أرشيف يوم: مارس 27, 2021

من سجين إلى أمه

أبيات مؤثرة من أسير إلى أمه
* من أبي محمد المقدسي ( الأردن) إلى أمه الباكية الحزينة *

هذه أبـيـات مؤثرة على لسان أبي محمد المقدسي قالهاعندما زارته والدته في سجن سواقة في الاردن وهي ابيات جميلة جدا لا تزيد المجاهدين إلا اصرارا على مواصلة طريق الجهاد والمجاهدين .
يقول ابو محمد:
هذا تجديد لأبيات عزيزة، كنت قد كتبتها لوالدتي الحبيبة من قبل في حبسي الأول، جددتها لها يوم زارتني بدموعها في عيد الأضحى من هذه السنة 1420هـ

لا تـبكني أمـاه وابـك بلوعة ديـناً جـريحاً ما عليه بــواكيا
ما كنت يومـا رغم حبسي جاثيا فـلأجل ربـي أسـتطيب عذابيا
أمـاه إن خـط القـضاء منيتي بـدم تحـرر فـاصبري لمصـابيا
لله قـد قدمت روحـي راغبـا ثـمنـا ليبقى أصـل ديـني عاليا
وقحـمت أسـباب المنايا حاملا بيـدي لنـصرة دعـوتي أكفـانيا
فالمـوت لا يـريع نفسـاً حرةً قهـرت خطوباً قـد عصفن عواتيا

والقيد ليس بمـوهن لي هـمتي والسجن ليـس بمحبطٍ آمــاليا [1]
يا أمّ لا تبـكي لحبسي دمعـةً وابكي لـدينٍ ما علـيه بواكيـا


فالسجن خير من حيـاة مذلـةٍ وأنا لـربي قـد نذرت حياتيـا
أنا لست أركعُ رغبةً في لقمـةٍ أو أشتكي سـوطاً يُعربد عاتيـا
فالسجن ليس بضائري إن ضمّني والقيد ليـس معجـلاً أكفانيـا
والسجن ليس بحابسٍ لي دعـوتي والقيد ليـس بمطفـئ أنواريـا
أنا هـاهنا حر برغم سلاسـلي ورنينها يشـجي ربوع فؤاديـا
أنا هـاهنـا عزّي هنا حريـتي فالعز قيدي والشموخ جراحيـا

[سأقول للسجن الذي قد ضمني ] اشدد قيودك لا تفـك وثاقيـا
أنا هـاهنا حـر ودون قيودنـا شـعبٌ يُطأطئ للخيانة جاثيـا
يا سجن إنّي قد عشقتُ سلاسلي هذي السلاسل والقيود سلاحيا
يا سـجن إنـّي قد ألفتُ زنازني هـذي الزنازن والظلامُ ردائيـا


أنا في قيودك شامـخٌ في عـزتي والحرُ يخنع خلف سورك راضيـا
قد حددوا عيشي على قضبانـهم وبظـلِ قيدك مولدي ووفاتيـا
وعلى جدارك قد خططت ملاحمي حفراً بظفري والـمداد دمائيـا
بدمي خططت براءتي من كفرهم ولأجل ذا ضـاقت عليّ بلاديـا
يا أمّ مـالك تذرفـين الدمع لا لا تفعلي أفديـك أمـاً حانيـة
يا أمّ لا تبكـي لقيدي واصبري فالفجـر يشرق عن قريبٍ آتيـا

والكفر مندحـرٌ بإثْر جيوشهم والنور من ديني يُشـعشع زاهيـا
والحـقّ منتصرٌ برغم سجونـهم والقيد منكسـرٌ وديـني عاليـا

