29أيلول
استيقظت في الصباح الباكر على أنين رجل يتألم بشدة. كان يضع يده على بطنه وهو يتلوى ألماً، أنا الوحيد الذي استيقظ على أنينه، نظر الي مباشرة ، نظرته تحتوي على نداء استغاثة، تلفتُّ حولي حائراً، هممت أن أسأله عما به وماذا يريد، لكن لم أعرف كيف أفعل ذلك !استيقظ العديد من السجناء ، طلب منهم أن يأتوه بطبيب ، حضر أحد الأطباء وسأله وهو يفحصه عما به:
– مغص شديد يادكتور … مصاريني عم تتقطع، راح أموت يا دكتور!!.
– التهاب حاد بالزائدة الدودية، إذا لم يتم إسعافه سريعاً وإجراء عملية جراحية فهي حتماً ستنفجر وسيموت المريض.
– مين هـ الكلب يللي عم يدق الباب ؟.
أخبره أبو حسين برقم المهجع، وأن الدكتور سمير يريد طبيب السجن لأمر هام.
فوجئ الدكتور سمير بذلك لكنه وقف إلى جانب أبي حسين بانتظار طبيب السجن، قال أبو حسين لسمير: – والله يا دكتور … كيف طلع اسمك معي مابعرف !!… وانت صاروا يعرفوك ويجوز يسمعوا منك. كان مرض السل في أواخره ولا زال الدكتور سمير يتابع علاج عشرات الحالات التي أسماها مستعصية، ولذلك فهو على احتكاك دائم مع الشرطة.
استغرق مجيء الطبيب أكثر من ساعة. جاري يعتصر من الألم، فتح الباب وظهر أمامه الطبيب والمساعد وبعض الشرطة، شرح سمير الأمر، لكن طبيب السجن لم يتكلم ابداً، أدار ظهره ومشى، المساعد رمق سمير بنظرة طويلة وقال:
– مشان زائدة دودية عملتوا كل هـ الضجة ؟!… صحيح هـ الكلب معه زائدة بس انت معك ناقصة، وأنا من زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه … طلاع لبره.
خرج الدكتور سمير الى خارج المهجع ، وخاطب المساعد أبا حسين:
– مين دق الباب … ولا؟
– أنا يا سيدي دقيت الباب.
– طلاع لبره كمان يا كلب … يا ابن الكلاب.
خرج أبو حسين ايضاً وأغلق الباب، نصف ساعة كنا نسمع صراخهما.
مشان الله يادكتور لا تواخذني !… انا سببتلك هـ العقوبة، أنا يللي ورطتك.
ضحك الدكتور سمير وهو يحجل في مشيته، ربت على كتف أبي حسين:
– بسيطة أبو حسين بسيطة …
تقدم طبيب كهل أشيب الشعر جلس على فراش أبي حسين، قال:
– تعرف يا أبو حسين اني طبيب جرّاح، انا بحسن هلق ساوي عملية جراحية للمريض بستأصل الزائدة فيها، لكن يلزمني بعض الاشياء، وكمان لازم المريض يقول قدام الناس كلها إن العملية على مسؤوليته هو.
واختار المريض الموت المحتمل، نفى أمام الناس كل مسؤولية عن الطبيب.
أبلغ الطبيب أبا حسين بمستلزمات العملية:
– يوجد قماش نظيف، يوجد كحول، يوجد ملح، يوجد بعض حبوب المضاد الحيوي التي استطاع الدكتور سمير أن يغافل الشرطة عنها، يوجد إبر خياطة،خيطان، نار، لكن ما نحتاجه هو بعض الاشياء المعدنية لنحولها الى مشارط!!.
