Daily Archives: مارس 26, 2021

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الثالثة

أبناء النظام ضد النظام !

هؤلاء كن السجينات الأربع المتهمات بالإنتساب أو ألتعاون مع الإخوان ، وأما الخامسة منيرة كامل مصطفى فكانت من تصنيف اخر وحال مختلف : كانت البنت التي لم تجاوز الثامنة عشرة من عمرها واحدة من بنات القرى الساحلية العلويات ، شكل والدها وأخوتها وبعض أصدقائهم تنظيما ضد الدولة شيوعي التوجه وصاروا يصدرون منشورات تحض على كراهية النظام ، وكانت معتقلة مع أخيها أيضا الذي لم يكن يجاوز السادسة عشرة من عمره ، فاعتبروهما مجرد مراهقين يقومان بأعمال طائشة ، وقالوا بأنهم سيتركونها في السجن حتى يكتمل عقلها وينضج تفكيرها ، لكنهم كانوا متساهلين معها إلى أبعد الحدود ، فسمحوا لها بالزيارات ، وبإحضار جهاز راديو إلى زنزانتها ، وبزيارة أخيها في القسم الجنوبي من السجن ومقابلته ، وعندما عرف الشباب المعتقلون معه بذلك صارون يقسمون زياراتهم (أي الأغراض التي تأتي لهم في الزيارات المتاحة) ويرسلون قسما منها مع منيرة إلينا وكنا فى البدايه نشك بها جميعا ونحذر أن تكون متعاملة مع المخابرات ، لكنها كانت لطيفة جدا وطيبة القلب ، حتى أن الحاجة مديحة سالتها مرة بين المزاح والجد : – نحن لن نبين لك أي شيء ولن نتكلم أمامك عن وضعنا لأننا نخاف أن تذهبي إلى المقدم وتحكي له . . فأجابتها منيرة بطيب خاطر : تأكدي تماما أنني لست من هذا النوع ، ولو كنت لما وجدتني معكم هنا . وعلى الرغم من أنها ظلت متمسكة بشيوعيتها بعد العديد من المناقشات بينها وبين البنات ، إلا أنها كانت تحترم تديننا ، فكانت تخفض صوت الراديو إذا كنا في صلاتنا أو تلاوتنا وتراعي مثل هذه الأمور ، وعندما أضربنا في وقت لاحق شاركت معنا ووقفت إلى جانبنا حتى النهاية .


هافي طاقة !

هؤلاء كن صحبة المهجع الأوائل ولشهور عدة قبل أن يفد نزلاء جدد ويغادر البعض من بعد . . وأما المهجع نفسه وهو الثاني في التسلسل العددي لمهاجع القسم فكان عبارة عن غرفة متوسطة الحجم ثمة حمام على يسار الداخلين إليها فوقه دوش ولكن من غير باب ، ولحل ذلك مددنا حبلا استخرجناه من وسط إحدى “التنورات ” التي معنا وعلقنا عليه إحدى البطانيات القليلة التي أعطونا إياها كحاجز .

وكان الحمام يحتوي أيضا على سخان كهربائي خصوا به مهجع النساء فقط ، فلم تكن لمهاجع الشباب لاحمامات ولاسخانات ولا حتى صنابير ماء ! ولكن ذلك كان سببا لكي يخرج الشباب مرتين أو ثلاث إلى “الخط ” أو إلى الحمامات بعد كل موعد طعام ، وأما باب مهجعنا فلم يكن بابه يفتح غالب الأوقات ، ولم يكن له منفذ اخر غير فتحة تسمى نافذة اصطلاحا وهي في الحقيقة مجرد فراغ بين أعلى الجدار من الداخل قريبا من السقف وبوابة السجن الرئيسية من طرفه الآخر على مستوى الأرض فيها ، وبين الجهتين ثمه طبقات من القضبان الحديديه والشباك الخشن والناعم إلى درجة لاتسمح حتى بمرور الهواء نفسه وتحجب وصول أي شعاع ضوء ! ولذلك كنا في عز البرد نستغيث من الحرارة وانعدام الهواء النقي ، ونرجوهم أن يفتحوا لنا طاقة الباب أو أن يأتوا لنا بمروحة تحرك الأ نفاس الراكدة على أقل تقدير ، فكان السجان ياسين على الأخص يرفض أن يفتح لنا الطاقة لنتنفس ، فإذا رجته إحدانا ازداد تعنتا وجعل يكرر كالآلة على مسامعنا عبارة واحدة أثيرة لديه : – هافي – أي لا توجد – طاقة . فتقول له الحاجة : طيب أحضر لنا مروحة أو أي شيء يمكن أن يغير جو الغرفة فإنا نكاد نختنق .

فلا يجيب إلا بنفس الإجابة : – هافي طاقة . . هافي مروحة . . هافي باب ! وكان يوم عيد لنا يوم أن سمحوا لنا بعد ثمانية أشهر من الإعتقال بالتنفس خارج جدران المهجع مرة أو مرتين في الأسبوع . . فيما لم يجيبوا طلبنا الثاني بشأن المروحة إلا بعد انقضاء أكثر من سنتين على الإعتقال . . وامتلاء المهجع بالنزيلات حتى غص بهن ، وكدن من فرط المعاناة وشدة الإزدحام أن يقضين نحبهن !


الهمس ممنوع . . والزمن معدوم . . والشكوى مذلة !

كانت الأيام تمر بطيئة ورتيبة . . وبدأنا لذلك نعتاد أن ننسى الوقت ونغفل عن جريان الزمن ! كنا لا نستطيع التفريق بين الليل والنهار ونصلي على التقدير . . ونحسب الأيام بتبدل دفعات السجانين وبتباعد تاريخ اعتقال كل واحدة منا ، وأما ضوء المهجع الذي كان يشعل ويطفؤ من الخارج فكان يزيد تعميق الشعور لدينا بتساوي الليل والنهار . . وبالطبع فلم تكن النافذة لتسمع عمقهما وتعدد طبقات القضبان والشبك فيها بالاشارة إلى أي تبدل في المواقيت أو الزمان ، علاوة على الظلمة التي تسود بطبيعة الحال في فصل الشتاء .

وزيادة في إشاعة القلق الدائم والتوتر فينا لم يكن مسموح لنا بالكلام إلا همسا ، ومجرد أن يسمع أحد العناصر صوت واحدة منا كان يخبط الباب بالكابل خبطة مرعبة وهو يصيح بنا أن نخرس أو أن نخفض الصوت ! وعلاوة على ذلك كانوا إذا أرادوا مناداتنا لأمر ما خاطبونا باسم رجل لا بأسمائنا . . فكنت على سبيل المثال أنادى غالب الأحيان باسم محمد إ! ويبدو أن أمي قررت بعد أسبوعين تقريبا من اجتماعنا في المهجع أن تكسر هذا الجو المرعب بطريقتها وتخترق أسوار الارهاب . . فطرقت الباب بلطف في البداية وسألت حسين أن يحضر لنا مصحفا فقال لها باستغراب : -وهل تظنين أنك في بيتك أو في قصر لتطلبي على كيفك ! ألا تعلمين أن المصحف ممنوع هنا؟ فسألته وهي لا تزال محافظة على هدوئها : لماذا ؟ قال بشراسة : لأنه لا توجد مصاحف هنا في الفرع . فقالت له : رأيتهم بعيني مكدسين في غرفة التحقيق وأصحابهم جالسين في المنفردات .

وكانت تتحدث عن الشباب الذين أحضروهم يوم اعتقالنا الأول من المسجد دفعة واحدة ووجدوا معهم مصاحف حفاظ صغيرة فصادروها . . فأجابها بصلف : -لكن تلك المصاحف للحرق لا للقراءة ! فعادت ترجوه بلطف وتقول له : أعطنا واحدا منهم فقط ولن يراك أحد أو يحاسبك . . وحتى لو كان صغيرا فليست مشكلة . . فقال لها ممنوع وأغلق الطاقة . فعادت ودقت وكررت عليه الرجاء فأجابها نفس الجواب وصفق الطاقة بوجهها من جديد .

فعادت ودقت بقوة فحضر عنصر أخر علوي اسمه ابراهيم فسألته نفس الطلب ، وكانت أجابته كما أجاب من قبله : ممنوع . . المصحف هنا ممنوع . . . فقالت له إذا أعطني ورقة لأقدم طلبا إلى رئيس الفرع . فقال لها:لا يوجد لدي ورق .. وبعد مماطلات ومشادات كل ومل وأعطاها ورقة قدمت عليها طلبا للمقدم ،فأرسل ذاك وراءها وبهدلها وقال لها: لاتوجد مصاحف هنا.