أبو محمدالمقدسي – رمضان 1417- سجن سواقة في الاردن

لأسد الله في كوبا – معتقل غوانتانامو

لأُســدِ الله

لأسد الغاب في كوبا السلام *** وإن عز التزاور والكلام
ليوث حينما وثبوا تنادت *** كلاب الغاب و انجفل النعام
تطوف بها الغداة بكل ذعر *** وتحرسها الرواح فلا تنام
تخاف تواثبا منها فتدني *** مشاعلها إذا جن الظلام
وما ضر الكريم إذا علاه *** لحسن صنيعة منه اللئام
ألا أيها الأحباب عذراً *** فقد طاشت بجعبتي السهام
نرى للمسلمين بكل أرض *** مجازر مالهم فيها قوام
نرى في قدسنا قرداً دعياً *** يئن بثقله الحرم الحرام
يغني بالسلام وإن منه *** ومن غلوائه يشكو السلام
نرى مالا يطاق إذا تمطي *** بأعراض القوارير الطغام
وسالت دمعة في خد طفل *** جريح لم يجاوزه الفطام
وشيخ مبعد تعبت خطاه *** ويطويه مع الألم الحمام
هنا قدم وذاك دم مراق *** وتلك يد تحيط بها عظام
وشيء من بقايا شبه دار *** وأنقاض وأبيات حطام
أخي إن لم تقم لله فيهم *** فحسبك فتية لله قاموا
فقالوا : ربنا إنا برئنا *** وقد خذلتهم العرب الكرام
وإنا ربنا لما سمعنا *** صريخ الدين حق الانتقام
سل الأفغان والشيشان عنهم *** سل البوشناق كيف بها أقاموا
وسل يوم الكريهة كيف كانت *** بسالتهم وقد ثار الرغام
وجلل صارخاً للحرب فيهم *** صبيٌ لم يناهزه احتلام
وسلها عن عدوهم المفدى *** وقد لاقتهم الأسد العظام
على أعقابهم نكصت وولت *** جحافلهم يعرقلها الزحام
أيا أحبابنا عذراً فإنا *** ليرهبنا الشباب إذا استقاموا
أيا أحبابنا عذراً فإنا *** يهدهدنا التغزل والغرام
يلفعنا إذا نصحوا انخذال *** ويصفعنا إذا نمسي انهزام
تعلمنا المذلة كيف ننسى *** وكيف نجيب إن وقع الملام
أيا آسادنا في القلب نارٌ *** يزيد لحبكم فيها الضرام
لكم منا الدعاء بظهر غيب *** من الأبرار ما صلوا وصاموا
لكم منا اللسان وكل حبر *** إذا ما لف في الغمد الحسام
لأسد الله في كوبا السلام *** وقل لهم إذا عثر السلام
بكم نشدوا فحيوا كل شدو *** مع الأسراب تنقله الحمام
بكم نسموا فحيو كل قطر *** على الوجنات ينزله الغمام

مبارك بن عبد الله المحيميد
2 – 8 – 1423هـ

علي أحمد باكثير أول من أدخل شخصية جحا إلى المسرح

الباحث أحمد إبراهيم الشريف يؤكد أن الأعمال المسرحية للكاتب علي أحمد باكثير تحفل بتقنيات جمالية وإقناعية سعى من خلالها لتقديم أفكاره مستخدما في ذلك بلاغة متنوعة.

التاريخ مادة مسرحية هامة

انطلاقا من فكرة أنه كي نفهم واقعنا المعاصر وجب علينا فهم الماضي القريب، وذلك عن طريق معرفة الأدبيات التي ناقشت أزمات وقضايا لا تزال مستمرة أو لا يزال صداها موجودا، وقع اختيار الباحث أحمد إبراهيم الشريف على الخطاب المسرحي في مسرح الكاتب والشاعر المصري علي أحمد باكثير ليكون محور أطروحته “بلاغة الخطاب في مسرح علي أحمد باكثير”.

في أطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان “بلاغة الخطاب في مسرح علي أحمد باكثير”، يرى الباحث أحمد إبراهيم الشريف أن المطلع على الجانب الإبداعي عند باكثير سيجده واعيا تماما بما يقوله في خطابه محملا نصوصه رسائل ترصد الارتباك الذي أصاب الشخصية العربية في فترة خطيرة من تاريخ العالم عاصر فيها حربين عالميتين وسقطت فيها فلسطين في يد الصهاينة.

ويقول الشريف “كان خطاب باكثير مشغولا بما يحدث حوله في مجتمعه وفي العالم أيضا -انعكاس ما يحدث في العالم على مجتمعه الإسلامي والعربي- محاولا الإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلق بالهوية والوضع الراهن لجمهوره وقرائه، وقد كشف عن رأيه من خلال أقنعة مسرحية ومن خلال الهدف الذي سعت إليه الأعمال المسرحية.