التلييس الداخلي للمهجع كان ذا إسمنت خشن والجميع يدرمون اظافرهم بهذا الإسمنت – لا مقصات أظافر في السجن – وعلى هذا الاسمنت تم صنع وابتكار العديد من الأشياء، فمِن قِطَع عظم صغيرة تم صنع إبر الخياطة، يمسك أحدهم العظم ويبدأ بحكه على الجدار … يوم … يومين.. أيام، إلى أن يأخذ شكل الابرة، وبواسطة مسمار يكون قد تم برده ايضاً على الحائط، يقوم الشخص وبصبر عجائبي بفتح ثقب الابرة ، ” المسمار هنا يعتبر ثروة ، وتبين أن هناك عشرات المسامير في المهجع ” ، الخيطان أمرها سهل ، ينسلون قطعة قماش ، بصبر وهدوء يغزلون الخيطان الرفيعة من جديد وحسب الطلب . الكحول : بعض الاطباء قاموا بتخمير المربى في بعض المرطبانات البلاستكية ” وتحول السائل الى كحول ، قد تكون نسبته قليلة لكنه كحول .
عمم أبو حسين الأمر على المهجع :
– كل من لديه قطعة معدنية مهما كان نوعها او شكلها ليأت بها .
وظهرت المعادن: مسامير، قطعة نقدية من فئة الليرة عليها صورة رئيس الدولة، أربع علب سردين فارغة! أسلاك معدنية، خاتم ذهبي.
مددت يدي الى جيب سترتي الداخلي ، تحسست الساعة ، أمسكت بها، يجب أن أعطيها لهم … ساعتي مفيدة جداً لهذا الامر ، فـ ” الكستك ” المعدني مؤلف من قطع معدنية رقيقة يسهل تحويلها الى أدوات حادة ، وكذلك غطاؤها الخلفي ، وحتى زجاجها اذا لزم الامر، تمّ فرْشُ بطانية أمام المغاسل حيث لا يستطيع الحارس على السطح أن يرى شيئاً ، واستلقى المريض، الطبيب يتناقش مع مجموعة من الأطباء.
مشيت باتجاه الطبيب الجراح ، دون أية كلمة مددت يدي بالساعة إليه .
– بوغت الجميع ، سكتوا ، نظر الجراح في عيني مباشرة ، وببطء مد يده وتناول الساعة مني ثم التفت الى الاطباء وهو يقلب الساعة ، قال :
– هلق صار فينا نبدأ ، هـ الساعة راح تساعدنا كثير .
وزع الطبيب قطع الساعة و” الكستك ” على بعض السجناء الذين انهمكوا في عملية البرد والشحذ ، فجأة قرقع المفتاح في الباب ، أذيعت أسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ، ثلاثة إعدام وستة محاكمة ، توقفت التحضيرات لإجراء العملية أكثر من ساعة ، توضأ خلالها المحكومون، صلوا ، ودّعوا الناس ، خلعوا الثياب الجيدة وارتدوا ثياباً بالية، وخرجوا .
– اللهم أحسن ختامنا ، عليهم رحمة الله ، خلونا نتابع الشغل يا شباب لأنه المريض ما عاد ممكن يتحمل أكثر من هيك .
توجه الطبيب الجراح بهذه الكلمات الى بعض الأطباء وإلى الشباب الذين كانوا يقومون بالاستعدادات ، انتهى تجهيز المشارط،
كيس بلاستيكي مملوء بالدهن ، يبدو أنهم كانوا يجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ، ينقّونه من الشوائب ويضعونه في الكيس، ملأوا إحدى علب السردين بالدهن وغرزوا فيه قطعة قماش بعد أن فتلوها جيداً ، أخرج أحدهم علبة كبريت وأشعل الفتيل ، ” من أين الكبريت ؟!” ، اشتعلت النار مدخنة ، وضعوا فوق النار علبة سردين أخرى مملوءة بالماء وبه ” المشارط “، كانوا ينفخون على الدخان المتصاعد من الدهن ويحاولون توزيعه قدر الامكان كي لا يصعد الى السطح ويشمه الحارس ، بعد قليل غلت المياه فتعقمت أدوات الجراحة .
في هذه الأثناء كان الطبيب قد غسل بطن المريض بالماء والصأبون ، ثم أحضر ملحاً رطباً فرك به نفس المكان ، غسل يديه جيداً وأصر على ارتداء الكمامة قبل إجراء العملية ، تغيرت نبرة صوته وبدأ باصدار الاوامر :
– ما في عنا مخدر … لذلك بدك تتحمل الالم ولا تتحرك أبداً.
– تعالوا أنتم الأربعة ، أمسكوه بقوة، كل واحد من طرف.