وأضاف: لماذا تريدينها لتقرأى وتدعى علينا فلما عادت وأخبرتنا بذلك قررنا الإضراب عن الطعام . . وامتنعنا عن استلام وجبتي الإفطار والغداء . .فهددونا إن لم نفك الإضراب بالعودة إلى المنفردات ، وقطعوا الماء عن المهجع زيادة في الضغط ، وكانت أول تجربة لنا فتوقفنا عن المطالبة وما عدنا تكلمنا بشيء وفي اليوم الثاني عادت أمي فطلبت ورقة وقلما لتقدم طلبا اخر للمقدم فحضر أبو عصام مدير السجن وسألها ماذا تريدين فقالت اننا نعاني ضيق الخلق ونريد أن نتسلى بالمصحف فقال لها ولماذا لا تتسلي بأشياء ثانية . قالت : مثل ماذا ؟ قال :كما يتسلى الشباب . . بشغل العجين قالت له : طيب علمنا .

فقال لها:سأذهب فأسألهم لك وأعود بالجواب وبالفعل لم تمض حوالي الساعة حتى عاد أبو عصام ومعه مصحف قديم جدا لا أدري من أين أتى به ولكنه جيد وكبير فقسمناه من فورنا أجزاء أجزاء،وكانت لدينا كرتونة لا أدري من أين أيضا فغلفنا الأجزاء بها ورقمناهم وصرنا نتلو ونحفظ منهم ، وعاد عنصر بأمر من أبي عصام إلينا فعلمنا كيف يشتغل الشباب بالعجين .


اوراد وأذكار وتسالى

كان الشباب السجناء ياكلون من الخبز وجهها الناضج وحسب ويجمعون العجين من قلبه فيعجنونه مره ثانيه اذا تكدست كميه كافيه منه ويخمرونه بلعابهم ثم يعيدون عجنه حتى يصبح متماسك القوام فيصنعون به اشكالا وتماثيل مختلفه ومسابيح جميله جدا حتى ان رئيس الفرع احتفظ بطائره من صنع الشباب فى مكتبه ظننتها اول ما رايتها هناك مصنوعه من الفضه وكان العناصر يحضرون للشباب الوانا يستخدمونها ايضا فى تجميل انتاجهم لياخذوه منهم آخر الامر بالتاكيد وهكذا دخل حياتنا الرتيبه عنصر جديد وبدانا بصنع المسابيح اول الامر فكنا نمضى ساعات نعرك فيها العجين ونخمره ونكوره ثم انتقلنا بعدها الى صنع الاطواق وعلاقات المفاتيح والاشغال البسيطه وعندما تطورت خبرتنا ادخلنا التلوين بطريقتنا الخاصه فصرنا نطلب من بعض العناصر ان يعطونا طحل القهوه او بقايا لنلون به ثم لما سمحوا لنا بالادويه فى الفتره الاخيره استخدمنا بعضها بعد اذابته اوسحقه كعنصر تلوين وكانت المفاجاه بحق حينما وجدنا الحاجه مديحه د تمكنت من تهريب اسياخ لشغل الصوف حينما حضرت من سجن المسلميه وكانت واحده اخرى من البنات قد احضرت قطعه ملابس صوفيه قديمه معها فكررنا وجعلنا نتسلى بشغل الصوف ايضا وبدانا فى فتره لاحقه بجمع نوى الزيتون اذا حصلنا عليه وحفها وصنع مسابيح منها لكن احد العناصر عندما اكتشف اننا نحفها على جدار المهجع لخشونته نهانا عن ذلك خشيه ان تكون اشارات نكتبها لاحد فصرنا نجمعها وناخذها معنا فنحفها على ارض الساحه وقت التنفس وصارت امى تبتكراشياء جديده بسيطه ومسليه لنا وتعلمنا من الالعاب مالم نكن نعلم فعلمتنا مثلا لعبه الكاس وكان لدينا واحده من البلاستك فكنا نتحلق حولها ونديرها الى ان تتوقف عند احدى البنات فكان عليها ان تجيب على اى سؤال يوجه اليها بسرعه وصراحه وكنا نجتمع على هذه الالعاب ونستمتع بها لا يشذ عنا إلا الحاجة مديحة التي كانت تسخر منا ولا ترتاح كأنما لاتفاقنا . . وترانا دائما أقل منها سنا ومنزلة وخبرة وتحسنا وكأننا ضد طباعها في كل شيء ! وبرغم المعاناة والتوتر استطعنا أن ننظم أوقاتا لتلاوة القرآن الكريم وحفظه وتلاوة الأوراد والمأثورات والتهجد . . حتى صارت البنات يتبارزن من تستطيع أن تصلي أكبر قدر من القران في تهجدها . . فإذا قدرنا دخول وقت الفجر صلينا وجلسنا إلى المأثورأت – والضوء مطفؤ بالطبع لنبدأ بعدها بقراءة ياسين أربعين مرة وحزبا من القرأن على نية الفرج وتيسير الأمور ، ونكرر الشيء نفسه في المساء . وكنت أبقى مع ماجدة بعد انتهاء ورد الصباح نراجع حفظنا من القران حتى ننعس فننام أو نكمل اليوم بلا نوم . وكانت والدتي تظل صاحية بعد الفجر حتى يدخل وقت الضحى فتصليها وتنام بعدها برهة من زمن .


أحاديث عبر الجدار !

وخارج جدران مهجعنا كان لأكثرنا تسلية وتسرية من نوع اخر ، فكنا نترقب وقت خروج الشباب بعد الإفطارإلى الخط فيقبل بعضنا إلى شق في طاقة بابنا تراقب ما يجري وتترقب بعضهن أن ترى أخا لها أو قريبا بينهم . . ولم تكن هذه هي الصلة الوحيدة بيننا وبين الشباب ، فلقد اكتشفت البنات قبلنا وجود فراغ بسيط حول انبوب التدفئة بين مهجعنا والمهجع المجاور فطلبن من العناصر خرطوما بحجة استعماله في الحمام فأحضروه لهم ، فمددوه عبر الفراغ وصرن يحادثن الشباب عبره أو يمررن لهم الماء من خلاله لأن المهاجع الأخرى باستثنائنا لم تكن فيها حمامات أو صنابير مياه كما قلت ، ولم يكونوا يسمحون لأحد بطلب ماء أو الذهاب للحمام إلا في المواعيد . .

ولقد حدث بعدها أن واحدة من السجينات الجدد متهمة بالتعامل مع العراق اسمها أم كامل فسدت علينا ، فقام العناصر بسد الفتحة بالإسمنت ، فلجأنا إلى التخاطب عبر الأ نبوب المعدني نفسه بالطرق عليه كإشارة أولى ، وكانت الحاجة تتولى الحديث بعدها أغلب الأحيان لأن مكانها كان مجاورا للأنبوب ، فكانت تنتظر هدوء الأحوال ونوم الحرس لتقرع على الأ نبوب وتحادث الشباب بصياح مكتوم تخفيه قدر ما تريد أن تبديه خشية أن يسمعها أحد من العناصر ! وكانوا في تلك الفترة يتعمدون معاملة الشباب أسوأ ما يمكن ، وينقلون دفعات منهم إلى تدمر كل يوم ، وكان الشخص الموكل بذلك وينادونه أبا طلال يأتي قبل صلاة الصبح فيقرع باب المهجع الذي فيه المطلوبون بكلبشات يحملها بيديه ثم يبدأ بتلاوة أسمائهم واحدا بعد الاخر ، وبعد أن ينتهي من سرد القائمة التي كانت تبالغ عشرين أو ثلاثين اسما كل يوم يصطف الشباب المساكين في الظلام فيكلبش كل اثنين منهم من أيديهما وأرجلهما معا . . فمنهم من يتجلد فيمضي ،ومنهم من يصيح ويستغيث ، ومنهم من يغمى عليه وقد أحس بدنو منيته ، فيشحطون هؤلاء على أرض السجن إلى سيارة بانتظارهم كالذبائح تماما تقاد إلى المسلخ . . وربما استفرغ بعضم أو فعلها تحته من هول الخبر ، فلا نستطيع ونحن نسمع هذه المأساة كل فجر يوم إلا البكاء والدعاء . . وكانوا كلما نقلوا دفعة إلى تدمرأتوا بثلاث أو أربع دفعات جديدة من المعتقلين مكانها ! فكانت الزنزانات والمهاجع محشورة أيامها بالشباب حشرا ، حتى لجأوا إلى استخدام الحمامات كزنازين في بعض الأحيان !


لوعة الام. . ومأساه الولد !