عرب أم فراعنة

يؤكد الشريف في أطروحته أن خطاب باكثير جاء متنوعا غنيا؛ فقد استمد مصادره من ثقافة عالمية وثقافة عربية؛ وظهر لديه التوظيف التاريخي والديني والاجتماعي والسياسي، وقرأنا في مسرحه نصوصا تراجيدية وأخرى كوميدية وبينهما الملهاة تسخر من الذات والآخر، وفهمنا معه الإسقاط السياسي والخطابات المضمرة والمعلنة وغير ذلك من التقنيات التي جعلت خطابه متسعا يتحدث عن الله والكون والإنسان، خاصة الإنسان العربي.

ويوضح أنه استعان لتحليل الخطاب عند باكثير بالمنهج الوصفي وأداتُه التحليل بما يطرحه من توقف عند جماليات العمل الفني ووسائل قوته وضعفه وما تبثه السيمولوجية من أيقونات وإشارات ورموز، في محاولة للتعرف على الرسائل التي يود النص أن يرسلها، على أن يضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي، والتعرف على مرجعية الخطاب ومصادره، واستفاد مما تقول به “التداولية” ولم يستبعد آليات الدرس الحِجاجي أو النقد الثقافي.

علي أحمد باكثير قدم خطابا غنيا مستفيدا من الثقافة العالمية والثقافة العربية ومن التاريخ والدين والسياسة
علي أحمد باكثير قدم خطابا غنيا مستفيدا من الثقافة العالمية والثقافة العربية ومن التاريخ والدين والسياسة

ويضيف الشريف أن خطاب باكثير كشف أن جيله على كل المستويات، حتى على مستوى السرد متمثلا في نجيب محفوظ ، كان يعاني أزمة في أصل الهوية، فالاحتلال الذي كان يفرض كلمته على الجميع دفع المصريين ليتساءلوا هل نحن عرب أم فراعنة؟ ولأن باكثير عربي يمني عاش في مصر ومات فيها فقد انتسب إلى العروبة وحاول في خطابه أن يثبت ذلك.

وسعى الباحث إلى تحقيق عدد من الأهداف الفنية من خلال الدراسة التي جاءت في مقدمة وتمهيد تناول مسرح باكثير وعرج على المسرح العربي قبله وبعده، ثم ثلاثة أبواب هي “سياقات خطاب علي أحمد باكثير وأقنعته”، و”بلاغة الخطاب القيمي في مسرح علي أحمد باكثير”، و”بلاغة الخطاب الإقناعي في مسرح على أحمد باكثير”.

وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف تعامل الباحث مع مسرحيات باكثير من زاويتين؛ الأولى باعتبارها خطابا جماليا، والثانية باعتبارها وثيقة.

ويؤكد الشريف أن الأعمال المسرحية لباكثير بصفتها نصا أدبيا تحفل بتقنيات جمالية وإقناعية لا ينقص منها عدم تقديم بعضها على خشبة المسرح ـالذي كان سيضيف إليها بالتأكيدـ لكن باكثير كان حريصا على اكتمال النص كتابيا ـمن وجهة نظرهـ وعدم المراهنة على العروض.

ويقول إنه تبين بالدراسة أن خطاب باكثير كان مدركا أن المسرح هو فن المواجهة، وأنه في حالة عرضه على الخشبة يصبح تأثيره في الجمهور كبيرا، لذا أنتج نحو أربعين عملا مسرحيا، وسعى من خلالها لتقديم أفكاره ثم عمل على إقناع الجمهور بما جاء في هذه المسرحيات من أفكار مستخدما في ذلك بلاغة متنوعة. وقد غلب على خطاب باكثير توظيف التراث وإعادة إنتاجه مرة ثانية ـمتجاوزا فكرة السرد أو الحكيـ بوصفه استعارة كبرى لها دور جديد في الظروف الراهنة، ومانحا لنا فرصة جديدة لمساءلة هذه الشخصيات أو للتعلم منها.

إبداع الضرورة

يلفت الشريف إلى أن خطاب باكثير في مسرحه تحرك من فكرة أن غرضه الأساسي هو التواصل، لذا فهم قيمة الحوار في المسرحيات، الذي جاء في أوقات كثيرة مؤديا لهدفه ومقدما للشخصيات وصانعا للصراع، كما حرص باكثير في مواضع كثيرة أن يكون حواره جماليا فيحمل قيمة فنية لا تقلل من كونه حاملا رسائل ما.

