أرشيف يوم: مارس 21, 2021

رواية القوقعة -الحلقة الرابعة مصطفى خليفة

29أيلول

استيقظت في الصباح الباكر على أنين رجل يتألم بشدة. كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، أنا الوحيد الذي استيقظ على أنينه، نظر الي مباشرة ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة، تلفتُّ حولي حائراً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف أفعل ذلك !استيقظ العديد من السجناء ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء وسأله وهو يفحصه عما به:

– مغص شديد يادكتور … مصاريني عم تتقطع، راح أموت يا دكتور!!.

– التهاب حاد بالزائدة الدودية، إذا لم يتم إسعافه سريعاً وإجراء عملية جراحية فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.

– مين هـ الكلب يللي عم يدق الباب ؟.

أخبره أبو حسين برقم المهجع، وأن الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.

فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب أبي حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير: – والله يا دكتور … كيف طلع اسمك معي مابعرف !!… وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك. كان مرض السل في أواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.

استغرق مجيء الطبيب أكثر من ساعة. جاري يعتصر من الألم، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، شرح سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:

– مشان زائدة دودية عملتوا كل هـ الضجة ؟!… صحيح هـ الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه … طلاع لبره.

خرج الدكتور سمير الى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبا حسين:

– مين دق الباب … ولا؟

– أنا يا سيدي دقيت الباب.

– طلاع لبره كمان يا كلب … يا ابن الكلاب.

خرج أبو حسين ايضاً وأغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما.

مشان الله يادكتور لا تواخذني !… انا سببتلك هـ العقوبة، أنا يللي ورطتك.

ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف أبي حسين:

– بسيطة أبو حسين بسيطة …

تقدم طبيب كهل أشيب الشعر جلس على فراش أبي حسين، قال:

– تعرف يا أبو حسين اني طبيب جرّاح، انا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.

واختار المريض الموت المحتمل، نفى أمام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.

أبلغ الطبيب أبا حسين بمستلزمات العملية:

– يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد إبر خياطة،خيطان، نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها الى مشارط!!.

التلييس الداخلي للمهجع كان ذا إسمنت خشن والجميع يدرمون اظافرهم بهذا الإسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمِن قِطَع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك أحدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار … يوم … يومين.. أيام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده ايضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، ” المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين أن هناك عشرات المسامير في المهجع ” ، الخيطان أمرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب . الكحول : بعض الاطباء قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية ” وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .

عمم أبو حسين الأمر على المهجع :

– كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها او شكلها ليأت بها .

وظهرت المعادن: مسامير، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة، أربع علب سردين فارغة! أسلاك معدنية، خاتم ذهبي.

مددت يدي الى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب أن أعطيها لهم … ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، فـ ” الكستك ” المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها الى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الامر، تمّ فرْشُ بطانية أمام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح أن يرى شيئاً ، واستلقى المريض، الطبيب يتناقش مع مجموعة من الأطباء.

مشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون أية كلمة مددت يدي بالساعة إليه .

– بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ثم التفت الى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :

– هلق صار فينا نبدأ ، هـ الساعة راح تساعدنا كثير .

وزع الطبيب قطع الساعة و” الكستك ” على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت أسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ، ثلاثة إعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية أكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكومون، صلوا ، ودّعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية، وخرجوا .

– اللهم أحسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل أكثر من هيك .

توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات الى بعض الأطباء وإلى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط،

كيس بلاستيكي مملوء بالدهن ، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ، ينقّونه من الشوائب ويضعونه في الكيس، ملأوا إحدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد أن فتلوها جيداً ، أخرج أحدهم علبة كبريت وأشعل الفتيل ، ” من أين الكبريت ؟!” ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين أخرى مملوءة بالماء وبه ” المشارط “، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الامكان كي لا يصعد الى السطح ويشمه الحارس ، بعد قليل غلت المياه فتعقمت أدوات الجراحة .

في هذه الأثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصأبون ، ثم أحضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً وأصر على ارتداء الكمامة قبل إجراء العملية ، تغيرت نبرة صوته وبدأ باصدار الاوامر :

– ما في عنا مخدر … لذلك بدك تتحمل الالم ولا تتحرك أبداً.

– تعالوا أنتم الأربعة ، أمسكوه بقوة، كل واحد من طرف.

أخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الآخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على ظفر إبهامه، وضع المشرط على بطن المريض، قال: “بسم الله الرحمن الرحيم”، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.

– آخ يا أمي .

صاح المريض ولكنه لم يتحرك .

انتهت العملية، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً . عدت الى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش، فوقهما إبرة عظمية وخيطان، امسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك أحد يلحظني، مَن وَضَع َهذه الأغراض؟ البنطال عرفته كان لأحد الذين أعدموا اليوم ، لكن من وَضَعه على فراشي؟.

الآن وبعد مرور شهر على إجراء العملية فإن الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل

طبيعي .

1 كانون الثاني

عند منتصف الليل سمعت أصواتاً في الساحة ، نظرت من الثقب ، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات وأسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يُصْدرون ضجة كبيرة، ضحك.. صياح.. شتائم .. المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء. وكانوا قد اقتربوا من مهجعنا. طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .

خرجنا حفاة عراة ، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه. “

الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية ، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف ، الشرطة يضبطون الاصطفاف : وقّف باستعداد ولا … نزل راسك .. الريح شمالية قارسة، أعتقدُ أن درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات .

بللونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبأيديهم الكرابيج والعصي.

بدأ المساعد خطبة طويلة، ثلاثة أرباع الخطبة شتائم مقذعة ، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل ، ولولا أننا موجودون هنا حالياً لكان هو ايضاً يحتفل. أنهى خطبته وغادر الساحة دون أن يعطي أية تعليمات بشأننا .

صوت اصطكاك الأسنان مسموع بشكل واضح. الجميع يرتجف برداً.

صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، حتى أيديهم التي يحملون بها الكرابيج دسوها في جيوبهم.

– الألم يتعمم ويتعمق، الأسنان تصطك، اللسان، الأنف، الأذنان، الكفان، القدمان، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف. يسقط أحدهم قبلي ، يقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه، تخرج الأيدي من الجيوب ، وينطلق بضعة عناصر ، يجرون السجين الذي سقط الى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء. تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه، يسقط آخر … يُجَرّ الى حيث التدفئة (الضرب بالكرابيج)، وآخر… وآخر.

وسقطتُّ … سقطت دون أن أفقد الوعي وجرّوني إلى أمام الصف.

لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي… لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل… أمر لا يمكن وصفه.

مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على إيقاع الكرابيج، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن أستطيع النهوض عن الأرض، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت، ” لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة!… المقاومة؟”.

هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً ، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد أسود تزداد سماكتها بازدياد الألم والذل .

5 حزيران

جاءت زيارة إلى أحد السجناء.

بعد ثلاثة أيام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن إنسانيته ورحمته وأن قلبه ينفطر ألماً عندما يرى أبناء وطنه في هذه الحالة !! وقال: كل من تأتيه زيارة منكم عليه أن يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من أهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا إلى زيارته وبنفس الطريقة .

لكن ماهي الطريقة ؟… لم يعرف أحد ، ولم يجرؤ على السؤال أحد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة.

اليوم أتت زيارة لشخص من مهجعنا ، أبو عبدالله.

طلب الشرطة منه أن يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباسه أفضل ثياب في المهجع ، ذهب وعاد بعد أكثر من نصف ساعة لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف يتلفت وينظر، ولكن يبدو كمن لا يرى أحداً، باب المهجع لا يزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الأغراض بجاطات بلاستيك ، بعد أن أغلق الشرطة الباب قال شخص لآخر:

– ماشاء الله … ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.

أبو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :

قطع أبو عبدالله سلسلة ” المبروك ” والتفت فجأة الى أبو حسين ، قال :

– كيلو ذهب ياأبو حسين !! … الله وكيلك كيلو ذهب. كل زيارة بكيلو ذهب.

سألت أهلي قالوا لي، لازم أمك تروح لعند أم مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وأم مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.

البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم … دون أي ضرب !… يفرغونها داخل المهجع ويسلمونها للبلديات … الكثير من الألبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بآذان الأهل عن حاجاتنا ، والكثير … الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن أن تؤكل نيئة .

ما أسكرني … كان الخيار بلونه الأخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى أنفي ، ثلاثة جاطات من الخيار مشكّلة تلاً صغيراً أخضرَ، الى جانبه تل صغير أحمر من البندورة، رائحة الخيار ملأت المهجع، الجميع كان فرحاً.

بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا أريد أن أرى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء أراحني قليلاً … استيقظت عصراً، كان أمام فراشي مجموعة متنوعة من الأغراض … ” نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز، قطعة بقلاوة، بعض أنصاف حبات الفاكهة، بيجاما رياضية، غيار داخلي شتوي، غيار داخلي صيفي، جوارب صوفية … ثم شحاطة !”.

طوال كل هذه السنوات ومنذ أن أخذوا حذائي بمركز المخابرات لم أنتعل بقدمي شيئاً، وقد تشكلت على كامل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق … والآن ها هي شحاطة!. نظرت حولي ، واضح أن حصتي مساوية لحصة أي سجين آخر منهم ، لا أكثر ولا أقل .

8 اذار

كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، أعطوا ورقة مكتوبة الى أحد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الإخوان المسلمون عملاء الامبريالية …

لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد أنفسهم، أو على الاقل لم تبدر منهم أية اشارة أو ممانعة تدل على ذلك، كانوا يهتفون بأصوات عالية جداً.

هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين أو ثلاث مرات، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في أن السجناء اليوم كانوا لا ينفكّون يحكّون ويهرِشون أجسادهم: إنه الجرب. بين تصفيق وتصفيق، بين هتاف وآخر ، يمد السجين يده ليحك جسده.

بدأ الجرب منذ خمسة أشهر تقريباً، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل إلا أنني كنت من أوائل المصابين بالجرب، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر أن الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن أن ينتشر وباءٌ ما يبدأ في أحد المهاجع ليعم السجن كله !!.

منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر، وهو زميل البورد الامريكي للامراض الجلدية، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اختصاصه على المستوى العالمي، شخص محترم هنا كثيراً، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه، وهو المرجع الأخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .

فحص الحالات الاولى للمرض، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند أبي حسين:

– هذا الجرب سريع العدوى ، خلال أيام راح نكون كلنا جربانين إذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط… خذ اجراءاتك … بس أنا خليني بعيد عن هـ الساقط طبيب السجن! ماني طايق أحكي معه ولا كلمة.

فيما هو يغادر التفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :

– السلام عليكم … يا أخي. ممكن … تمد ايديك حتى افحصهم .

بحركة آلية مددت كفيّ الى الامام، أمسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى أبي حسين وقال: شايف، وهاي الاخ جارك كمان مصاب! ثم التفت اليّ :

– يا أخي حاول ألاّ تحُكّ … مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .

مرت الايام ، ثم الأسابيع ، وأبو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر أبو حسين وتهديده :

– العمى بعيونك… صرعتنا ، ايه هو جرب!… شوية حكة وينتهي الامر. وذهب .

كانت قد مرت أربعة اشهر على بداية المرض ، وظل أبو حسين يحاول .

تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور أبي حسين وكان حديثه موجهاً للاطباء ، وبعد أن عدد أنواع الجرب خلص الى نتيجة أنه لا يوجد عبر تاريخ الطب أنْ سُجِّلتْ حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر أن اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وأن هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب. وتمنى لو أن هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .

منذ خمسة أيام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :

– شباب … كل شخص أتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل أربعة … خمسة يجوا سوا .

كان هناك حوالي ثلاثين شخصاً من مهجعنا قد أتتهم زيارات، ولمعرفة الاهل أن هذه الزيارة قد تكون استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الألبسة والنقود، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي ألف ليرة، ولذلك أصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة أشهر،” كان بعض الحفظة يُحْصُون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب أصبح لدى مدير السجن، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل إلى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً”.

أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبي حسين.

– بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله.

سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :

– يا أبا حسين … أرواحنا وأموالنا في سبيل الله، بس أشرح، قول أوّلاً شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب … مو لازم نعرف ؟!.

– طبعا لازم تعرفوا … بدي اشتري طبيب … دكتور. نعم دكتور … بدي أشتري طبيب السجن [يونس العلي] ..! ما في غير هذا الطريق … وبسلامة فهمكم، بهذه الدولة، من فوق لتحت، كل واحد له سعر، وما بظن أن هذا الدكتور غير شكل.

وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبي حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام!.

كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبي حسين :

– اذا كنت طالبني منشان الجرب … بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب.

– يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير … ومثل ما أنت شايف … نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .

كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :

– ايه طيب … وأنا شو علاقتي؟!.

– يا سيدي … اخدمنا هالخدمة لوجه الله … انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله … هذه المرة كمان ساعدنا… اشتري لنا الدواء على حسابنا… حتى لو كان من السوق السودا… وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :

– لكن … انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟

– معليش يا سيدي … مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل هـ الناس ، لأن الكل جربانين . – طيب … تعال لهون شوي .

أخرج الطبيب أبا حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .

بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا، وأنا منهم، بدأوا العلاج بـ البنزوات ” بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة ” .

خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .

تم إبلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص : – اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير.

23 تموز

منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهََرَسَها ببوطه العسكري، مُعِسَت الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .

منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره ” إبداعه ” عائد لأول رقيب قام بهذا العمل.

نظرت عبر الثقب ، كانت ثماني جثث متدلية عن الحبال ، والعديد من الجثث على الأرض ، هذه الجثث الثماني يبدو انها آخر وجبة، الوحش “عنصر البلديات” يقف أمام الجثة الثانية من اليسار وهي جثة رجل بدين، يمسك الوحش بيده عصا غليظة ينهال بها ضربا على الجثة، الشرطة يراقبونه ضاحكين ، ومع كل ضربة عصا على الجثة يصرخ بصوت عال :

– عاش الرئيس المفدى .. بالروح بالدم نفديك يا رئيس … ” وضربة بالعصا على الجثة ” … ولك يا كلب بتشتغل ضد الرئيس .. وضربة بالعصا … لك يا … رئيسنا أحسن رئيس … ضربة بالعصا.. الرئيس قبل الله نعبده … ضربة بالعصا … ويختل الايقاع .. ضربات عديدة بالعصا “

أتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلامية التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع اثناء المسيرات التي تنظمها الدولة ؟! يتوقف قليلا عن الضرب ، ثم ضربة قوية على الرأس أسمع من خلالها رنين العظام … ولك يا كلب … ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا … ضربة … يتوقف الوحش قليلا وهو يلهث، بعدها وبحركات هستيرية يضع احد طرفيّ العصا بين اليتي الجثة ويدفع بها الى الأمام ، تتحرك الجثة كلها الى الامام ، يستمر الوحش بالضغط ، الجثة دائمة التأرجح ، الشرطة يضحكون … يتقدم الرقيب وهو يقهقه ، يمسك الجثة من الأمام ويثبتها جيدا للوحش ، وفي لحظة يفلت رأس الجثة من الحبل “يبدو المشهد من بعيد وكأن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل” ، تسقط الجثة على وجهها أرضا ، تفلت العصا من يد الوحش وتظل مغروزة منتصبة بين اليتي الجثة ، يقفز الوحش عالياً ويصيح بشعار طالما سمعه يردد كثيرا في الراديو والتلفزيون: – يسقط الاستعمار … تسقط الامبريالية .