ولقد كان من عجائب مشاهدات السجن وقتذاك أن والدتي أخبرتني يوم لقائنا الأول في المهجع بأن أخي وارف سيغادر سورية حسب معلوماتها إلى لبنان ، وسيخرج من هناك إلى بلد اخر ولن يعود ، ويبدو أنه أخبرها بذلك حتى لا تقلق عليه وحسب ، وحقيقة الأمر أنه كان لا يزال في سورية . . ففي يوم من الأيام صلت أمي التهجد ثم الفجر ، وانتظرت فصلت الضحى ثم اتكأت لتنام على عادتها ، فما وجدتها إلا وقد انتفضت فجأة من نومها تقول لي :- سمعت صوت مشي أخيك وارف في السجن ! وكان السجن وقتها في غاية الهدوء ، فالشباب عادوا من الخط . . والعناصر نائمة على الأغلب . . فلا تسمع أي حس . . فقلت لها : – ما هذا الكلام ؟ لا يوجد أي صوت . . وتقدمت من شق الطاقة لأتأكد فوجدتهم يقودون أخي وارف بالفعل من طرف سترته البنية التي أعرفها وقد طمشوا له عينيه وكبلوا يديه للوراء . . ورأيت حذاءه الرياضي الأبيض وحسين يسوقه ويقول له : – هيا إلى المنفردة . لكنني قلت لأمي وكأنني أحدثها من عالم آخر : لا أحد هناك . غير أن قلبي كان كأنما هبت النار فيه . . وغمرتني رغبة في البكاء وحاجة لإخبار أحد ، لكنني لم أستطع فعل أي شيء أمام أمي . . وبعد فترة وعندما أضربنا إضرابنا الثاني وأخرجونا إلى المنفردات فعلا عقوبة لنا تصادف أن وضعوا أمي وأم شيماء في زنزانة واحدة معا ، لى اذ بها نفس الزنزانة التي كان وارف معتقلا فيها ، في تلك اللحظات كانت أمي تتصنع وأم شيماء البكاء لترققا قلوب السجانين علينا ،لكنهما كانتا لا تكادان تتمالكان نفسيهما من الضحك . . فأخذتا منشفة ووضعتاها بين أسنانهما لإخفاء الضحكات ، والتفتت أمي كأنها تريد أن تدق الباب على السجان فرأت على الجدار رسم مسجد محفور وقد كتب تحته بنفس الطريقة : لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد . . الشهيد محمد وارف دباغ . فانقلب البكاء الذي كانت أمي تتصنعه حقيقيا ، وصارت تنادي عليهم تريد أن تعرف أين ولدها ومتى اعتقال . . لكن أحدا لم يجبها . . وظلت تعذبها الظنون وتقتلها الحيرة ولا من مجيب . . وتبين لي فيما بعد أنهم اعتقلوا وارف وغسان أول مرة في حماة وأفرجوا عنهما بعد أيام دون أن يثبت شيء على أي منهما ، ثم كان اعتقال وارف الثاني واحضاره إلى كفر سوسة والإفراج عنه من غير أن يدان بشيء أيضا ، وعندما استشهد بعد مدة استدعى المقدم ماجدة وقال لها ضمن ما قال :- أمسكناه في المرة الأولى لما ظننا أنه مجرم ، فلما تبين لنا أنه بريء أخرجناه . . وفي المرة الثانية ظنناه بريئا فأطلقناه أيضا ولكنه طلع مجرما غرر به أخوه فنال جزاءه بعد ذلك . . وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين !


نصف بلاطة للنوم !

وتستمر معاناة السجن وتزداد . . ووجدتني بعد فترة في المهجع قد ابتليت بالام شديدة في ظهري حتى لم أعد أستطيع رفعه ، وترافق ذلك مع حالة تقيؤ مستمر واسهال . . حتى كدت أموت يومها بالفعل ! كان نومي وقتها بجانب أنبوب السخان المركزي الذي كان عاطلا عن العمل بالطبع فلا نتلقى منه إلا برودته ورطوبة الماء المتكثف عليه ، ولم يكن لي خيار في المكان لأ ننا كنا لازدحام المهجع لا يكاد يجاوز نصيب الواحدة منا وقت النوم أكثر من نصف بلاطة وحسب ، ولو أرادت إحدانا أن تتقلب لاستدعى ذلك تحريك المهجع بأكمله لم أحس بالبرودة في البداية ، لكنني وجدتني فجأة لا أقدر على تحريك ظهري مع الأعراض المؤلمة الأخرى التي ذكرت . . فقامت البنات يطرقن الباب جميعا ويسألن العناصر أن يحضروا طبيبا لعلاجي لكنهم لم يجيبوا ، فطلبت الدكتورة عائشة منهم طستا من البلاستيك أحضروه لها بعد إلحاح وطول رجاء ، فجعلت تعمل لي مغاطس ماء ساخن متتالية خفت عليها الأوجاع بحمد الله بعد يومين .


إضراب جديد

ومرت الأيام ، وفي كل يوم كانت لنا قصة جديدة وتجربة وعبرة . . وكانت أمي لا تفوت فرصة تحقق لنا فيها بعض السلوى أو تؤرق فيها السجانين والعناصر إلا واغتنمتها ، وباتت سياسة واضحة عندها أن تبتكر مطاليب لنا أو باسمنا تحقق منها إحدى الغايتين أو كلاهما . . وذات يوم وبعدما رأيناهم سمحوا لمنيرة بتقديم امتحان الثانوية خطر على بال بعض البنات المطالبة بالمثل ، فكتبن إلى رئيس الفرع يسألنه السماح لنا بالكتب الجامعية التي ندرس بها وبتوفير جو ملائم للدراسة . . وبالطبع قوبل الطلب بالرفض والسخرية والتقريع ، فاقترحت أم شيماء أن نضرب عن الطعام حتى يستجيبوا ، وسرعان ما شجعتها أمي وأيدت أكثريتنا الفكرة ، فلما أتوا بطعام العشاء رفضنا استلامه .

سألونا : – لما ذ ا ؟ قلنا : مضربين . -السبب ؟ أجبنا : نريد أن نقدم امتحاناتنا أيضا . رد العنصر ابراهيم : إذا لم تأخذوا العشاء فسنأخذكم إلى المنفردات . فأجابته أمي : سيكون أحسن . . ستتنفس كل واحدة لوحدها على الأقل ! أغلق ابراهيم الباب بلؤم وذهب ليعود بعد قليل بضحكة صفراء يقول : – المعلم – أي رئيس الفرع يريدكم أن تتجهزوا لننقلكم إلى المنفردات بعد نصف ساعة .

وبالفعل لم تمض الفترة التي تحدث عنها حتى حضر وأخذ كل اثنتين منا إلى زنزانة من المنفردات ، فوضع أمي وأم شيماء في واحدة ، وماجدة وعائشة في أخرى ، ووضعني وفوزية حجازي في الثالثة ، وأما الحاجة مديحة فسألها ساخرا : – وماذا عنك أنت ؟ ألن تقدمي الثانوية أيضا ؟ فأجابته : أبوي . . أنا لا أعرف القراءة ولا الكتابة ! فتركها في المهجع . . وبقينا بضع ساعات شاهدت أمي خلالها اسم أخي وارف على الجدار فازدادت ثورتها وعلا صياحها . . ولم يلبثوا أن أعادونا إلى المهجع اخر الليل ، ولم يستجيبوا لطلبنا بالطبع ، لكننا كنا سعداء بهذا الأثر الذي تركناه والحركة التي أحدثناها رغم كل الضغوط والترهيب .


رصاص بعد منتصف الليل !

وفي يوم من الأيام وبعدما انتهى العشاء وهجع أكثر السجناء والسجانين مزق السكون عن غير سابق إنذار صوت الرصاص يلعلع على مقربة من السجن وكأنه فوق رؤوسنا . . واستنفر الفرع كله وهرع العناصر فأغلقوا الطاقات كلها وأطفؤوا الأ نوار ، وصاحوا بالمساجين وصوتهم يكاد لا يسمع مع أصوات خرطشة الأسلحة وأزيز الرصاص : – ولا حركة ! لم نفهم ما الذي يجري بالتحديد هل كان اشتباكا أم هجوما على الفرع ، لكن الرصاص كان يصل إلينا فيصيب حتى جدار المهجع من الخارج ولم يكن بينه وبين الشارع إلا فسحة صغيرة يليها السور فنحس وكأنما اخترقه . . حتى أن أمي نهضت فتوضأت وصلت صلاة الشهادة ثم احتمت وإيانا بالجدار خشية أن تبلغنا الطلقات ! وبلغنا فجأة من بين الأصوات المختلطة صرخة كالزعيق تبعها صياح العناصر المضطرب ينادي : فلان قتل . . تعالوا . . فقدرنا أنه أحد عناصر الحماية على الباب . . وبعد حوالي الساعة من بدء الإشتباك هدأت الأمور بالتدريج كما بدأت ، وحاولت الحاجة الإستعلام عما حدث من ابراهيم الذي كانت نوبته وقتها فنهرها وحذرها من إعادة السؤال ، وعدنا إلى ما كنا عليه لأيام قليلة أخر دون أن نعرف حقيقة ما جرى بالتحديد . .