ونظرا إلى طبيعة المسرح التي تمنع ظهوره بشكل شخصي على الخشبة أو أن يكتب شيئا مباشرا على لسانه، لجأ باكثير إلى حيلة القناع الفنية؛ حيث اختار من خلال شخصيات أعماله المسرحية بعض الشخصيات وحمَّلها رسائله، وجعل بعضها حججا تدافع عما يريد باكثير قوله، ومن هنا تعاملنا مع باكثير بصفته بطلا مضمرا في النصوص واستطعنا التعرف على أفكاره وشكلنا منها خطابه وحددنا قيمه التي يدافع عنها.

ويشير الباحث إلى أن خطاب باكثير استعان بحجج مرجعية جاء على رأسها القرآن الكريم والكتب المقدسة، وصنع من هذه الحجج إطارا من القداسة أحاطت بالنصوص المسرحية وأفكارها، وأضفت الكثير من المصداقية على الرسائل الظاهرة والمضمرة في الأعمال المسرحية.

باكثير لديه التوظيف التاريخي والديني والاجتماعي والسياسي
باكثير لديه التوظيف التاريخي والديني والاجتماعي والسياسي

ويلاحظ الشريف في دراسته أن خطاب باكثير اهتم باللغة العربية الفصحى وسيطرت على أعماله جميعا، لكننا في الوقت نفسه لم نعدم وجود ألفاظ من اللهجة العامية، خاصة في المسرحيات الاجتماعية وفي المسرحيات المتأخرة بعد ممارسة طويلة مع المسرح فلم يعد يخشى أن يُتهم بأنه “يقلل” من الفصحى أو غير ذلك، لكن هذه الخروجات عن الفصحى كانت قليلة وجاءت معظمها على ألسنة النساء كما ذكرنا، كذلك ظهرت بعض الألفاظ التراثية الصعبة غير المناسبة للشخصيات ولا لطبيعتها، لكنها كانت قليلة.

وقد عمل الخطاب على حماية نصِّه من الملل بطرق شتى منها صناعة الإيقاع عن طريق الإنشاد، فبث في مسرحياته أغنيات وصاغ هتافات وضعها على ألسنة المجاميع كي يعلو صوتها فتثير الحماس في قاعة العرض.

ويشدد الشريف على أن البلاغة في خطاب باكثير حجة في حد ذاتها، يستخدمها مؤكدا بها الهوية العربية والخصوصية الشرقية، لذا كان للمجاز بأشكاله المتنوعة دور كبير في تشكيل خطابه معتمدا على استعارات كبرى مثل استعادة الأحداث والشخصيات التاريخية وقيامها بأدوار جديدة -فيها وعي مختلف عن زمنها- كذلك الاستعارة الجزئية داخل العمل بما يضفي حركة إضافية على الشخصيات والجمادات داخل العمل المسرحي، إضافة إلى أن طبيعة المسرح اقتضت وجود أنواع مختلفة من البلاغة منها “بلاغة الجسد” وحركته من خلال الإشارات المسرحية.

ويتابع “كان لتقنية الاستفهام دور في تقديم خطاب علي أحمد باكثير، فالسؤال يعمل على اتساع دائرة التأثير لأنه عادة يتجاوز النص الأدبي أو العرض المسرحي إلى جمهور القراء والمشاهدين، كما أنه ـعلى مستوى الكتابةـ يكشف عما في داخل النفوس من شغف بالمعرفة أو مشاعر غضب”.

ويبين الباحث أن خطاب باكثير قدّم صورة مختلفة لشخصية “جحا” التراثية، وبعيدا عن كون باكثير أول من قدمه في المسرح، فهو أيضا قدمه مغايرا للصورة الذهنية التي شكلتها الحكايات الشعبية، فجعل منه رجل ثورة يقود الشعب ضد المحتل الأجنبي، وجعله يعاني في سبيل قضيته الكثير ومن ذلك أنه أدخله السجن، لكنه لم يفقده حسه الساخر أبدا. بل إن باكثير حرص على تقديم نص فني مثقف، وقد حقق له كل من الشعر والقصص التراثية والأمثال الشعبية ذلك، ومقصده من ذلك إظهار شخصيته في العمل الأدبي، إضافة إلى تأكيد الهوية العربية.