يرد عليه الرقيب الأعوج :

– تسقط … تسقط .. تسقط .

– يعيش الرئيس المفدى .

– يعيش … يعيش … يعيش .

رواية القوقعة -الحلقة الثالثة مصطفى خليفة

22 شباط

فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطريقة وكأن مائة ثور هائج قد دخل هذا المكان، الصياح، الضرب بالكرابيج، الشتم، وبين شتيمة ولسعة كرباج يصرخون:

– وجهك عـ الحيط .. وجهك عـ الحيط ..

منذ دخول أول شرطي بهذه الطريقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحائط، وقفت لا أدري ما افعل.. صحوت على الكرباج يهوي على خدي ويلتف على رقبتي من الخلف والشرطي يصيح:

– وجهك عـ الحيط !

– أدرت وجهي، تخشبت وسيخ الألم يمتد من وجهي إلى رقبتي، بعدما ما يقرب الخمس دقائق خيم الصمت.

إنه المقدم مدير السجن. أخد يتمشى من أول المهجع إلى آخره بين صفين من عناصر الشرطة الواقفين وقفة استعداد عسكرية.

صوت طلقات مسدس متتابعة، انكمشت على نفسي لدى سماعها وخبأت رأسي أمام صدري، وبسرعة فائقة خرج المقدم يسحب وراءه رتلاً من عناصر الشرطة وأغلق الباب.

أربعة عشر قتيلاً بأربع عشرة طلقة هي كل مايحويها مخزن مسدس المقدم على ما يبدو. ركض الأطباء وبينهم زاهي إلى زاوية المهجع حيث القتلى، فحصوهم جميعاً، الكل ماتوا فوراً، ومكان دخول الرصاصة واحد لدى الجميع في الرأس من الخلف، سحبوهم إلى وسط المهجع، تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس البعض حولها يبكون، الأغلبية جامدة مذهولة، الأطباء في حالة حيرة لايعرفون ما يفعلون، وقف واحد من فرقة الفدائيين، قال:

– لاحول ولاقوة الا بالله … انّا لله وإنّا اليه راجعون، عليهم رحمة الله، هم السابقون ونحن اللاحقون، اللهم أسكنهم فسيح جنانك، اللهم هؤلاء شهداء في سبيل إعلاء كلمتك، كلمة الحق، فارحمهم أنت الرحيم الغفور.

بعد خروج مدير السجن وزمرته أغلق أحدهم الباب بقوة شديدة، فسقطت قطعة من الإسمنت بجانب الباب، أي بجوار المكان الذي أنام فيه. وتركت ثقباً يمكّنني من النظر إلى الساحة. أعدت قطعة الإسمنت إلى مكانها، وكلما أردت التفرج على ما يجري في الساحة رفعت قطعة الإسمنت ونظرت.

فيما نحن نسير.. ندور، امتدت يد الرقيب الغليظة، أمسكتني من ساعدي وجرتني خارج الرتل، أغلقت عينيّ جيداً ونكست رأسي حتى التصق بصدري. بقي ممسكاً بساعدي، اليد الأخرى أمسكت فكي السفلي ورفعت رأسي إلى الأعلى بعنف، فحّ صوته ممزوجاً بحقد رهيب:

– ارفع رأسك.. ولا كلب، افتح تمك.. لشوف.

فتحت فمي، طلب مني أن أفتحه أكثر، ففتحته. تنخّم بقوة، تنخم ثلاث مرات، ودون أن أستطيع رؤيته أحسست أن فمه قد امتلاً بالمخاط المستحلب.. شعرت برأسه يقترب مني و..بصق كل مايحتويه فمه إلى.. داخل فمي. برد فعل غريزي حاول فمي التخلص من محتوياته، تملكتني حاجة لاإرادية بالإقياء، لكنه كان أسرع مني وأسرع من فمي، أغلق فمي بيد وامتدت يده الأخرى بسرعة البرق إلى جهازي التناسلي، أمسك خصيتيّ وضغط عليهما بشدة.. موجة الألم الهائلة التي صعدت من خصيتيّ إلى الأعلى كادت أن تفقدني الوعي، انقطع تنفسي لثانيتين أو ثلاث، كانت كافية لأن أبتلع مخاطه وبصاقه كي أتنفس، ظل يضغط خصيتيّ حتى تأكد أنني قد ابتلعت كل شيء.

تابعت السير.. تابعت الدوران، مغمض العينين، منكس الرأس.

ألم الخصيتين المهروستين يخفت شيئاً فشيئاً، الإحساس بأنني قد امتلات بالقذارة يتصاعد شيئاً فشيئاً.

عندما نسمع صوت الهليوكوبتر يرتجف أو يتوتر كل من في السجن، حتى الشرطة والبلديات يتوترون، البعض يسميها طائرة الموت، أو ملاك الموت الهابط من السماء، أحد السجناء قال إن عزرائيل يجلس في المقعد الأمامي للطائرة لاًن هؤلاء متعاقدون معه.