إفراج . . ولكن إلى تدمر !

وذات يوم . . وبينما كانت الحاجة تحادث الشباب في الزنزانة المجاورة عبر الأنبوب أتاها من وراء الجدار صوت سائل منهم يسأل إن كان بيننا حمويات .

فقالت له نعم . . فقال لها : – يا خالتي نحن من حماة أيضا وسنخرج غدا إفراج ، فلو كانت لدى أي من الحمويات رسالة لأهاليهن اكتبوها وضعوها في شق الطاقة ونحن سنسحبها بإذن الله أثناء خروجنا إلى الخط بطريقة لا تشعر العناصر ونوصلها لهم .

والذي تبين بعدها أن هؤلاء الشباب المساكين وعدوا بالخروج في اليوم التالي بالفعل ولكن الخروج كان في الحقيقة إلى تدمر ! وفوجئنا عند الصباح بالمحقق يرسل وراء أمي بلا مقدمات أو سبب . . فتعود والدموع ملء عينيها تحدق في وتبكي . . فتملكني القلق والخوف عليها وهجمت أحضنها وأسألها ماذا حدث . . فقالت : – أخبرني أنهم سينقلونني إلى فرع اخر اليوم ولكنني أظنه كاذبا . . وأحس أنهم سيطلقونني اليوم .

وقصت علينا أن المحقق لما استدعاها ابتدرها يقول لها : – جهزي نفسك وأحضري أغراضك بسرعة . فسألته : وابنتي ؟ قال : ستبقى رهينة عن أخيها صفوان ولن تخرج حتى يسلم نفسه . . أو فاعتبري أنك لم تلدي هذه البنت وانسيها ! وجعلت أمي وهي تقص علينا ذلك تخلع ملابسها عنها وتعطينا إياها قطعة بعد قطعة ، وما أبقت إلا ما يسترها وحسب لعلمها أنه ليس لدينا ما يكفينا . . وسألتنا إن كان أي منا يريد إرسال رسالة أو توصيل خبر عنه ، فسارعت ماجدة وأخذت قلما من منيرة وكتبت رسالة لأهلها على ورق المحارم دستها أمي في كم سترتها ، وأخذت تعانقنا وتقبلنا وتدعو لنا وندعو لها وخرجت . . ولم تكد تبلغ الباب عند السلم وهي تستحلف العنصر أن يخبرها بموعد خروجنا لى اجابته الساخرة ورجاؤها المتكرر يبلغ مسامعنا فيزيدنا ألما وحسرة حتى انفلتت من بين يديه وقفلت راجعة ، ففتحت طاقة الباب وسألت بسرعة تقول : – نسيت هؤلاء الشباب جيراننا من بيت من كانوا ؟ ولم نكد نخبرها حتى كان حسين قد وصل إليها فأمسكها من ياقة جلبابها وجذبها مغلظا لها في الكلام . . وهي ترد عليه الكلمة بأخرى والعبارة بأشد منها حتى خرجت . . وكانت اخر مرة أراها فيها رحمها الله .

وأما رسالة ماجدة فعلمنا بعدها أن أمي توجهت أولا إلى بيتنا في دمشق الذي اعتقلنا فيه وقصت أخبارنا على البنات اللاتي كن معنا فسألنها أن يرين الرسالة ، لكنهن اجتهدن أن ينقلنها على ورقة عادية خشية أن تتمزق المحرمة ، فلما ذهبت أمي بها إلى أهل ماجدة لم يصدقوها لأنهم رأوا الخط مختلفا . . وظنوا وقد فقدوا الأمل بابنتهم أنها إنما تسري عنهم وحسب ، وظلوا في شكهم حتى فتحت الزيارات في سجن قطنا بعد سنين فرأتهم هناك ورأوها بعد طول فراق .


معززات مكرمات !

وتم الإفراج عن أمي في السادس عشر من شباط . . وتأكد لنا الخبر حينما استدعى المقدم ماجدة بعد أسبوع تقريبا لأنها قدمت طلبا له تسأل فيه حلا للوضع ، فقال لها بكل صلافة واستعلاء : – انظري . . لا توجد أحسن من جلستكن هذه أبدا . . أنتن هنا معززات مكرمات . . ومثل هذا الفرع لن تجدوا ! وأضاف يقول : هذه أم هبة أخرجناها فجلست هنا على الباب فترة طويلة تبكي ولا تعرف كيف تتصرف حتى أعطيتها أجرة الطريق من جيبي أنا . . وبالتأكيد كان ناصيف يكذب لأن أمي ظلت جالسة عند الباب ترفض التحرك قبل أن تعرف مصيرنا وتأمل أن تسمع قبل ذهابها ولو إشارة بقرب الإفراج عنا وإلى أين ستتجه الأمور ، لكن الإفراج لم يتم . . وسارت الأمور من سيء إلى أسوأ ، فلم تلبث أن انضمت دفعة جديدة من المعتقلات إلينا . . لتنفتح علينا قصص أخرى من الماسي والآلام . . ونبدأ فصلا جديدا من الكرب والمعاناة .


مزيد من الضيو ف . . مزيد من المآسي !

لم تكن يومان أو ثلاثة من الإفراج عن أمي قد انقضت حينما قرع علينا أبو عادل مدير السجن باب المهجع ضحى ذلك اليوم ودفع إلينا بسيدة تضع منديلا أسود انقلب لونه من الأعلى إلى الصفار الباهت . . وترتدي بالطو من الجوخ الأسود أيضا وتحمل في يدها بقجة جمعت فيها حاجياتها كما يفعل الشحاذون تماما ! أطلت ثم ارتدت للوراء لبرهة كانت كافية أن نلمح هيأتها الرثة وبقايا جدري أصابها منذ الطفولة فترك مع أصابع الزمن ندبا على وجهها المرهق . . فتبادر إلى أذهاننا أنها متسولة ألقوا القبض عليها وأحضروها لتشاركنا المكان ! فحوقلنا وقلنا لأ نفسنا ونحن بين النفور والإشفاق : وهل ينقصنا عذاب من هذا النوع مع كل الذي نلقاه . . روائح ومناظر الشحاذين ! لكن الباب فتح على اخره مرة ثانية واندفع أبو عادل يصيح بنا : -هيا . . انهضوا واستقبلوهن . . ودخلت السيدة نفسها تتبعها أخريات لا يختلفن في الهيئة الرثة عنها كثيرا : فهذه كالخادمة . . والأ خرى أشبه بالمتسولات . . وتلك تلبس مانطو ممزقا . . ورابعة ترتدي تنورة أطول منها وقد عقدت إيشاربها على رأسها أوثق ما تستطيع ، وعليها كنزة ضيقة تلتصق على جسدها وقد عفا عليها الزمن ، وفقدت أزرارها من الخلف فبقيت مفتوحة بعض الشيء . . ولم نكد نستوعب النظر إلى النساء الست القادمات حتى اندفعت أولاهن نحو الحاجة مديحة تعانقها وهي تصيح : – أبوي . . أنت هون ؟ وانفجرت السيدة في البكاء ، وبادرتها الحاجة بالدموع تقول : – حاجة رياض . . الحمد لله على سلامتك . أخيرا . . أخيرا وجدت ونيسا لي في هذا المكان .

وبحركة غير متكلفة دفعت الحاجة مديحة البنت التي كانت تجاورها في المجلس وأفسحت لصديقتها الحاجة رياض المكان فأجلستها فيه وما عادت تحركت عنه أبدا ! وتحركت بقية القادمات الجدد نحونا بتوجس طبيعي بادئ الأمر . . ثم لم تلبث النفوس أن استراحت . . وانفتحت جعب الحكايات . . وغص المهج بالعدد الذي زاد عن سعته . . لتزداد المعاناة وتتوالى أيام العذاب .


باب الحديد !