أحمد إبراهيم الشريف تعامل مع مسرحيات باكثير من زاويتين؛ الأولى باعتبارها خطابا جماليا، والثانية باعتبارها وثيقة

ويلفت إلى أن باكثير حاول إعادة تفسير النبوءات وفعل ذلك في مسرحية “مأساة أوديب” فجعلها “مؤامرة” من المعبد ضد بيت الحاكم، وهذا التفكير العقلاني يحسب للخطاب، لأنه سيبعث رسالة لجمهوره أن بعض ما يوحى إليه بأنه غيبيات ليس كذلك بل هناك يد تديره وعقل يدبره. كما أن خطابه تحرك في رصده لقيمه التي يدافع عنها، والتي أطلق عليها الباحث دائرة الذات من باب الدفاع عن الهوية، ومن ذلك مفهوم الشعب الذي تتطور صورته من الشعب المقهور إلى الشعب المتحقق، ولا يخفى لدارس الخطاب التنبه إلى تأثير الظروف الخارجية “ثورة 1952” على هذا التصور الفني، فما قبل هذا التاريخ كان الشعب في معاناة كبرى، كان مجرد “كورس” يردد ما يقال أمامه، وبعد هذا التاريخ نجد شعبا واعيا بدوره وبأهميته.

ويكشف الشريف أن خطاب باكثير كان أول من أشار إلى أزمة فلسطين في مسرحية كبرى، وذلك في مسرحيته “شيلوك الجديد ـ 1944”، وقد تطورت طريقة تعامل باكثير مع العدو الصهيوني في هذه المسألة؛ في البداية كان يرى جيش الاحتلال مجرد عصابات قادمة من مجاهل أوروبا، وكان لديه إحساس بأنه يمكن القضاء عليها بسهولة، لكن بعد ذلك اختلفت اللهجة وصار يطالب العرب بالتضامن، واضطر في معالجاته المسرحية أن يعترف بوجود إسرائيل -بالطبع لم يخرجها من دائرة العدو- وأن يبحث عن حلول أخرى للقضاء عليها بعيدا عن إلقائها في البحر.

ويخلص الشريف إلى القول إنه “يمكن في النهاية وصف ما قدمه علي أحمد باكثير بأنه إبداع الضرورة؛ بمعنى أن المجتمعين العربي والمصري كانا في حاجة حقيقية لكاتب يخوض في هذه القضايا ويناقش هذه الأفكار ويستعيد التاريخ والتراث ويبحث عن الهوية والخصوصية، فقد كانت الأوضاع في العالم مرتبكة أكثر مما يجب، فهناك دول تصعد وأخرى تسقط، ودول تتحرر وأخرى تدخل في العبودية من جديد، وهناك فلسطين تخسر كل شيء، وهنا كان يجب لكاتب ما أن يرفض كل ذلك وأن يصرخ ـ حتى لو كان الصوت مرتفعا قليلاـ في وجه الصامتين طالبا منهم أن يتنبهوا أكثر وأن يقبضوا على قيمهم في ذلك الزمن المتحول.

محمد الحمامصي

العرب

خمس دقائق وحسب” تسع سنوات في سجون سورية الحلقة الرابعة

مسرحية التجسس !