أخرج الطبيب المشارط من علبة السردين وبدأ بتجريبها واحداً بعد الآخر ، اختار المشرط المصنوع من غطاء ساعتي ، جربه على ظفر إبهامه، وضع المشرط على بطن المريض، قال: “بسم الله الرحمن الرحيم”، وحز جرحاً بطول عشرة سنتيمترات تقريباً.
– آخ يا أمي .
صاح المريض ولكنه لم يتحرك .
انتهت العملية، كان الطبيب يعمل بسرعة فائقة، وبعد خياطة الجرح مسحه ونظفه، فتح عدة حبات من المضاد الحيوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ، ثم قطعة قماش نظيفة وربطه جيداً . عدت الى فراشي فوجدت بنطال بيجاما وقطعتي قماش، فوقهما إبرة عظمية وخيطان، امسكت بهذه الاشياء نظرت حولي ولكن لم يكن هناك أحد يلحظني، مَن وَضَع َهذه الأغراض؟ البنطال عرفته كان لأحد الذين أعدموا اليوم ، لكن من وَضَعه على فراشي؟.
الآن وبعد مرور شهر على إجراء العملية فإن الرجل تعافى وأصبح يمشي بشكل
طبيعي .
1 كانون الثاني
عند منتصف الليل سمعت أصواتاً في الساحة ، نظرت من الثقب ، الساحة مضاءة كالعادة ، كل ساحات وأسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة ليلاً نهاراً، هناك في الساحة جمهرة كبيرة من الشرطة يُصْدرون ضجة كبيرة، ضحك.. صياح.. شتائم .. المساعد في وسط الساحة تحيط به مجموعة من الرقباء. وكانوا قد اقتربوا من مهجعنا. طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة. وخرجنا .
خرجنا حفاة عراة ، حتى السروال الداخلي أمرونا ان نخلعه. “
الشرطة والرقباء والمساعد جميعاً يرتدون المعاطف العسكرية وقد لفوا رؤوسهم باللفحات الصوفية ، المساعد يتمشى جيئةً وذهاباً أمام الصف ، الشرطة يضبطون الاصطفاف : وقّف باستعداد ولا … نزل راسك .. الريح شمالية قارسة، أعتقدُ أن درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات .
بللونا بالمياه من الرأس وحتى أخمص القدمين، أمرونا ألا نتحرك، عناصر الشرطة يمشون حولنا وخلال صفوفنا وبأيديهم الكرابيج والعصي.
بدأ المساعد خطبة طويلة، ثلاثة أرباع الخطبة شتائم مقذعة ، وقد بدأها بتحميل السجناء مسؤولية بقائه بالسجن بينما العالم كله يحتفل ، ولولا أننا موجودون هنا حالياً لكان هو ايضاً يحتفل. أنهى خطبته وغادر الساحة دون أن يعطي أية تعليمات بشأننا .
صوت اصطكاك الأسنان مسموع بشكل واضح. الجميع يرتجف برداً.
صمت مطبق لا يخدشه إلا صوت خطوات الشرطة، حتى أيديهم التي يحملون بها الكرابيج دسوها في جيوبهم.
– الألم يتعمم ويتعمق، الأسنان تصطك، اللسان، الأنف، الأذنان، الكفان، القدمان، كل هذا ليس من الجسد. تتساقط الدموع برداً وبكاءً فتتجمد على الخدين وزوايا الفم المرتجف. يسقط أحدهم قبلي ، يقف جميع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه، تخرج الأيدي من الجيوب ، وينطلق بضعة عناصر ، يجرون السجين الذي سقط الى أمام الصف حيث يتجمع الرقباء. تنهال الكرابيج على جميع أنحاء جسده المتخشب، يحاول الوقوف ولكن وقع الكرابيج يمنعه، يسقط آخر … يُجَرّ الى حيث التدفئة (الضرب بالكرابيج)، وآخر… وآخر.
وسقطتُّ … سقطت دون أن أفقد الوعي وجرّوني إلى أمام الصف.
لقد جربت وعاينت الكثير من صنوف الألم الجسدي… لكن أن تساط في البرد وأنت مبلل… أمر لا يمكن وصفه.
مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفئته من قبل الشرطة انتهت الحفلة. دخلنا المهجع ركضاً على إيقاع الكرابيج، ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أنني لن أستطيع النهوض عن الأرض، لكن ما أن سمعت الأمر بالدخول ورأيت الكرابيج تهوي حتى قفزت، ” لطالما تساءلت بيني وبين نفسي عن منبع هذه القوة!… المقاومة؟”.
هذه المرة رأيت فرحاً حقيقياً على وجوه الناس بخلاصهم من مجهول كانوا يخشون وقوعه في دواخلهم كثيراً ، وخلف هذا الفرح تراكمت طبقة جديدة من حقد أسود تزداد سماكتها بازدياد الألم والذل .
5 حزيران
جاءت زيارة إلى أحد السجناء.
بعد ثلاثة أيام ألقى مدير السجن خطاباً ، تحدث فيه عن إنسانيته ورحمته وأن قلبه ينفطر ألماً عندما يرى أبناء وطنه في هذه الحالة !! وقال: كل من تأتيه زيارة منكم عليه أن يطلب من أهله إخبار كل من يعرفون من أهالي السجناء الاخرين لكي يسعوا إلى زيارته وبنفس الطريقة .
لكن ماهي الطريقة ؟… لم يعرف أحد ، ولم يجرؤ على السؤال أحد ، وكانت المرة الاولى التي يخاطبنا فيها وعيوننا مفتوحة.
اليوم أتت زيارة لشخص من مهجعنا ، أبو عبدالله.
طلب الشرطة منه أن يلبس ثياباً جيدة ، وتبارى الجميع لإلباسه أفضل ثياب في المهجع ، ذهب وعاد بعد أكثر من نصف ساعة لاهثاً مخضوضاً يتصبب عرقاً ، وقف يتلفت وينظر، ولكن يبدو كمن لا يرى أحداً، باب المهجع لا يزال مفتوحاً والبلديات يدخلون الأغراض بجاطات بلاستيك ، بعد أن أغلق الشرطة الباب قال شخص لآخر:
– ماشاء الله … ما شاء الله ، خمسة وثمانون جاطاً !!.
أبو عبدالله يتلقى التهاني من الجميع وهو لازال واقفاً كالمأخوذ :
قطع أبو عبدالله سلسلة ” المبروك ” والتفت فجأة الى أبو حسين ، قال :
– كيلو ذهب ياأبو حسين !! … الله وكيلك كيلو ذهب. كل زيارة بكيلو ذهب.
سألت أهلي قالوا لي، لازم أمك تروح لعند أم مدير السجن تأخذ معها كيلو ذهب ، وأم مدير السجن تعطي ورقة زيارة !!.
البلديات كانوا ينقلون الجاطات حتى باب المهجع ، يخرج الفدائيون ويأخذون الجاطات منهم … دون أي ضرب !… يفرغونها داخل المهجع ويسلمونها للبلديات … الكثير من الألبسة ، خاصة الملابس الداخلية الصيفية والشتوية ، كأن هناك من أسرّ بآذان الأهل عن حاجاتنا ، والكثير … الكثير من الخضار والفواكه التي يمكن أن تؤكل نيئة .
ما أسكرني … كان الخيار بلونه الأخضر ، انسابت روائحه وعطوره الى أنفي ، ثلاثة جاطات من الخيار مشكّلة تلاً صغيراً أخضرَ، الى جانبه تل صغير أحمر من البندورة، رائحة الخيار ملأت المهجع، الجميع كان فرحاً.
بقيت عدة ساعات تحت البطانية ، لا أريد أن أرى احداً ، لا اريد ان ارى شيئاً ، البكاء أراحني قليلاً … استيقظت عصراً، كان أمام فراشي مجموعة متنوعة من الأغراض … ” نصف خيارة ، نصف حبة بندورة ، رغيف خبز، قطعة بقلاوة، بعض أنصاف حبات الفاكهة، بيجاما رياضية، غيار داخلي شتوي، غيار داخلي صيفي، جوارب صوفية … ثم شحاطة !”.
طوال كل هذه السنوات ومنذ أن أخذوا حذائي بمركز المخابرات لم أنتعل بقدمي شيئاً، وقد تشكلت على كامل قدمي من الاسفل طبقة سميكة من اللحم الميت المتقرن المتشقق … والآن ها هي شحاطة!. نظرت حولي ، واضح أن حصتي مساوية لحصة أي سجين آخر منهم ، لا أكثر ولا أقل .