كانت القادمات من سجن المسلمية بحلب خمس هذه المرة : الحاجة رياض د. ولمى ع. ورغداء خ. ومنتهى ج. وإيمان ق. وكانت مهزلة إحضارهن إلى كفر سوسة لا تقل ألما عن مأساة اعتقالهن وتعذيبهن . . فلقد أركبوهن السيارة من سجن المسلمية بحلب وقد كبلوا كل اثنتين منهما معا والخبر يقول إنه إفراج ، وكان قد سبق بالفعل إطلاق سراح حوالي 16 سيدة أخرى كن معهن ، لكن السائق اتجه بهؤلاء الخمس على الطريق الموصل إلى دمشق ، فلما عبرت السيارة الكرة الأرضية مغادرة حلب لاحظت الحاجة رياض ذلك رغم أن الوقت كان مساء فقالت للسائق ببراءة : -أنا بيتي عند باب الحديد خيو . . يمكن ضيعت الطريق ! فأجابها بلؤم وسخرية : لا . . طولي بالك . . ما وصلنا باب الحديد بعد . . أريد أن أعمل لكم دورة حول حلب وأوصلكم بعدها كلكم إلى باب الحديد ! فلما فهمت الحاجة المقصود أغمي عليها . . واصفر وجه لمى وقد ظنت أنهم سيأخذوهن الان إلى غرفة الإعدام . . وجعل العناصر يسخرون منهن طوال الطريق ويزيدون قلقهن قلقا ورعبهن رعبا . . فلما وصلن إلينا كن في غاية التوتر والإجهاد . . لكن دقائق تالية مرت كانت كافية لتغير الحال . . ولتفتح كل منها جعبتها وتروي قصتها في رحلة الآلام .


تحويشة العمر !

كانت الحاجة رياض من النساء الطيبات البسيطات ، خرجت من المدرسة في الصف السادس ولم تكمل تعليمها ، ولم تتزوج رغم بلوغها الأربعينات ، لكنها – كالحاجة مديحة – من أسرة متدينة وأخت لأشقاء ملتزمين كانت لديهم منجرة في حلب ففتحوا فيها مخبأ للملاحقين قبل أن تنكشف فيعتقل واحد منهم ويهرب الآخر إلى عمان ، وفي مرة كانت الحاجة رياض ذاهبة إلى هناك لتزور أخاها في عمان قدمت لها إحدى السيدات بعض المال لتوزعه على أبناء الشباب الذين أعدموا ولا يكادون يجدون في هذا الظرف الصعب معينا أو مصدرا للكسب ، وبالفعل أخذت رياض المبلغ ووزعته كجزء من واجب أحسته نحو هؤلاء المساكين ، لكن اعترافا أتى عليها لا تدري من أين فاعتقلوها وجعلوا يعذبونها أشد العذاب ، وبعدما فتشوا بيتها ولم يجدوا شيئا جعلوا يهددونها لتخرج النقود التي أحضرتها من عمان ، لكنها كانت قد وزعت المبلغ كله ، فزادوا عليها التعذيب حتى اضطرت أن تخبرهم عن مبلغ من المال كانت قد جمعته على مدار حياتها وخبأته للطوارئ تحت أحد الكراسي ، فأعطتهم إياه مرغمة لتنجو بنفسها ، وكانت كلما تذكرت ذلك بعدها تبكي وتقول للحاجة مديحة بحسرة : – أخذوا تعبي وعرق جبيني يا حاجة وعملوهم من الإخوان . . إي ولي على الإخوان وساعتهم ! وكانت تنشد أحيانا بين الحسرة والطرافة تقول : – إلهي قد غدوت هنا سجينا . . لأني وزعت مصرات الإخوان المسلمين ا إ! وروت الحاجة رياض عن تعذيبها الأهوال بحق ، فلقد تمت تعريتها مثل أكثر المعتقلات بحلب ، وجعل عمر حميدة يسحبها من شعرها على الأرض فيرتطم رأسها بالأرض والجدار ، مما تسبب في كسر عظمة أنفها . . وأصابها بعسر دائم في التنفس ، فكانت المسكينة بعد ذلك دائمة التشخير . . وزاد حميدة على ذلك العذاب الوحشي فسلط على وجهها خرطوم ماء شديد لتصحو من الإغماء فخرق لها طبلة أذنها ، وكان من المضحكات المبكيات أنها اعتادت بعد ذلك أن تنام على أذنها السليمة فلا تعود تسمع شخيرها الذي كان يؤرق نوم المهجع كله ، فنضطر إلى إيقاظها آخر الأمر لتعدل من وضعيتها وتساعدنا على اقتناص ساعة نوم هنيئ ! وقام الجلادون أيضا بقلع أظافرها التي لم تنم حتى بعد وصولها إلى كفر سوسة ، وظل مكانها مزرقا لفترة طويلة بعدها ، وكان حميدة – كما روت يجلسها في ركن الغرفة ويناديها : -تعالي يا بقرة . . تعالي .

وهو يومىء لها برأسه لتأتي ، فتفهم المسكينة الإشارة ولا تسمع الكلام وتجيبه . . فيضج والعناصر والمحققون عليها بالضحك وهو يقول : -والله بتعرفي اسمك يا بقرة !


أربعمائة ليره بثماني سنوات !

أما منتهى ج . والتي لم تكن جاوزت وقتذاك السادسة عشرة من عمرها فكانت زوجة أحد الذين أعدمتهم السلطة عام 1979 بتهمة الإنضمام إلى تنظيم مسلح معارض للنظام ، وكانت منتهى قد تزوجت عن غير رضا والدها ، فلما أعدم الزوج وهي حامل رفض أهلها استقبالها في بيتهم ، وأمضت عدتها عند بيت إحماها ووالدها يقول على الملأ “عيني لا تشوفها . . هذا جزاؤها لأنها لم تسمع كلمتي أ ا ! وعاشت المسكينة بعدها على الصدقات ، وكانت من ثم إحدى من أوصلت الحاجة رياض لهن مالا من تبرع السيدة في عمان ، فلما اعتقلت رياض أخذوها في الليل لتدلهم على بيتها فلم تستطع الرفض بعد العذاب الشديد الذي ذاقته ، ولما اقتحموا على منتهى البيت خرجت وابنتها الرضيعة على يدها ، فانتزعوا الطفلة من بين أيديها ودفعو بها إلى الأهل واقتادوا منتهى إلى فرع المخابرات .

ومن سوء حظها أن اعترافا آخر أتى عليها في الوقت نفسه بأنها تلقت رسالة من مصطفى قصار عرض عليهما الزواج فيها ، فنالت كالأخريات أشد العذاب ، فعروها وعلقوها بالسقف وتناوبت عليها كل وسائل التعذيب . . وقالت لهم ببساطة أنها لا تنكر تلقي الرسالة لكنها أجابته من حينها بالرفض ، ولم تنكر تسلم المساعدة المالية التي لم تجاوز الأربعمائة ليرة . . لكنها أوضحت أنها كانت هدية نقوط لابنتها وهذا حق البنت ولا علاقة له بالأم أو بأي أحد اخر . . ولم يشفع ذلك لمنتهى فأرسلوها بعد التحقيق والعذاب المهين إلى سجن المسلمية ، ومن هناك إلى كفر سوسة .

ومع الحاجة رياض ومنتهى حضرت فتاة حلبية أخرى اسمها إيمان ق . وكانت في صفها الثامن أو التاسع ، ولم توجه إليها أية تهمة سوى نقل الرسالة من أخيها مصطفى إلى منتهى بطلب الزواج ، ولذلك لم يشددوا عليها في التحقيق ولا في التعذيب واعتبروا عملها نوعا من الطياشة والجهل ، ونجت بذلك ولله الحمد من التعرية والإساءات . . وقد تم الإفراج عنهاعام 84 مع أم شيماء . وأما رابعة القادمات رغداء خ .

فقد اعتقلت مع الخامسة لمى في بيروت عندما ذهبتا هناك على أساس أن تلتقيا بأحد الشباب الذي وعدهما بضمهما إلى التنظيم ، لكن الشاب كان قد اعتقل قبلهما فوجدتا المخابرات في انتظارهما واعتقلوهما من هناك ، ولم تعذبا كثيرا لصغر سنهما ، حيث كانتا في الصف التاسع ونجحتا وقتها على العاشر ، لكن لمى تحدثت بأنهم أحضروا أثناء التحقيق معها ابن عمها المتهم بتنظيمهما ليعترف عليهما أمامها ، وقالت بأنها رأته يحمل عينه على كفه عندما أحضروه والدم لا يزال يخرج منها ! ولشدة طيبتهما ولما أرادوا إعادة التحقيق معهما في كفر سوسة عادت لمى إلينا منفعلة تبكي بحرقة ، فسألتها الحاجة ملهوفة عم حدث ، فقالت بقلب محروق وانفعال بلغ مداه : – نسفني كف وسب والدي . . واعتبرت ذلك غاية الإهانة وأشد العذاب !