وذات مرة أحضروا امرأة فلسطينية إلى إحدى المنفردات ولعبوا لعبة علينا قامت بها هذه المرأة التي تبين بعدها أنها مخبرة مثل منيرة التي قامت بتكملة الدور . ففي البداية قالت لنا فاديا صراحة أنهم طلبوا منها أن تجلس معها وتستدرجها على أساس أنها سجينة مثلها وتحلل لهم نفسيتها وتنقل لهم أخبارها ، وذهبت من المهجع إلى المنفردة وجلست معها اليوم الأول ثم عادت تقص علينا قصصها ، وظلت تقوم بهذا الدور الأسبوع فتأتي وتقص علينا بصراحة كيف أنها تدرس شخصية تلك السجينة وتقدم التقارير بها وتنقل أسرارها للمقدم . . حتى إذا زرعت الشفقة عليها في قلوبنا وجدناهم أحضروها إلينا من المنفردة ووضعوها معنا في المهجع بضعة أيام كنا نعاملها خلالهما أحسن المعاملة ونفتح لها قلوبنا كأية سجينة مظلومة ، وكانت من جهتها تتنقل من واحدة إلى أخرى تسمع قصتها وتستل الأسرار منها . . ثم لم يلبثوا أن نادوا عليها بالإفراج ففرحنا لها وجلسنا نودعها ، فجعلت تسالنا بكل تلقائيه إن كنا نريد إرسال أية رسائل أو معلومات لأحد لنا في الخارج ، ولا أدري ما سبب الشعور الذي تملكني والإحساس بانقباض القلب رأيتها تلح علي في طلب ولو حتى إشارة مني أو أثر تذهب بها إلى أقربائي وأهلي ، فبعد أن هممت بذلك عدت وانسحبت شاكرة وقامت أكثر البنات بإعطائها رسائل إلى أهاليهن وصلت كلها يد المقدم فاستطاع من خلال هذه المخبرة التي أجادت دورها بالتعاون مع فاديا أن يعرف الكثير عما يدور في هذا المهجع وبين نزيلاته المعتقلات ، لكن فاديا ظلت من خبثها تدعي استغرابها مما حدث ، وكان من دهائها أن شاركت حتى في الإضراب الأخير ، وكانت أكثر المتشددات في مراقبة من يهم بالتراجع أو نقض الإضراب . . وكل ذلك تمويها وتدليسا علينا لاستكمال المسرحية ! وفي نفس الفترة انضم إلى مهجعنا نزيلة جديدة اسمها ترفة لم تكن من اتجاهنا ولا من ديننا ، لكنها كانت على النقيض من فاديا هادئة الطباع سمحة الخلق لا تؤذي أحدا بقول أو فعل .

وترفة سيدة مسيحية من باب توما بدمشق في الثالثة والعشرين من عمرها ، كانت لديها – كما روت – مشكلة في الإنجاب ، فذهب بها زوجها إلى الإردن أولا ثم إلى العراق للعلاج ، لكن الزوج اعتقل بعد عودتهما بتهمة التعامل مع العراق واعتقلت معه ، ورغم أنها نفت علمها بأي شيء أو معرفتها إن كان زوجها قد فعل شيئا أم لا ، إلا أنها اقتيدت من بيتها إلى سجن كفر سوسة ، وتم تعذيبها أيضا قبل أن ينقلوها إلى المهجع معنا ، فكانت بيننا كواحدة منا . وعندما قررنا الإضراب أضربت أيضا واستمرت ثابتة حتى النهاية . . وتم نقلها عندما نقلونا إلى قطنا ، لتبقى معنا هناك إلى اخر فترة ولا يفرج عنها إلا بعدنا بشهور .


الضيف ضيف الله !

وتتابع وفود معتقلات جدد ومآس أجد . . فبعد كل من وفد أحضروا إلى مهجعنا الذي غص بنزلائه أختين من اللاذقية هما منى وأمل ف .

عمر الأولى35 أو 36 سنة وهي أم لثلاثة أبناء : بنتين وصبي ، والثانية عزباء في الثامنة أو التاسعة عشرة . وقد بدأت قصة منى التي كانت غاية في الطيب إلى درجة السذاجة بالفعل . . بدأت حينما قتل زوجها برصاصة طائشة أثناء عبوره منطقة كانت مسرحا لاشتباك بين المخابرات وعناصر مضادة في اللاذقية ، وكان – كما روت – يحمل ابنته على كتفه حينما أصابته طلقة اخترقت يده التي يمسك الطفلة بها واستقرت في قلبه فقتلته ، وظلت البنت على قيد الحياة .

وبعد مدة طرق بابها رجل من الملاحقين المشهورين في اللاذقية يسمونه أبا عنتر أو أحمد عنتر ادعى أنه بائع كاز فأرادت أن تشتري منه ، وبينما هو يؤدي عمله سالها إن كان يستطيع أن يختبئ عندها لأنه لا يجد له مأوى فوافقت على بساطتها وأدخلته فأوته . . ولكن أمره انكشف كما يبدو فداهمت المخابرات البيت ووجدوه مختبئا في إحدى الخزائن فرشوه مباشرة وأحضروها إلى السجن . . ولما ساكوها في التحقيق عن ذلك الشخص أجابت : -ضيف .

قالوا : ضيط ؟ هذا أكبر مجرم وأنت تسكنينه في بيتك !