8 اذار
كالعادة أخرجونا اليوم الى الساحة ، أوقفونا أمام مهجعنا ، وهكذا بقية المهاجع ، إذاعة السجن تصدح منذ الصباح بالأغاني التي تمجد رئيس الدولة وتتغنى بحكمته وشجاعته وبطولاته ، أعطوا ورقة مكتوبة الى أحد السجناء بها بعض الشعارات والهتافات يصرخ بها ونردد نحن وراءه : سنفدي الرئيس بالروح والدم ، يسقط الإخوان المسلمون عملاء الامبريالية …
لم يكن السجناء يرون أي غضاضة بالهتاف ضد أنفسهم، أو على الاقل لم تبدر منهم أية اشارة أو ممانعة تدل على ذلك، كانوا يهتفون بأصوات عالية جداً.
هذه الاحتفالات تجري كل عام مرتين أو ثلاث مرات، واحتفالات هذا العام تختلف عن غيرها في أن السجناء اليوم كانوا لا ينفكّون يحكّون ويهرِشون أجسادهم: إنه الجرب. بين تصفيق وتصفيق، بين هتاف وآخر ، يمد السجين يده ليحك جسده.
بدأ الجرب منذ خمسة أشهر تقريباً، وكنت قد نجوت من التهاب السحايا ومن السل إلا أنني كنت من أوائل المصابين بالجرب، الذي سرعان ما عم وانتشر ليشمل السجن كله ، والغريب في الامر أن الاختلاط بين المهاجع ممنوع منعاً باتاً ، فكيف يمكن أن ينتشر وباءٌ ما يبدأ في أحد المهاجع ليعم السجن كله !!.
منذ اليوم الاول حدد الدكتور غسان الامر، وهو زميل البورد الامريكي للامراض الجلدية، له مؤلفات كثيرة ويعتبر عالماً في اختصاصه على المستوى العالمي، شخص محترم هنا كثيراً، لا يتدخل في أي مسألة لا تعنيه، وهو المرجع الأخير في الطب لكل الاطباء الذين في المهجع .
فحص الحالات الاولى للمرض، قام بهدوء من مكانه واتجه لعند أبي حسين:
– هذا الجرب سريع العدوى ، خلال أيام راح نكون كلنا جربانين إذا ما عالجناه ، والعلاج بسيط… خذ اجراءاتك … بس أنا خليني بعيد عن هـ الساقط طبيب السجن! ماني طايق أحكي معه ولا كلمة.
فيما هو يغادر التفت نحوي ، سار خطوتين ثم توقف ، اتجه نحوي ، جلس على فراشي وهو يقول :
– السلام عليكم … يا أخي. ممكن … تمد ايديك حتى افحصهم .
بحركة آلية مددت كفيّ الى الامام، أمسك بهما، باعد بين الاصابع ثم التفت الى أبي حسين وقال: شايف، وهاي الاخ جارك كمان مصاب! ثم التفت اليّ :
– يا أخي حاول ألاّ تحُكّ … مهما حكك جسمك حاول لا تحك ، وحتى يفرجها الله ويتأمن الدواء حاول انك تغسل ايديك دائماً بالماء والصابون ، وارجو لك من الله الشفاء ، ولا تخاف هذا المرض مزعج بس مانو خطير .
مرت الايام ، ثم الأسابيع ، وأبو حسين يحاول مع ادارة السجن وطبيب السجن ان يؤمنوا لنا العلاج ولكن دون جدوى ، وآخر مرة قدم فيها الطبيب قام بزجر أبو حسين وتهديده :
– العمى بعيونك… صرعتنا ، ايه هو جرب!… شوية حكة وينتهي الامر. وذهب .
كانت قد مرت أربعة اشهر على بداية المرض ، وظل أبو حسين يحاول .