حزب الهرموشية !

لكن العذاب كان أشكالا في السجن وألوانا . . ضرب الكف ولسع الخيزران والسب والشتائم بعض من أصنافه وحسب ، ونوع اخر من أصنافه أن تضيق الزنزانة على بضعة عشر شخصا لا منفس لها ولا مخرج . . تتباين بعض الأحيان عاداتهم وتختلف اراؤهم وتتعارض انتماءاتهم ولا يجدون بدا إلا المجاورة بالقسر ! ومن هذا الصنف أتوا إلينا مرة بسجينة من قرى درعا تهمتها تهريب السلاح والمتاجرة فيه . دخلت علينا فجأة فرمتنا بنظرة غريبة ومن غير أية مقدمات قالت : -طقع . . كل من على شكله وقع ! لم ندر وقتها ما الذي كانت تتحدث عنه . . وعندما سألناها لاحقا قالت : – عندما نظرت إلى المهجع أول مرة رأيت هؤلاء الكبار اللاتي تنادوهن حجات قاعدات مع بعضهما البعض وأنتن لوحدكن فتصورت أن هؤلاء غيرأولئك . . وكل واحد جالس مع شكله ! كان اسمها كما أذكر أم جبري ، ضخمة البنية طويلة الجسم عريضة المنكبين ، لكنها كانت غاية في الجهل ابتداء بأولويات النظافة وانتهاء بالسياسة ! كانت وسخة جدا فلا تنظف لا جسدها ولا مكانها ولا حتى الحمام إذا استعملته . . والمكان كله شبر بشبر ! وزاد عليها وعلينا القمل الذي تسرب منها إلى المهجع لكنه ويا للعجب لم يطب له المقام إلا في رأس منيرة التي كانت تجاورها في مكان النوم . . فلما اشتد الأمر على منيرة قالت لها الحاجة : -عندي الدواء ! وطرقت الباب منادية على حسين فلما جاء سألته أن يحضرو ا بابور الكازا ويعيره لنا ففعل ، فتناولته بيد وأدنت رأس منيرة باليد الأخرى وسكبت الكاز على رأسها . . لكن الكاز انتهى وظل القمل غاية في الحيوية والنشاط إ! ولم يخرج إلا بخروج أم جبري هذه بعد شهر أو شهرين بوساطة من محمود الزعبي رئيس الوزراء وقتها ، بعدما كادت تصيبنا وتصيب حتى المحققين بالجنون ! ولقد كانوا يسألونها وقد ظنوا أن وراء تهريبها السلاح أمر جلل : – من أي حزب أنت ؟ فتجيب : من حزب الهرموشية . . تقصد القرية التي أتت منها . . فيعيدها إلى التعذيب ظنا أنها تراوغه ، والمسكينة من جهلها لا تعرف ما الذي يغضب المحقق ولا الذي يستغربه من إجاباتها !


بلاء أخف من بلإء!

لكن “أم جبري ” كانت على ما فيها أرحم من صنف من السجينات أخر ابتلينا به . . وهن الشيوعيات الحاقدات . . ففي وقت لاحق وأثناء حوادث الإعتداء على المحجبات بدمشق أواخر عام 81 ألقوا القبض على عضوة في التنظيم الشيوعي وهي طالبة طب من دمشق من زميلات أخي في الجامعة اسمها فاديا لاذقاني ، كانت توزع منشورات باسم الإخوان لتأجيج التوتر كما يبدو ، وسرعان ما انقلب لتصبح مخبرة تنقل أخبارنا إلى رئيس الفرع أولا بأول ! كانت تفتخر بشيوعيتها وتتعالى بها علينا . . وكثيرا ما كانت النقاشات تدور بيننا حول ذلك بلا نتيجة ، لكن ذلك لم يكن ليمنع من إحسان الصحبة لولا أنها كانت تتعمد إزعاجنا والتشويش علينا ، فلقد سمحوا لها بالراديو مثل منيرة وبممنوعات علينا أخر ، فكنا إذا أردنا الصلاة أو قراءة القران رفعت صوته بالموسيقى والغناء لتشوش علينا ، أو وضعت السماعات على أذنيها مظهرة لنا الإنزعاج . . ولم تغير من سلوكها رغم تكرر الطلبات والرجاءات .

وعندما استشهد أهلي علمت فاديا بالخبر من المقدم وحدها ، فما وجدناها إلا وقد عادت بادية السرور تتدحرج على أرض المهجع وكأنما أصابها مس . . ولما سألناها عم حدث قالت : -سمحو الي بمسجلة . . لكن ذلك لم يدخل عقولنا ، فالراديو معها منذ وقت طويل ، والفرق بين الإثنين ليس بهذه الدرجة . . فعادت الحاجة بعد ذلك واستدرجتها على انفراد ، فما استحت أن تقول بأنها سمعت يومها خبر مقتل أهلي في أحداث حماة من المقدم فكان ذلك سبب فرحتها ! وكانت تتابع الأخبار بالراديو وتتتبع ما يجري في حماة وقتذاك ولكنها لم تخبرنا ولا كلمة . . وتظل تسهر من إذاعة لأخرى طوال الليل ونحن لا ندري عما يجري في الدنيا . وبقيت فاديا في “كفر سوسة” عندما نقلنا نحن إلى قطنا ليفرج عنها لاحقا . . وبعد ذلك أتت بنفسها فزارتنا في سجن قطنا” ، وكانت وكأنما تريد إغاظتنا تتحدث كيف أطلقوا سراحها ونالت حريتها فذهبت لتكمل دراستها في فرنسا وعادت الان في إجازة .