قالت : لأن الضيف ضيف الله ! فسالها المحقق هازئا : ضيف الله ؟ قالت على طيبها وبساطتها : إي والله ! واحد أتاني يقول لا يوجد لي أحد وليس عندي مكان ويسألني الضيافة هل أرده ! وكانت قد اتفقت معه أو اتفق معها أنه إذا سالها شخص عن سبب وجوده معها تقول بأنه خطيب أختها . . فبلغهم ذلك أيضا . . وأحضروا الأخت التي لم تكن تعلم أي شيء عن أي شيء وأودعوها السجن معنا كل الفترة ، وأتوا بأبيهما وبأخيها فسجنوهما أيضا ، ثم أفرجوا عن الأخ وتركوا الأب . ولقد تبدت طيبتها من أول لحظة دخلت بها علينا وهي تبكي بحرقة وتنتحب كالأطفال . . وكالعادة التففنا حولها وحول أختها كأية قادمة جديدة خاصة وأنها محجبة وسألناهما : – من أنتما . . ولماذا أحضراكما ؟

فقصتا علينا القصة . . فسألناهما : -ولماذا تبكيان كل هذا البكاء وهم لم يعذبوكما بعد ولكما في الإعتقال مدة ؟ قالت منى : قال لي العنصر ادخلي فلما لم أدخل بسرعة سب أبي . قالت لها الحاجة : وماذا في ذلك ؟ قالت : أبي لا يسب ! ولقد ظلت منى معنا حتى عام 85 ثم نقلوها إلى اللاذقية ، وعادوا فأرجعوها بعد سنة إلى قطنا وانتقلت معنا إلى دوما حتى خرجنا جميعا ، وأما أختها فخرجت من كفر سوسة عام 1984.


عصة القبر !

ومن نزيلات مهجعنا كذلك كانت أم ياسين ساريج السيدة التي اتهم ابنها بتنفيذ حادثة الأزبكية بدمشق أواخر عام 1981 .

وكانوا في البداية قد أحضروا إلينا صورته مقتولا وقد تمزق وجهه فلا يكاد يبين منه شيء وسألونا إن كنا نعرفه فكان جوابنا النفي ، ومرروا الصورة على كل المهاجع فلم يتعرف عليه أحد ، وفي المساء أحضروا أمه وسألوها إن كانت تعرف عنه شيئا – ولم يكن الشاب ملاحقا فقالت لا أعرف . . وعندما أروها جثته ثبتها الله فلم تزد عن أن تقول : – حسبنا الله ونعم الوكيل .

وكانوا قد اعتقلوا معها زوجها وابنيهما أيضا وكان عمر أحدهما 16 والأخر 12 سنة ، فوضعوا الأب والأولاد في الجنوبي ووضعوها في المهجع معنا، وبقيت هناك فلم يفرج عنها إلا بعد نقلنا إلى سجن قطنا .

ولا أزال أذكر أنهم عندما أخرجونا إلى “المحكمة الميدا نية ” عرض علينا رئيسها النقيب سليمان حبيب صورا من الجريدة لقتلى التفجير وهو يقول: دماء هؤلاء الأبرياء هي السبب في تشكيل المحكمة . . وهذه الدماء سنخرجها والله من رقابكم أنتم وبعد انتهاء من تلك “المحكمة” المهزلة ، وبينما كان أحد العناصر يعيدنا إلى المهجع قال لنا : – شايفين الحادثة التي صارت ، هذه الإخوان فعلوها . . ولازم تتأكدوا أن كل حادثة تحدث في الخارج ستنعكس على الذين في الداخل ! وفعلا كانوا كلما ضيقوا علينا نعلم لاحقا أن أمرا ما قد حدث في الخارج . . ونحس ذلك من منع التنفس فجأة أو إغلاق الطاقة علينا لعدة أيام . . ونتأكد أكثر من صياح الشباب الذي يتعالى وهم يتلقون مزيدا من التعذيب . . وكانت الحاجة رياض ببساطتها تقول عندها : ولي على قامتكم يا اخوان . . تعالوا شوفوا إيش صايرلنا . . أنتم تفعلون ما تريدون على كيفكم ونحن عصة القبر علينا !


سجن أم دير !