السجن يبعد عن العاصمة عدة مئات من الكيلومترات، لذلك فهيئة المحكمة الميدانية تأتي بالطائرة على الأغلب مرتين في الأسبوع، الاثنين والخميس ، وهيئة المحكمة هذه قد تكون ثلاثة ضباط وقد تكون ضابطاً واحداً، يعطون إدارة السجن بعد أن يدخلوا الغرفة المخصصة لهم لائحتين اسميتين:

اللائحة الأولى: تضم أسماء الذين سيحاكمون في هذا اليوم، تأخذ الشرطة هذه اللائحة وتدور على كل المهاجع منادية على الأسماء، ثم يبدأ التجميع من آخر مهجع في الساحة السابعة مع الصياح والشتم والكرابيج، الرؤوس المنكسة والأعين المغمضة، يسوقونهم سوقاً إلى الساحة صفر حيث يُجلسونهم على الأرض أيديهم فوق رؤوسهم، ورؤوسهم بين ركبهم.

يدخل إلى غرفة المحكمة أول اسم نادوا عليه بصفعة قوية على الرقبة عند باب الغرفة، يسأله الضابط:

– أنت فلان ابن فلان؟

– نعم سيدي.

– طالعوه لبره.

وهكذا تكون قد انتهت محاكمته، ثم يدخل الثاني والثالث .. وهكذا خلال ساعتين أو ثلاثة قد تتم محاكمة أكثر من مئة شخص، أحياناً تتعطل إجراءات المحاكمة، فالضابط يسأل السجين:

– أنت فلان ابن فلان؟

– نعم سيدي.

– ولاك ابن الكلب .. أنت شاركت بتفجير المجمع الاستهلاكي؟

– لا والله يا سيدي .. أنا مالي علاقة بأي شي.

– يا كلب .. عم تنكر كمان !! .. يا شرطة.

يدخل عناصر الشرطة إلى الغرفة.

– حطوه بالدولاب حتى يعترف.

تبدأ حفلة التعذيب أمام غرفة المحكمة، يبدأ الضرب والصراخ الأمر الذي يشوش على هيئة المحكمة، يتوقف العمل، تشرب هيئة المحكمة القهوة العربية، بعد قليل يهدأ كل شيء ويدخل الشرطة والسجين معهم يترنح:

– شو .. لساتوا ميبس راسه؟!

– لا سيدي .. اعترف بكل شي.

– إعدام .. طالعوه لبرّه.

أغلب السجناء لا تستغرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة الميدانية أكثر من دقيقة واحدة، أغلب السجناء لا يرون القاضي “الضابط”، ولا يعرفون الأحكام التي صدرت بحقهم وقررت مصيرهم. هذه المحكمة ذات نوعين من الصلاحيات، فهي تملك الحق في أن تصدر أحكاماً بالإعدام وتنفذها بالقدر الذي تشاء، وتسجن من تشاء المدة التي تشاء. لكنها لاتملك الحق في إخلاء سبيل أي بريء “معروف هنا أن المهجعين الأول والثاني يسميان حتى لدى الشرطة بـ مهجع البراءة، المحكمة ذاتها وخلال عدة سنوات كانت قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم في الحقيقة أطفال أعمارهم بين / 11 – 15 / عاماً قبض عليهم خطأ ولكنهم بقوا في السجن ولم يطلق سراح أي منهم، وقد قضى سجناء مهجع البراءة في السجن مدداً تتراوح بين / 10 – 15 / سنة، هؤلاء الأطفال خرجوا من السجن لاحقاً رجالاً”.

اللائحة الثانية: وهي لائحة الذين سينفذ فيهم حكم الإعدام شنقاً في اليوم نفسه.

اليوم هناك أربعة من مهجعنا سيتم تنفيذ حكم الاعدام بهم، قام هؤلاء الأشخاص بالذهاب الى المغاسل، تطهروا، توضؤوا، صلّى كل واحد منهم صلاة عادية، أي صلاة علنية مكشوفة للجميع فيها سجود وركوع “وهل بعد الموت خوف؟!” بعدها طافوا المهجع ودّعوا الجميع مصافحةً وتقبيلاً:

– سامحونا يا جماعة… نرجو أن تغفروا لنا أخطاءنا، ادعوا لنا عند الله ان يأخذنا بواسع رحمته وأن يحسن ختامنا.

الهدوء، ابتسامة خفيفة، أراقبهم جيداً، أتلصص، هل هدوؤهم حقيقي أم مصطنع؟ أرقب اليدين، زوايا الشفتين، العيون، لا ألمح شيئا يدل على الخوف أو الهلع.

يخلعون كل الثياب التي لا زالت بحالة جيدة وتصلح لاستخدامها من قبل الأحياء من بعدهم ، يلبسون بدلاً منها ثيابا مهترئة لا تصلح لشيء، يسلمون الثياب الجيدة الى رئيس المهجع لتوزع بمعرفته.

الإعدام يتم قبالة مهجعنا، وقد رأينا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس.

بين الفينة والأخرى نسمع صوت التكبير ينطلق من حناجر عدة أشخاص معاً، يبدو أنها الدفعة التي يأتي دورها بالتنفيذ.

خلال الفترة الماضية كلها كان شعر جسدي يقف منتصباً كلما سمعت هذا الصوت ينطلق قبالة مهجعنا .

في الليل يطابق الساهرون بين العدد الذي ورد عبر الاتصال “المورس” وبين عدد ارتطامات الجثث على أرضية السيارة.

– صحيح … خمسة وأربعون شهيداً.

في اليومين التاليين ينهمك الحفظة بحفظ أسمائهم وعناوينهم.