تطور مرض الجرب كثيراً ، سمعت حديثاً للدكتور غسان مع مجموعة من الاطباء بحضور أبي حسين وكان حديثه موجهاً للاطباء ، وبعد أن عدد أنواع الجرب خلص الى نتيجة أنه لا يوجد عبر تاريخ الطب أنْ سُجِّلتْ حالات كالحالات التي يرونها هنا ، وذكر أن اقسى انواع الجرب هو ان يكون لدى المريض حوالي / 300/ بثرة ، بينما هنا سجل حالات احتوت على اكثر من /3000/ بثرة تغطي كامل الجسم ، وأن هذا هو احد الاسباب التي ادت الى حدوث وفيات بالجرب. وتمنى لو أن هناك امكانية لحضور احد معاهد البحث الطبي المتطورة لمراقبة ومعاينة هذه الحالات الشاذة .
منذ خمسة أيام وفي الصباح كان أبو حسين مستغرقاً بالتفكير ، فجأة انتفض وذهب الى الدكتور غسان ، تحدث معه قليلاً والدكتور يهز برأسه ، بعدها جال أبو حسين في المهجع كله وهو يردد :
– شباب … كل شخص أتته زيارة مدعو للاجتماع عندي ، كل أربعة … خمسة يجوا سوا .
كان هناك حوالي ثلاثين شخصاً من مهجعنا قد أتتهم زيارات، ولمعرفة الاهل أن هذه الزيارة قد تكون استثنائية ويتيمة فانهم كانوا يحاولون تزويد سجينهم بما قد يحتاجه ولزمن مستقبلي طويل ، خاصة لجهة الألبسة والنقود، ولهذا فان أقل مبلغ أعطي لسجين كان مئتي ألف ليرة، ولذلك أصبح في مهجعنا ملايين الليرات ولا مجال لشراء أي شيء، وقد استمرت الزيارات حوالي الستة أشهر،” كان بعض الحفظة يُحْصُون ويحفظون عدد الزيارات لكي يعرفوا كم كيلو ذهب أصبح لدى مدير السجن، وفي الإحصاء الاخير بعد توقف الزيارات كان العدد قد وصل إلى ستمائة وخمسة وستين كيلو ذهباً”.
أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبي حسين.
– بدنا منكم يا شباب .. تبرعات في سبيل الله.
سكت الخمسة قليلا ، ثم قال أحدهم :
– يا أبا حسين … أرواحنا وأموالنا في سبيل الله، بس أشرح، قول أوّلاً شو بدك تعمل بالأموال ، المبلغ المطلوب … مو لازم نعرف ؟!.
– طبعا لازم تعرفوا … بدي اشتري طبيب … دكتور. نعم دكتور … بدي أشتري طبيب السجن [يونس العلي] ..! ما في غير هذا الطريق … وبسلامة فهمكم، بهذه الدولة، من فوق لتحت، كل واحد له سعر، وما بظن أن هذا الدكتور غير شكل.
وافقه الجميع وتتالت الاجتماعات وأصبح بحوزة أبي حسين مبلغٌ محترم، عندها طلب من الرقيب عندما فتح الباب مجيء الطبيب لأمر هام!.
كان الطبيب حانقا عندما فتح الباب ، وصاح بوجه أبي حسين :
– اذا كنت طالبني منشان الجرب … بدي كسّر عظامك يا كلب ، صار ألف مرة قلت لك ما عندنا دواء جرب.
– يا سيدي متل ما بتعرف نحن بالفترة الماضية اجتنا زيارات وصار في عندنا مصاري كتير … ومثل ما أنت شايف … نحن هون المصاري ما تلزمنا لأنه ممنوع نشتري أي شيء .
كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسين للطبيب ، وبدأ الطبيب بالتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذين كانوا يحيطون به وأمرهم بالابتعاد ، قال :
– ايه طيب … وأنا شو علاقتي؟!.
– يا سيدي … اخدمنا هالخدمة لوجه الله … انت رجل كلك انسانية ، وساعدتنا كثير لوجه الله … هذه المرة كمان ساعدنا… اشتري لنا الدواء على حسابنا… حتى لو كان من السوق السودا… وتحولت لهجة الطبيب فورا من الحنق والغضب الى اللين الثعلبي :
– لكن … انت تعرف أن هذا الدوا غالي كتير ؟
– معليش يا سيدي … مهما كان غالي الثمن ، بس يكون كافي لكل هـ الناس ، لأن الكل جربانين . – طيب … تعال لهون شوي .
