنطقة التي قرروا أن يكون المخرج فيها، وهي في أسفل الجدار.
وفي أثناء الحفر يقف أحد السجناء على الشباك لينبّه الحفارين إذا جاء أحد الحرس. وفي غير أوقات الحفر يضعون البطانيات أمام المكان المحفور، ويجلسون بجواره، ليبدو كل شيء طبيعياً.
وكانوا يهرّبون نواتج الحفر تدريجياً كذلك، مع القمامة.
ولما فرغوا من إزالة الزريقة عن الجزء المطلوب، شرعوا بإزالة “المونة” الإسمنتية حول اللبنة التي سيكون المخرج منها.
وحين اكتمل العمل توقعوا أنَّ ركلة قوية ستكفي لإزاحة اللبنة إلى الخارج، ولتحدث الكوّة الكافية. ولست متأكداً أهي لبنة واحدة أم اثنتان؟!.
وكان توقعهم صحيحاً، فقد انفتح الطريق أمامهم بعد منتصف الليل، وتسللوا الواحد تلو الآخر، حتى خرج سبعة منهم. وأما الثامن الألماني، فلم يَرَ مصلحةً له في الخروج، إذ إن إلقاء القبض عليه إذا خرج أمرٌ مؤكد، فهو لا يعرف العربية، ولا يعرف شوارع المدينة، وجواز سفره محتجز عند إدارة السجن.
وفي الساعة السابعة صباحاً، جاء السجّان “بدري” ليعطي إشارة الإذن لنزلاء الغرفة بالخروج لقضاء الحاجة، وهو ما يسمَّى في اصطلاح هذا السجن بالخطّ!، فنادى كعادته: “واحد خطّ!” ونظر في الغرفة فلم يجد إلا الألماني، فصرخ فيه: أين رفاقك؟!.
لم يفهم الألماني ماذا قال السجّان، لكنه أدرك أنه يسأله عن زملائه، فراح يشير بحركات متوالية من سبّابته إلى الكوة التي خرجوا منها ويقول: “فِسْتْ، فِسْتْ، فِسْتْ”. ليبيّن أنهم خرجوا الواحد تلو الآخر.
امتلأ “بدري” بالغضب والرعب معاً!. فماذا سيكون موقف إدارة السجن، وهل ستحمله المسؤولية؟!.
جرت تحقيقات مع السجانين، دون جدوى.
وتمت العملية بنجاح. ولم تملك إدارة السجن إلا أن تعاقب السجناء الذين لم يهربوا، فقامت بنقلنا، نحن نزلاء الغرف الثلاث الأخرى إلى القبو، كما قاموا بحملة تفتيش مزعجة… لكننا كنّا مسرورين إذ تمكّن بعض السجناء من النجاة والحصول على حريتهم، وباءت إدارة السجن بالخزي والعار، إذ لم تنفع كل إجراءاتها في ضبط الأمور كما تريد.
ميشال أبو جودة
إنه الصحفي اللبناني، ذو الشهرة الفائقة، صاحب العمود اليومي في جريدة النهار.
ولكن ما شأنه هنا، ونحن نتحدث عن المعتقلات السورية، وعن جلاديها ومحققيها ونزلائها؟! والجواب: إنه حظي بضيافة الحلبوني، مدة أربع وعشرين ساعة. ولهذا قصة.
في عام 1974، وفي أحد أيام الصيف، فيما أذكر، كان باب الغرفة الجماعية في قبو الحلبوني، أو الغرفة رقم 3، مفتوحاً، مدة نصف ساعة، حتى يتمكن نزلاء الغرفة من الخروج إلى “الخط” لقضاء الحاجة.
وكان هؤلاء النزلاء قد أحسُّوا بحركة تدل على مجيء نزيل جديد، وذلك قبل نحو ساعة. ولا شك أن النزيل الجديد قد أودع إحدى الزنازين! فدفعهم حب الاستطلاع للتعرف على هذا الضيف. ذهب أحدهم إلى الزنزانة التي نزل فيها الضيف، فقام الرجل الكهل متثاقلاً، لا تكاد تحمله رجلاه! وبادر هو بسؤال النزيل القديم: أين أنا؟! أجابه: كيف “أين أنا؟”.
أعاد الضيف السؤال: في أي مكان أنا؟. قال: ألا تعرف؟ إنك في الحلبوني! قال (وحديثه كله باللهجة اللبنانية): شو هَيْدي الحلبوني؟!. قال: الحلبوني، سجن المخابرات الأشهر. قال: أين هو؟! قال: أسئلتك غريبة. إنه “الحلبوني” في وسط دمشق العاصمة! قال: أنا إذاً في سورية! قال: نعم. وهل كنت تظن نفسك في الكونغو؟!. لا شك أنَّ لك قصة عجيبة. حدِّثني بسرعة قبل أن يرانا السجّان!.
قال: أنا الصحفي اللبناني ميشال أبو جودة، الكاتب الأول في جريدة النهار. وقد كتبت مقالات ضدَّ الحكومة السورية. واليوم، أو البارحة، لا أدري، لقد اختلطت الساعات والأيام عليّ، هجمت عليّ عصابة. الآن عرفت أنهم من عناصر المخابرات السورية. أمسكوني بقوة، بينما كنت أنزل من سيارتي، وأدخلوني في سيارتهم. وكان آخر ما أذكره أن اثنين من العصابة أمسكا بي، وكان بيد الثالث حقنة (سيرنج) وبدأ يغرسها في جسمي. ثم لم أشعر بشيء إلا أنا في هذا المكان!!!.
انتبهت إدارة السجن إلى خطورة أن يتعرف النزلاء على الضيف العزيز. ولكن بعد فوات الأوان، ففرضت حصاراً شديداً تمنع أي واحد من الاقتراب من زنزانته، في أثناء الخروج إلى الخط، أو اقترابه هو من زنازين الآخرين في أثناء خروجه.
في المساء، شعرنا، نحن نزلاء الغرف (التي تطل على ساحة السجن، خارج القبو) بحركة لافتة للانتباه، فقد كان عناصر الفرع يقومون بغسل ساحة السجن، وتنظيف البركة في وسط الساحة.
وفي حوالي الساعة العاشرة مساءً، جاء بعض ضباط الأمن، يبدو أنهم من رتب عليا، من مديرية المخابرات العامة، ودخلوا الساحة، ثم صعدوا في المبنى الرئيس المخصص لرئيس الفرع والمحققين… ثم أُخرج الأستاذ ميشال، وعن يمينه عنصر من المخابرات، وعن يساره عنصر آخر.
لقد أطفأنا نحن أضواء الغرفة عندنا، كي نتمكن من التسلق إلى أعلى النافذة والتفرج على المشهد، من غير أن ينتبه إلينا السجانون!.
بطبيعة الحال، لا ندري ما الذي حدث بين هؤلاء الضباط وبين الضيف العزيز. ولكننا علمنا، في اليوم الثاني، من بعض السجّانين الأصدقاء أن صفقةً قد تمّ عقدُها: إما أن تعود إلى انتقاد “سورية الصمود” فنعود إلى خطفك، وربما تكون هي الساعات الأخيرة في حياتك، وإما أن تتعاون معنا ولكَ ما تريد!.