العجزة في المهجع كثر، المشلولون والمجانين، ثلاثة عميان، أخرس واحد.

أميز حالة بين المجانين: دكتور الجيولوجيا ـ لا أعرف هل هو جنون أم شيء آخر ؟ ـ رجل في الخمسين من عمره، ذهب الى أمريكا لدراسة الجيولوجيا، نجح في دراسته وحاز على الدكتوراه بدرجة امتياز، عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم إدارة واحدة من أهم المؤسسات العلمية، كان ميالا الى التدين، وإبان احتدام الصراع بين الإسلاميين والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها، عند فجر أحد الأيام سحبه رجال المخابرات من وسط عائلته، وماذا جرى بعد ذلك لا يعرف أحد.

يجلس دكتور الجيولوجيا على الأرض متربعاً ووجهه الى الحائط ثم يغطي نفسه كاملاً بالبطانية، ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاءً، حاول كثيرون أن يسألوه، يحادثوه، لم يلفظ حرفاً … لم يفتح عيناً.

نحن الآن جائعون… جائعون بشدة، منذ ثلاثة أشهر هبطت كميات الطعام التي تقدمها لنا إدارة السجن هبوطاً حاداً.

كان لكل سجين يومياً رغيفان من الخبز العسكري، الآن رغيف واحد لكل أربعة سجناء، حصتي اليومية ربع رغيف لثلاث وجبات، اليوم فطوري كان ثلاث حبات زيتون هي كامل حصتي، ملعقة صغيرة من المربى على العشاء، إذا كان الإفطار بيضاً فلكل ثلاثة سجناء بيضة مسلوقة، “نصح الأطباء الجميع بعدم رمي قشر البيض، يسحقونه ويأكلونه للتعويض عن الكلس”.

بعد ثلاثة أشهر من الجوع، الهزال واصفرار الوجوه باد على الجميع، قلّتْ حركة الجميع، من كان يقوم بالرياضة سراً أقلع عنها.

الشرطة تراقب … وتواصل عملها كالمعتاد.

6 تشرين الأول

اليوم كان مليئاً. منذ الصباح تعج الساحة بالأصوات والضرب والصياح والصراخ. فُتح باب مهجعنا وخرج الفدائيون لإدخال الطعام تحت ضرب الكرابيج والعصي، أحد الفدائيين تلقى ضربة عصا سقط على إثرها ارضاً وكانت هذه آخر سقطة له، بقي في الخارج وحيداً بين أيدي عناصر الشرطة، وبعد قليل صاح الرقيب: – يا كلاب … تعوا دخّلوه.

عاد الى المهجع محمولاً بدلا من أن يكون حاملاً.

تلقفه الأطباء في المهجع، بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد أن أوصى صديقه بصوت متهدج:

– سلم على أبوي … إذا الله فرج عنك … احكيلوا عني … وقل له يرفع رأسه بابنه …

واحد من الأطباء أتى الى عند رئيس المهجع والحزن باد عليه:

– الله يرحمه ما خلوا محل بجسمه إلا وضاربينه …عدة إصابات … حتى الخصيتين مهروسات هرس. انغمس المهجع بتجهيز الشهيد، الحديث عن الشهيد، مآثره، وصيته الأخيرة، ثم صلوا عليه سرا وأحضروه قرب الباب،

وقف أبومحمد ودق الباب بجماع يده، وجاء الصوت من الخارج:

– شو بدك يا “…..” ؟… ليش عم تدق الباب ؟.

– يا سيدي … في عنا واحد شهيد !!! … عفوا عفوا … واحد ميت.

نسي أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهيد في المهجع، انتبه واستدرك ولكن هذا الاستدراك جاء متأخراً.

فتحت الطاقة الصغيرة في الباب الحديدي وظهر رأس الرقيب، وبمنتهى الهدوء توجه بالسؤال إلى أبي محمد الذي كان واقفاً:

– مين يللي قال شهيد … يا رئيس المهجع ؟.

– أنا سيدي.

أغلق الرقيب الطاقة وصاح بالشرطة أن يفتحوا الباب.

في الثواني القليلة التي استغرقها فتح الباب، التفت أبو محمد الى الناس وقال:

– يا شباب سامحوني … ادعوا لي … ويللي يضل طيب منكم خليه يروح لعند ولادي ويحكيلهم كيف مات أبوهم!

– فُتح الباب. جمهرة من الشرطة أمامه…

– قذف أبو محمد نفسه بينهم، صاح الرقيب بالشرطة أن يغلقوا الباب. أبو محمد كان ضابطاً سابقاً، وكان رجلاً حقيقياً.

بعد أن فتحتُ الثقب كان أول من رأيت هو أبو محمد، بيده عصا غليظة من المؤكد أنه انتزعها من أحد عناصر الشرطة بعد أن فاجأهم بطريقة خروجه، يضرب بها ذات اليمين وذات الشمال، تحيط به دائرة من عناصر الشرطة والبلديات، ثم رأيت واحداً من الشرطة ممدداً على الأرض.

تضيق الدائرة حوله وتنهال عليه بعض الضربات من الجانبين ومن الخلف، يتألم يلتفت ويهجم، تتسع الدائرة، معركة حقيقية ولكنها غير متكافئة عددياً، من طرف: رجل يعرف أنه سيموت في كل الأحوال، وقرر ألا يموت موتاً سهلاً ورخيصاً، ومن الطرف الآخر مجموعة كبيرة من الأشخاص اعتادوا أن يكون قتلهم للآخرين سهلاً.