أخرج الطبيب أبا حسين الى خارج المهجع ، تكلما بصوت خافت ، وتمت الصفقة .
بعد يومين أتى الدواء بالصناديق الكرتونية، ومنذ ثلاثة أيام وجميع الناس سواء كانوا مصابين أم لا، وأنا منهم، بدأوا العلاج بـ البنزوات ” بناء على تعليمات الدكتور غسان المشددة ، وتحت رقابته الصارمة ” .
خلال هذه الفترة القصيرة بدأت تظهر النتائج الايجابية .
تم إبلاغ المهاجع الأخرى ، والجميع أتم الصفقة مع الطبيب الذي أصبح مليونيرا، وعلق أحد الأشخاص : – اذا سألوا طبيب السجن شي مرة ، كيف صرت مليونير ، لازم يقول : الجرب حولني من شخص جربان الى مليونير.
23 تموز
منذ أكثر من سنة وخلال تنفس أحد المهاجع ، كان أحد الرقباء واقفا في ظل الحائط ، مرت فأرة من أمامه فهََرَسَها ببوطه العسكري، مُعِسَت الفأرة وماتت، أخرج الرقيب من جيبه منديلا ورقيا وأمسكها بواسطة المنديل من ذيلها ، اقترب من صفوف المساجين التي تدور حول الساحة، أمسك بأحد السجناء لا على التعيين وأجبره على ابتلاع الفأرة ، ابتلع السجين الفأرة .
منذ ذلك اليوم صرف الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم لاصطياد الفئران والصراصير والسحالي وإجبار السجناء على ابتلاعها، كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره ” إبداعه ” عائد لأول رقيب قام بهذا العمل.
نظرت عبر الثقب ، كانت ثماني جثث متدلية عن الحبال ، والعديد من الجثث على الأرض ، هذه الجثث الثماني يبدو انها آخر وجبة، الوحش “عنصر البلديات” يقف أمام الجثة الثانية من اليسار وهي جثة رجل بدين، يمسك الوحش بيده عصا غليظة ينهال بها ضربا على الجثة، الشرطة يراقبونه ضاحكين ، ومع كل ضربة عصا على الجثة يصرخ بصوت عال :
– عاش الرئيس المفدى .. بالروح بالدم نفديك يا رئيس … ” وضربة بالعصا على الجثة ” … ولك يا كلب بتشتغل ضد الرئيس .. وضربة بالعصا … لك يا … رئيسنا أحسن رئيس … ضربة بالعصا.. الرئيس قبل الله نعبده … ضربة بالعصا … ويختل الايقاع .. ضربات عديدة بالعصا “
أتساءل: هل انتهت ذخيرة الوحش الكلامية التي كان قد حفظها لكثرة تردادها في الراديو والتلفزيون وفي الشوارع اثناء المسيرات التي تنظمها الدولة ؟! يتوقف قليلا عن الضرب ، ثم ضربة قوية على الرأس أسمع من خلالها رنين العظام … ولك يا كلب … ولك الرئيس أقوى واحد بالدنيا … ضربة … يتوقف الوحش قليلا وهو يلهث، بعدها وبحركات هستيرية يضع احد طرفيّ العصا بين اليتي الجثة ويدفع بها الى الأمام ، تتحرك الجثة كلها الى الامام ، يستمر الوحش بالضغط ، الجثة دائمة التأرجح ، الشرطة يضحكون … يتقدم الرقيب وهو يقهقه ، يمسك الجثة من الأمام ويثبتها جيدا للوحش ، وفي لحظة يفلت رأس الجثة من الحبل “يبدو المشهد من بعيد وكأن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل” ، تسقط الجثة على وجهها أرضا ، تفلت العصا من يد الوحش وتظل مغروزة منتصبة بين اليتي الجثة ، يقفز الوحش عالياً ويصيح بشعار طالما سمعه يردد كثيرا في الراديو والتلفزيون: – يسقط الاستعمار … تسقط الامبريالية .
يرد عليه الرقيب الأعوج :
– تسقط … تسقط .. تسقط .
– يعيش الرئيس المفدى .
– يعيش … يعيش … يعيش .