دار بخاطري تساؤل كبير عن أول سجن في التاريخ، وعن معرفة الفطرة الإنسانية بالسجون
لو أردنا الاجابة لنظرنا إلى تاريخنا الممتد وصولا إلى علاقتنا الفطرية الأولى بالخالق.
لو عرف الله السجن وشرعه لكان قد سجن الشيطان وما أطلقه ابدا… لو كان قد عرفه الدين والإنسان الصافي لكان رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم قد سجن أسرى معاركه مع قريش، وما أطلق سراحهم فور تعليمهم أبناء المسلمين القراءة والكتابة..
في مسيرة التاريخ .. نجد أن الحكام هم أول من ابتكروا فكرة السجون لتقييد من يهدد عرشهم بالخطر.. ولعل العلماء والشعراء والكتاب هم ضالة السجان الأكثر خطورة..
يلجأ الكاتب غالبا إلى التخييل والرمزية في نقد حكام عصره.. وتغليف الحقيقة بزي تخييلي..للنجاة من السجن أو الملاحقة.. فترى الكاتب الذي يرصد تجربة سجن في رواية يتملص من الإشارة إلى حقيقتها.. بقوله “هذه رواية خيالية وليست سيرة ذاتية” ومع ذلك لا ينجو من العقاب وضرب الحكام على يديه حتى تتقفّع..لو أجاب هؤلاء الكتاب نعم إنها حقيقة وسيرة ذاتية أكنا احتجنا ربيعاً عربياً وثورات بعد عشرات الاعوام من الذل والإرهاق والتقييد؟!..لطالما كانت الكلمة أشد وطأة من الحسام..هذا الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم يصطحب “حسان بن ثابت” في معاركه من دون أن يتقن حسان لغة السلاح قائلا: “اهجُ قريشًا، فإنه أشد عليهم من رشْقِ النبل”
كان “ابن المقفع” ينتقد الحكام على ألسنة الحيوانات وحواراتها في كليلة ودمنة، وكذا ابن حزم لجأ إلى حوارات الحمائم، ولما انتقد المتنبي كافوراً علناً لم ينجُ من سطوته.. والقائمة تطول من شهداء الكلمة ومعتقليها في تراثنا الثقافي، تعددت الحكومات والنتيجة ذاتها، السجن والقتل، وفي الأحوال كلها لم يكن الشاعر ينشد أبياته عن السجن إلا إن كان حبيسه حقيقة..
أما أدب السجون المعاصر فهو على نوعين الأول رواده قلائل كتبوا فيه من دون أن يرتادوه، بمثل “نبيل سليمان” في كتابيه “السجن”، و”سمر الليالي”، و”خالد خليفة” في روايته “مديح الكراهية”، والنوع الثاني هم الكتاب السجناء، وهم أصدق فنيا بما يكتبوه، وإن كانت التقنيات الفنية ترقى على يد الفريق الأول أكثر، لأن السجناء من الأدباء معنيون بضرورة تسجيل الفكرة، وتفاصيل المعيش داخل السجن، محمومون بنداءت الذاكرة المحشوة بالتفاصيل والأسماء، ينزفون أرواحهم على الورق في الحروف كلها، وذاك ما يتخفف منه الكتاب غير السجناء..
قد يصح أن نزعم أن أدب السجن الحديث في سورية بدأ مطلع السبعينيات على يد “إبراهيم صموئيل” بمجموعاته القصصية الثلاث، “رائحة الخطو الثقيل”، “النحنحات” و”الوعر الأزرق”. كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّقة .
انقطعت الكتابة عن أدب السجون في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مرحلة من أشد مراحل الحياة السورية تخبطا ووحشية، لتطالعنا حسيبة عبد الرحمن في عام 1998 بمؤلفها “الشرنقة” وهو يوميات سجينة تصور السجن بروح أنثوية خالصة، وهذه اليوميات أولى ما كتب بجرأة عن السجن على الرغم من الطوق الأمني المحيط بالكاتبة.. لكنها لم ترق إلى مستوى رواية بمثل ما اصطلحت الكاتبة على عملها.. ويكفيها من الأهمية منجزها الأدبي باكورة تأليف المرأة في أدب السجن بهذه الدقة والجرأة.
ومن ثم أصدر “مالك داغستاني” روايته “دوار الحرية”، ببناء فني متماسك، عني فيه برصد تجربة السجن بصورة غير مباشرة.. وإن لم يحظ بانتشار واحتفاء لائقين…
أما الكاتبة “هبة دباغ” فقد افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها “خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا” في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. كانت كتابات السجون حتى يومنا هذا في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب “هبة الدباغ” هو الأول تصدره معتقلة “إخوانية” عن تجربتها، وقد لجأت فيه إلى مقاربة الأسطورة إلى حد كادت أن تلامسها، بأن تفتق عقلها المأسور عن نمو لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، و التصاق جلبابها بجسدها، كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. لقد اجتهدت الكاتبة في تقديم وثيقة صادمة عن السجون السورية لم يتم فضحها من قبل، بلسان امرأة، على الرغم من الطوق الأمنى المرهق الذي يطال الكتاب في هذا المضمار..
وجد الكاتب “مصطفى خليفة” الحل بإصدار كتابه عن السجن،”القوقعة – يوميات متلصص”، بالفرنسية في باريس، ولعل أول ما يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين بالعربية، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية في بداية صدورها، إلا منذ وقت قريب.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه “الفقد” سنة 2006، معنونا إياه بـ “حكايات متخيلة لسجين حقيقي”، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل كثيرة، كانت موحية ومؤثرة.
خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ كتابها “عينك على السفينة”، تضمن كثيراً من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة، وقد اجتهدت في تحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، وطابعها الانفعالي المباشر.
ارتقت هذه اللغة في رواية “يسمعون حسيسها ” 2012 للدكتور أيمن العتوم الروائي الأردني الذي استطاع ملامسة الجرح النازف بأناة..
كم يحتاج القارئ إلى لمس تجربة السجن ليحيط بذاك النزف وذاك البركان الثائر في كل حرف ، ليحيط علما بأن ذاك الظلام القابع هناك جهنم، نعيش إلى جوارها في جنة من دون أن نسمع صرخات السجناء فيها، ومن دون أن نسمع حسيس هذه النار. سماح حكواتي
المصدر زمان الوصل