والكثرة غلبت الشجاعة. سقط أبو محمد أرضاًً بعد ربع الساعة، حضر أثناءها المساعد والطبيب ومدير السجن، على الأرض أربعة اشخاص ممددين، ثلاثة من الشرطة بينهم رقيب، لقد رأيت كيف تقصّد أبو محمد أن يهاجمه هو رغم أنه كان بعيداً عنه، وكيف نزلت عصا أبو محمد على رأسه.

فحص الطبيب الجميع، أسعفوا أحد العناصر بسرعة، الرقيب والعنصر الآخر ماتا، أبو محمد مات، قدم الطبيب هذا الشرح لمدير السجن الذي التفت الى المساعد طالباً منه أن يجمع كل من في السجن من عناصر الشرطة والبلديات وأن يقف جميع الحراس المسلحين الموجودين على الأسطحة.

اعتبر المقدم مدير السجن أن ما حدث كان تمرداً وسابقة خطيرة يجب أن تجابه بكل قوة، بمنتهى القسوة والعنف كي تكون درساً للجميع.

حوالي الثلاثمائة سجين، يحيط بهم عناصر الشرطة والبلديات، عشرات الحراس المسلحين على الأسطحة. جمعونا وسط الساحة، في آخر الصف قريباً من المهجع وضعوا العجزة، ألقى مدير السجن محاضرة نصفها شتائم، والنصف الآخر تهديد ووعيد، وقد نفذ تهديده، قال للمساعد:

– مابدي حدا يفوت على المهجع وهو ماشي، السليم منهم لازم يفوت زحف على بطنه.

“بعض السجناء سيسمي هذا اليوم لاحقاً بـ / يوم التنكيل / وبعضهم الآخر سيسميه / يوم أبو محمد/”. .

استمر التنكيل من قبيل الظهر إلى ما بعد حلول الظلام، وكان أكثر ما يؤلم مشهد المشلولين وهم يُضربون، يحاولون الحركة، يحاولون تفادي الضرب .. ويظلون مكانهم.

في الصباح الجميع ينظر الى الجميع، كل من لديه القدرة يحاول أن يطمئن على جاره، الحصيلة ثلاثة قتلى ماتوا ليلاً، جراحي خفيفة ولا تشكل أي خطر.

24 شباط

البرد يجمدنا، الجوع يضنينا. ازداد هزال السجناء بسبب قلة الطعام، ثم بدأ مرض السل يظهر. وبعد شيء من الجدل مع السجانين بدأ العلاج.

أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص على ساحة السجن عبر الثقب، شاهدت الإعدامات … ثماني مشانق … كل اثنين وخميس، أسمع كلام الشرطة بوضوح أحياناً، كان الناس هنا يتساءلون: لماذا لم نعد نسمع صيحات الله أكبر لدى تنفيذ حكم الأعدام ؟. الآن عرفت السر، بعد أن يخرج المحكومون بالإعدام من المهجع يغلق الشرطة الباب ويقومون بلصق أفواه المحكومين بلاصق عريض، كأن صرخة الله أكبر من المحكومين قبل إعدامهم تشكل تحدياً واستفزازاً للمحكمة الميدانية وإدارة السجن، فمنعوها باللاصق. هذه المشانق هي التي تنزل إلى المحكوم، البلديات الأشداء يميلون المشنقة إلى أن يصل الحبل إلى رقبة المحكوم بالإعدام، يثبتون الحبل حول الرقبة جيداً ثم يسحبون المشنقة من الخلف، يرتفع المحكوم عليه وتتدلى رجلاه في الهواء، بعد أن يلفظ الروح ينزلونه الى الارض … وتأتي الدفعة الثانية ثم الثالثة … أغلب الذين شاهدت إعدامهم كانوا هادئين. أحد المساجين من صغار السن استطاع أن يفلت من بين أيديهم ويركض في الساحة السادسة، وهي ساحة كبيرة جداً ذات فرعين، الهرب مستحيل واضطر الشرطة والبلديات للركض وراءه لدقائق الى أن أمسكوه، أوقفوه تحت المشنقة فجلس على الارض، رفعه اثنان من البلديات وأدخلوا رقبته في الحبل.

20 آذار

علاج مرضى السل مستمر، وجولات الدكتور سمير (وهو أحد السجناء) الذي قام بالعلاج أيضاً مستمرة، مرّ شهران كاملان لكن الاصابات في تزايد مستمر، وصل الرقم الى ألف وثلاثمائة إصابة، الوفيات قليلة جداً. وردت رسالة “مورس” مؤلفة من بضع كلمات: “طبيب السجن قتل اثنين من زملاء دفعته.”

الرسالة واردة من المهجع السابع، بعد ثلاثة أيام وردت رسالة أخرى:

“طبيب السجن [يونس العلي] قتل ثلاثة من زملاء دفعته.”

أبو حسين، أحس بالخطر، فدعا الطبيبين زملاء دفعة طبيب السجن لعنده، كانت لديه خشية كبيرة من أن يقوم طبيب السجن بقتل كافة زملاء دفعته ومنهم هذان الطبيبان، استخدم أبو حسين كل لباقته ودهائه كيلا يدخل الخوف الى قلبيهما: أنا لا أريد أن أهون المسألة وأكذب عليكما، ولكن قد يكون دوركما قادماً، لا سمح الله. والآن هل أستطيع أنا أو غيري أن نفعل شيئاً؟.