أدب السجون في رواية (ما لا ترونه) محمد الحسناوي

أدب السجون مظلوم ، كما أن سجناء الرأي أنفسهم مظلومون ، فهل يأتي يوم ، ترفع فيه كل الظلامات عن البشر والأدب ؟ وهل ظلم أدب السجون من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان أو لنفسه التي لا ترتاح لحديث السجن – ولو كان عن الأبرياء والمظلومين – كما ترتاح لحديث الحب والغزل ؟ وهل من العدالة أو الكياسة والذوق الرفيع الارتياح للغزل وشعر الغزل ، والإعراض عن السجون وأدب السجون ؟ وإلى متى ينساق الإنسان وراء الغرائز ، انسياقاً أعمى ، مما يصرفه عن الأخلاق والمُثُل والعواطف الشريفة النظيفة ؟
أدب السجون موجود منذ وجد الأدب ووجدت السجون ، ويمكن أن نعدّ منها كتاب (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب )(1) و ( السجون وأثرها في شعر العرب –لأحمد ممتاز البزرة )(2) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد ) (3) وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم  بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح )(4) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش )(5) وأحدث دراسة في ذلك كتاب ( القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر) (6)..
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة ، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث : نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي )(7) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) (8) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي)(9) وديوان ( تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري )(10) وكتاب ( عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي )(11)  ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي )(12)  وقد يكون آخر إصدار هو رواية (ما لا ترونه – لسليم عبد القادر ) وهي موضوع دراستنا في هذه المقالة .
عُرف سليم عبد القادر شاعراً سوريأ في ديوانيه ( القادمون الخضر )(13) و ( نعيم الروح )(14) وبأناشيده للأطفال التي أخرجتها (دار سنا) في أشرطة كاسيت وأشرطة فيديو ، فطبقت الآفاق . وأما (ما لا ترونه – الناشر بلا حدود – 2005م ) فهي روايته الثالثة بعد روايتيه (الأصدقاء الثلاثة ) ( و( ذبيح القدس )  ، وهي تحكي تجربة المؤلف نفسه بضمير الغائب من خلال الشخصية الأولى ( محمود النعيمي ) : طالب جامعي في كلية الهندسة من جامعة حلب في الثمانينيات من القرن المنصرم ، اعتقل من حرم الجامعة أمام زملائه وزميلاته في وضح النهار ، على حين اعتقل معظم زملائه من بيوتهم في جنح الظلام ، ولم تعرف أماكن اعتقالهم أو زيارتهم إلا بعد شهور من اختطافهم ، وتعذيبهم واستشهاد بعضهم تحت التعذيب ، من غير ذنب ارتكبوه إلا مخالفة الرأي للذين اغتصبوا السلطة .
أول درس سياسي في هذه الرواية – ولعله الهدف الأول منها – أن بطل الرواية محموداً كان قبل الاعتقال ضد العنف في معارضة النظام ، يؤمن بالحوار وبالعمل السلمي ، لكن طريقة الاعتقال ، بلا مذكرة قضائية ، وأشكال التحقيق المصحوبة بالتعذيب الرهيب ، نفسياً وجسمانياً ، مما وقع عليه وعلى إخوانه .. جعله ذلك كله يتحول إلى طلب العنف ، والتخلي عن النهج السلمي الذي كان يعتقده . فبعد شهور تستطيع أمه الوالهة أن تظفر بالموافقة على زيارته عن طريق أحد الأقارب الذي يعمل في أجهزة القمع ، بشرط أن تقنع ابنها المعتقل محموداً بالضغط على أخيه فخر الدين المتواري عن الأنظار ، بأن يسلم نفسه ويعترف على (إخوانه ) ثم يتم الإفراج عنه ، يقول الكاتب : ( نظر محمود في الوجوه التي ترقب ردّ فعله باهتمام ، وكان رئيس الفرع يجلس بعيداً في صدر المكتب يتشاغل ببعض الأوراق أمامه ، فسأل محمود : وأخي ؟ ما رأيه ؟
قالت الأم : إنه يرفض الاستسلام ؟
فأخذ نفساً عميقاً ، وقال : الحمد لله ..ثم التفت إلى  ذلك الرجل ليطلب منه طلباً استفزازياً مستحيلاً ، فقال: أخرجوني من هنا لأسلمكم أخي .
ولم يكترث فيما يكون لسخريته الغضوب من أثر ، وتابع الكلام وهو ينظر إلى أمه : إنهم كذابون ، مراوغون ، واحذروا أن يخدعوكم .. لقد عانيت من جراحهم أربعة شهور بلا علاج ، إنهم ألعن من الشياطين ألف مرة ..
فقالت : حتى المقدم علي ؟!
أجابها بغيظ : إنه أكذب من مسيلمة الكذاب … قولي لأخي وللشباب جميعاً ، ألا يستسلموا مهما تكن الظروف … أن يقاتلوا بالرصاص ، بالسكاكين ، بالعصي ، بالحجارة ، بالأظافر … بأي شيء … والذي يعجز عن ذلك فليرحل خارج البلاد لينجو من هذا الجحيم الكافر ، ولو كنت أعلم بأني سألقى هنا معشار ما لقيت ، لما تركتهم يستلمونني إلا جثة هامدة .
فقال الرجل : إذا كان الأمر كما تقول ، فأنا أنسحب ، وأنتم أحرار .
قال الرائد : انتهت الزيارة .
فقالت الأم : يا له من لقاء قصير ، بعد فراق طويل ) ( ما لا ترونه – ص 91- 92 ) ويبدو أن أخاه الشاب فخري سمع نصيحة أخيه ، فقاوم وقاتل حتى استشهد ( وحملت له الأخبار نبأ استشهاد أخيه فخر الدين ابن الثمانية عشر ربيعاً ، فتلقى أكبر صدمة في حياته بالصبر والتسليم ، واستشهد صديقه أيمن ، وهو أمر كان يتوقعه ، أما أبو اليسر فقد اعتقل بعد إصابات بالغة فقد فيها عينه وذراعيه ، وقضى في المنفردة بضعة شهور ، ثم حكم بالإعدام ونال ما يتمناه : الشهادة في سبيل الله ) ( ص 97 ) ..وبالمناسبة هذه الأسماء حقيقية ، وبقية الأسماء التي وردت في الرواية كاملة أو بالاسم الأول ، وفي ديوانه الأول ( القادمون الخضر ) قصيدة خاصة برثاء أخيه الشهيد فخر الدين ، وقصائد متعددة في رثاء الآخرين ، لكن المؤلف لما اتخذ اسم محمود في  الرواية ، تحدث عن بعده الأدبي من خلال شاعر اسمه (عبد القادر ) يطرب المعتقلين بأناشيده وبمزاحه الطريف للتخفيف من وطأة السجن ، والترويح عن النفوس المكدودة وبعث الأمل .
الدرس الثاني في هذه الرواية الجانب التوثيقي فيها لجانب من أحداث سورية في ثمانينيات القرن الماضي : أنواع التعذيب وأدواته .. أماكن الاعتقال ..أسماء الجلادين .. بذاءة التحقيق .. نتن النوايا المنكشفة .. حجم المأساة والضحايا ولا سيما جيل الشياب الجامعي المثقف .. المحاكم الأمنية الصورية ..  التجديف بالله تعالى وبالأنبياء والرسل .. الافتراء على العلماء  لتخذيل الشباب عن أساتذتهم والإيقاع بهم ..
الدرس الثالث هو تحليل نفسيات الجلادين الكبار والصغار ، الصغار منهم يتنافسون في الإيذاء الجسدي والنفسي ويتفنون في إرضاء الكبار ، ومن خلال رسم صورهم الجسدية وبذاءة لسانهم وقساوة نفوسهم وخلوهم من أي إحساس إنساني ، فهم وحوش في لبوس بشر أو عبيد ، وأما الكبار فيتفنون في حبك الاستدراج من خلال حبائل الترغيب والترهيب من جهة ، ومن خلال الافتراء أو الإيقاع بين المعتقلين من جهة ثانية  .
ومن قاع المأساة ، من صلب القساوة والوحشية والبذاءة والاستعباد تشرق نفوس إنسانية تعيد الثقة بأن الإنسان ليس وحشاَ محضاً ، بل هو من مادة وروح ، يظهر ذلك حتى في بعض الجلادين ، مثل الرقيب طاهر( بدءاً من الصفحات 104 ) ،  الذي تعاطف مع المعتقلين ، فأخذ يسهل لهم الانتفاع من دورات المياه ، ومن التواصل فيما بينهم ، ومن إحضار بعض الكتب والأوراق والأقلام والأخبار والرسائل ، وكل ذلك   ممنوع ، يعرّض صاحبه للمهالك ، فكيف إذا بلغ به الأمر أن يتواطأ مع المعتقلين على ترتيب عملية هرب جماعية من السجن ، ثم تأمين مخابيء لهم خارج السجن ؟ وقد حصل ذلك في الرواية ( ص109)  وفي الواقع على حدّ سواء .
أما الأطرف من ذلك فهو انقسام المعتقلين في البداية حول (نظافة ) الرقيب طاهر ، أي هناك من يشك بتصرفاته على احتمال أن يكون جاسوساً عليهم ، يستدرجهم للإيقاع بهم ، أو إنساناً موثوقاً يتعاطف   معهم ، وهذه واقعة مألوفة في صناعة القمع ، وفي تحطيم الثقة بين البشر المعتقلين لدرجة الشك ، فيمن يتعاطف معهم أو يريد تقديم خدمة لهم . فما أعظم جريمة القمع وسجون الرأي بحق الإنسان والبشرية جمعاء ، وهي جريمة ترتكب في السجن الصغير، كما ترتكب في الوطن كله حين يصبح سجناً كبيراً ، وقد صارت سورية للأسف كذلك ، فما من إنسان سوري أو أسرة سورية أو حزب سوري إلا انشق على نفسه طولاً أوعرضاً أو الاثنين معاً ، وكم يلزم من الجهود والأزمان للإصلاح الحقيقي ؟!