– ولكن قولا لي لماذا يفعل هذا؟ هل هو ينتقم؟ وممن؟.

– والله يا أبا حسين لا نعرف الكثير عنه، ما نعرفه أنه أتى الى الجامعة، كان ريفيا بسيطا وخجولا، عرف الجميع أنه من عشيرة الرئيس وهو لم يكن يخفي هذا، كان يدرس الطب على نفقة الدولة، قيل إنه كان يعمل مخبرا لدى الجهات الأمنية، والقصة التي لها بعض المعنى في هذا الموضوع هو حبه لزميلة من زميلاتنا، بقي حتى السنة الثالثة في الجامعة يحبها بصمت، لا يجرؤ على الاقتراب منها أو مصارحتها، في السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها في أحد المختبرات، أمسك يدها وصارحها بحبه، قال إنه يعبدها … وإنه…. وإنه.

الفتاة كانت ردة فعلها عنيفة جداً، وقد تكون هي السبب في كل ما يحدث، صّدته، اشتكت الى عمادة الكلية، ثم أخبرت أهلها بما حدث.

اليوم في 20 آذار، قبل عيد الربيع بيوم واحد، كان موعد هذين الطبيبين مع زميلهما.

أخرج عناصر الشرطة الطبيبين وأغلقوا الباب، رأيت الطبيبين يسوقهما عناصر الشرطة إلى أمام طبيب السجن الذي يقف على مبعدة أربعة أو خمسة أمتار من المهجع. يقف الطبيب عاقداً يديه على صدره وهو يبتسم. رحب بهما: أهلاً وسهلاً، ثم التفت الى عناصر الشرطة وأمرهما:

– روحوا خلوكم جانب البلديات.

في وسط الساحة سبع من البلديات العمالقة. وقف عناصر الشرطة بالقرب منهم، قال طبيب السجن:

– ايه … هلق عم تقولوا لحالكم : سبحان مغير الأحوال … طيب وانا كمان بقول هيك … بدي أطلب منكم طلب، مين منكم بدو يجوزني أخته ؟ .

لم يجب الطبيبان بشيء، رأساهما منكسان قليلاً، تابع طبيب السجن:

– ليش ساكتين؟! … شو يا عدنان … أنا عم أخطب أختك على سنة الله ورسوله، الزواج عيب شي؟. – بس أنا ما عندي أخت، والحمد لله.

سادت فترة صمت ثم التفت الى الطبيب الآخر، وقال :

– طيب … وأنت يا زميل سليم كمان ما عندك أخت؟.

– نعم … عندي أخت.

– طيب خطبني اياها على سنة الله ورسوله.

– الزواج قسمة ونصيب، ونحن هلق بوضع ما بيسمح بنقاش هيك أمور، وأولاً وأخيراً أنا ماني ولي أمرها. – هذا أسلوب تهرب …

اقترب منه وبصوت أقوى:

– وإلا شايف أنه نحن مو قد المقام، انتو ناس أغنياء وأكابر، نحن فلاحين، مو هيك؟

اقترب منه ولوح بيده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو يصر على أسنانه:

– ولك شوف … افتح عيونك وطلع لهون، شايف هذا البوط، بوطي أحسن منك ومن أختك وأهلك وكل عشيرتك وطايفتك … يا كلب.

ثم التفت الى حيث البلديات وصاح:

– بلديات… تعوا لهون ولاك… خذوهم عـ نص الساحة.

سحب البلديات الطبيبين. ومشى وراءهم وهو يصيح:

– هدول ناس أكابر … يعني فوق … فوق، وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر … يالله لشوف.

في منتصف الساحة كنت أرى ولا أسمع. استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلديات، من الرجلين، اليدين، الخاصرتين، ومن تحت الرأس. إنها عقوبة المظلة. والمظلة عقوبة تعني واحداً من ثلاثة أشياء: إما كسور مختلفة في سائر أنحاء الجسم وعلى الأغلب في الحوض، وإما شلل دائم عندما يكون الكسر في العمود الفقري، أو الموت وهو الاحتمال الثالث خاصة عندما يسبق الرأس الجسم في النزول، وغالبا هذا يحدث عندما يكون عنصر البلديات الممسك بالرأس أقل قوة من الآخرين.

رفع البلديات عدنان، وجهه الى السماء، ظهره مواز للأرض الاسفلتية، أرجحوه قليلاً ثم بصوت عال:

– يالله .. واحد … اثنين …ثلاثة.

وقذفوه الى الأعلى، ثم خبطة قوية على الأرض، لم يتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهيبة.

انتظر طبيب السجن قليلا، أشعل لفافة تبغ وظهره لعدنان والآخرين، كان ينظر باتجاه باب مهجعنا، عبّ نفسا من اللفافة وزفره، التفت وأشار للبلديات الذين تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و … واحد … اثنين … ثلاثة، هذه المرة لم تصدر أية صرخة.

تكرر نفس الأمر مع سليم.

تركوهما وسط الساحة في حالة استلقاء أبدي. مجموع ما قتله طبيب السجن من زملاء دفعته أربعة عشر طبيباً.