ومقابل شخصيات الجلادين تظهر شخصيات المعتقلين صغاراً وكباراً في الأعمار والمدارك والنفوس ، أفراداً وجماعات ، لم يظهر فيهم جاسوس واحد ، لكن سقط عدد منهم في الاعتراف على أنفسهم أو على إخوانهم من شدة التعذيب ، ومنهم محمود النعيمي (أي المؤلف نفسه )، وكان ذلك عبئاً آخر من آلام السجن أن يضطر السجين إلى أن يخون أخاه أو صديقه أو جاره أو زميله ، وأن يسلمه مضطراً لكابل الحديد ، والصعق الكهربائي ، والانحشار في الدولاب للضرب على الأرجل أو على القفا بالعصي ، أو حمل الدولاب ساعات طوالاً ، أو لإطفاء السكاير في المواضع الحساسة من الجسم ولا سيما الأعضاء التناسلية ، أو ما شابه مما يعف القلم عن ذكره .
وهذا غير السباب والشتائم من العيار الثقيل ، وغير الهواء المتعفن وضيق النفس ، والتناوب على شم الهواء من ثقب في أسفل الباب من قبو محروم من النوافذ والتهوية ، لدرجة التعرض للإغماء. ولقد تمنى محمود النعيمي الموت أكثر من مرة للخلاص من هذا الجحيم الذي لا يُطاق ، وتوسل للمحققين أن يريحوه بالموت فرفضوا ذلك (ص32و 35و 40 و43و ) ، لأن الغرض إيقاد الألم ، وتفريغ   الحقد ، وليس راحة الإنسان .  كانت المعادلة ( عدوّ مع عدو) لا (محقق مع متهم ) ، فتصور الثمار التي أنتجتها هذه الصناعة /العلاقة يقول : ( لقد انتهى كل شيء .. لقد اعترفت ، انتهيت .. سيأتون بإخوانك إلى هنا ، يقاسون العذاب والمرارة مثلما قاسيت أنت … أصحابك الذين يظنون بك خيراً ، يحسبون أنك لن تعترف .. وأنت في نظرهم شيء كبير ، وأنت الآن  شيء تافه .. لاشيء …. لكن ماذا أصنع ؟ لكل شيء حدود ، ولكل إنسان طاقة .. حتى الفولاذ ينكسر ويذوب ، كان الموت أسهل عليَّ . ولكن الموت لم يأتِ ، والرحمة كلمة لا وجود لها هنا ، وقد صبرت كما لم يصبر إنسان ، وقد أخَّرت اعترافاتي سبعة أيام ، وعلى أصحابي أن يدبروا أمورهم .. أن يهربوا .. أو يختفوا ، أو يغادروا البلد …و ليس من المعقول أن أذوب قطعة قطعة وهم يجلسون بلا حركة … ولكنهم يظنون بأني أموت ولا أعترف ) ( ص45) .
إن طبيعة التحقيق (جلاد .. معتقل ) تقتضي وفرة في الحوار وتنوعاً  بشكل مسّوغ ، والعزلة أو الانقطاع عن الآخرين تؤدي إلى النجوى أو (المنولوج) ، وذلك كله يعين على تحليل نفوس الشخصيات الظالمة والمظلومة على حد سواء ، وعلى الأخص الشخصية  الأولى ( ص 22 و25 و29و 31 و 37 و38 و 41 و 42 و 45 ).
محمود النعيمي شخصية مواطن مثالي أو عاشق للمثل العليا ، يظن الناس كلهم مثله ، ولم يخطر في باله أن يدخل سجناً ، وإذا دخل ، فهو يظن في نفسه المقدرة على إقناع الجلادين ببراءته ، وبعدالة الأفكار التي يؤمن بها ، وبقدسية ما هو مقدس عند البشر من دين أو خلق أو صدق أو رحمة ، فإذا هو يكتشف الجانب القذر من إنسان الغابة في الكبار والصغار ، بل في مؤسسات كاملة ، وهي خبرة نافعة للمواطنين العاديين ، ولكل مجتمع مبتلى بالطغيان ، حتى يكتسبوا المناعة ، وحتى تزول عن أعينهم الأغشية ، ولكي يأخذوا دورهم في الهم العام وفي عملية الإصلاح ، وبذلك يكون الطغيان جلب لنفسه الخطر ، وأسس لمحاربة نفسه وحشد من لم يحشد من المواطنين ضده وضد وجوده .
وهنا تجدر الإشارة إلى أن صمت الشارع أو الرأي العام طوال أربعة عقود من الانحرافات لا يعني إخراج المجتمع من السياسة ، بل يعني أن هناك تراكمات من المعاناة المضاعفة المحتقنة كالبركان الذي ينتظر لحظة الانفجار ، كما أن تطاول الزمن لا يعني النسيان بحال من الأحوال ، بل التخمر والتفاقم والمزيد من الغليان وتلاحم الآلام . فالثورة الفرنسية لم توجد أسبابها قبل يوم أو شهر أو سنة من انفجارها ، وكذلك ثورة العبيد في روما ، لكن وعي الجماهير المضطهدة فعل فعله حين اكتشف المواطن الفرد أن ألمه ألم جماعي ، وأن النقمة جماعية ، وأن الحراك الجماعي قابل للتحرك والتفجير ثم التغيير . وهذا قانون أو سنة من قوانين الاجتماع البشري ، لكن هل يقيم الجلادون أو الطغاة شأناً للقوانين أيّاً كانت ؟
يفسر هذا القانونَ العبثُ ولحظات الضحك التي يمرُّ بها مجتمع المعتقلين حين يأوون إلى النوم الساعة العاشرة مساء ، فلا ينضبطون بقرار اتخذوه في أحد المهاجع الجماعية ، يخرقه أحدهم بهمس أو نكتة ، فينفجر المهجع بصيحات التأييد أو المعارضة تنفيسا عما فيه من بلاء .
كما يفسره جانب السخرية اللاذعة في شخصية محمود النعيمي أيضاً ، يقول : ( القاضي : – هل من أقوال أخرى ؟
– نعم يا سيدي ، فإن كلامي لم ينتهِ بعد ، وكنت أودّ أن أقول ، بأنك أنت نفسك لو وضعوك في الفلق أو تحت لسع الكهرباء ، لاعترفت بأنك أخ لموشيه ديان .
– ضحك الجميع إلا القاضي ، فقد كان هو الآخر أعور …) (ص100) . وما السخرية إلا ضحك هادف يخفي وجعاً عميقاً .
              ويفسره أيضا الضحك غير الهادف إلا طلباً للترويح عن النفس ، والضحك للضحك في قاع الجحيم ، يقول : ( كان للشيخ مريد طريف طيب ، يدعى عبد السلام ، كان كلما شعر بدبيب الملل و احتدام الجدل ينقذ الموقف بقوله : إذاعة القرآن الكريم من سجن<السادات> تقدم لكم ما تيسر من كتاب الله من تلاوة شيخي محمد خير .. فيقرأ الشيخ ما تيسر ، حتى يجد الهدوء والراحة والسكينة مرتسمة في الوجوه . وقال عبد الكريم : عندي كنز لا ينفد من حكايات جدتي ، سأقص عليكم قصتين كل يوم ، نستعين بذلك على طرد الملل ، وجلب شيء من البهجة ) ( ص 76) والصفحات ( 66 و 74 و 75 و 1079 ) .
أما الروسم أي (الثيمة ) التي قام عليها بناء الرواية ، فهو التسلسل الزمني للأحداث والوقائع من البداية إلى النهاية ، وهو أخلق بالرواية التسجيلية . والذي بعث الحيوية في هذا البناء ثلاثة عوامل :
الأول تعدد الأمكنة والانتقال من سجن إلى سجن ومن تحقيق إلى آخر .
العامل الثاني شبيه بالأول وهو تنوع الشخصيات في الجلادين والمعتقلين .
العامل الثالث ، وهو أهمها ، ختام الرواية بترتيب عملية هرب جماعية ، يخطط لها وينفذها المعتقلون بتعاون مع السجان الرقيب (طاهر) ، وهي خاتمة تذكرنا بالقصص البوليسي وبروايات أغاثا غريستي ، خاتمة ملائمة لطبيعة الأحداث ، وللغة السجون القائمة على أحد الخيارات الثلاثة : دوام السجن لمعتقلي الرأي ، أو الموت صبراً ، أو الهرب لمن يتاح له الهرب ، وما أندر ذلك !! وحصول الهرب مؤشر على التفاؤل ، و على انتصار الخير على الشر بعد صراع مرّ ، وإعمال للفكر ، وتصميم  على النصر . وما ضاع حقّ وراءه  مطالب !!
                                                                               * كاتب سوري وعضو رابطة أدباء الشام
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
(1) – المجمع الثقافي – أبو ظبي1999م .
(2) – مؤسسة علوم القرآن – بيروت 1985 .
(3) – المؤسسة الجامعية – بيروت . 1995م .
(4) – رسالة دكتوراة – جامعة الجزائر 1413هـ = 1993م – محفوظة بمكتبة الأسد – دمشق .
(5) – رسالة دكتوراة – الجامعة اللبنانية 1997م .
(6) – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – وزارة الثقافة الأردنية – عمان – الأردن – ط1 = 2004م .
(7) – مكتبة المعارف – بيروت .
(8) – الأعمال الشعرية – المؤسسة العربية للدراسات – بيروت 1992م .
(9) – مكتبة الأقصى – عمان – الأردن 1968م .
(10) –  دار المنار – الزرقاء – الأردن – ط2 : 1405 = 1993م .
(11) – مكتبة الفلاح – الكويت 1998م .
(12) – دار الشفق – للطبع والنشر –بيروت – ط1 : 1994م .
(13) – مكتبة بيت المقدس .
(14) – مركز الراية للتنمية الفكرية – المملكة العربية السعودية – جدة – – ط1 : 1424هـ = 2003م.