واذا كانت مشاهد السجن كلها مؤلمة وحالة السجينات وقصص المعتقلات تفيض بالأسى والمرارة فإن قصة هالة ن . قد تكون من أشد المشاهد التي رأيت إيلاما وأكثر ما سمعت وعايشت في السجن من قصص مرة . . فبينما كنت أنظر من شق الطاقة يوما شد انتباهي مشهد غير طبيعي أراه أمامي ، فالتفت إلى البنات وقلت لهن: كأنهم والله أتوا بواحدة أجنبية لا تفهم العربي ! هذا حسن يكلمها ويجذبها من كتفها وهي تنظر إليه مثل “الخوتة” ولا تفهم عليه . . لكنها تبدو أجنبية مسلمة لأنها تضع حجابا على رأسها .

كانوا قد أخرجوها كما يبدو من المنفردة إلى “الخط ” حينما رأيتها أول مرة ، وانتظرت فرأيتهم حينما أعادوها ، ثم جعلت أراهم يأخذونها ويعيدونها قرابة شهر كامل على هذه الحال : كانوا يشحطونها شحطا ويدفعونها في كل خطوة لتنتقل إلى الخطوة التالية وكأن أعصابها قد أصيبت بالتشنج ، والجمود كسا سحنتها فلا تتكلم ولا تتألم ! كانوا يأخذونها إلى التحقيق ويعيدونها سحبا كالدابة أو كالميت ، ولا تزيد هي على الحملقة فيهم والنظر حولها نظرات بلا معنى ! وبعد شهر كأنما يئسوا منها فأتو بها إلى مهجعنا . . ولا أزال أذكر لحظة أن فتح السجان إبراهيم الباب علينا وهو ممسك إياها من كتفها وناداني : هبة . . قومي استلمي . . هذه وظيفتك . ودفع بنفس المرأة إلى المهجع ومضى .

نظرت فرأيتها وهي لا تزال بحجابها ترتدي بنطالا عريضا جدا يمسح الأرض . . وملابس كلها قذرة لم تنل نصيبا من النظافة منذ زمن لا يعلمه إلا الله ! انتظرنا لحظة أن تتحرك فلم تغادر المكان الذي دفعها إليه إبراهيم وظلت واقفة عنده لا تتزحزح . . تقدمنا جميعا نحوها وسألنا بلطف : ” -ما اسمك ؟ فلم يجب أحد ! – من أين أنت ؟ لم ترد ! تقدمت الحاجة وقالت : – ابتعدوا قليلا . . والله ضبعتوها . فتأخرنا جميعا وتقدمت الحاجة فسألتها من جديد : -ما اسمك يا بنتي ؟ أجابت بصوت كأنما ينبعث من بئر خرب ونظرتها الوجلة مركزة على نقطة واحدة في أفق بعيد لا نراه ولا تتزحزح عنه : من أنت ؟ ومضت قرابة الساعة والسؤال يتردد ومحاولات استنطاقها ولو كلمة واحدة إضافية دون جدوى . . فيئسنا منها وتركناها .

ظنا : لعلها خائفة . . لندعها تهدأ بعض الشيء . وقتها كانت منيرة تستمع إلى الراديو . . وكانت عندما تلتقط إذاعة القران الكريم وعلى الأض برنامج “ناشئ في رحاب القران ” ترفع الصوت أو تعطينا الجهاز لنسمع . . وغالبا ما كنا نضه على أنبوب التدفئة ليسمع الشباب في الزنزانة المجاورة أيضا ، وما أن فعلت وقتذاك وعلا صوت طفل بالتلاوة حتى وجدنا ضيفتنا الجديدة هجمت على الراديو وقالت بانفعال : -أغلقوه . . أغلقوه . . هذا يخلط بالقران . . حرام . . كل هذا كذب وافتراء ! قلنا جميعا وقد تملكتنا الدهشة : أستغفر الله . وقامت أم شيماء فأقفلت الراديو وهي تقول بجد : -يابنات هذه فيها شيء ! لكن هالة ظلت على وقفتها لا تتزحزح ولا تتحرك ولا تغير من وضعها . . صار الليل . . بعد منتصف الليل وهي كالخشبة لا تتحرك . . وعندما حاولنا تحريكها كانت كالمسمار المدقوق في الأرض ! فلم تتمالك الحاجة نفسها ودقت الباب وقالت لابراهيم لما حضر : -يا ابني هذه المخلوقة فيها شيء ؟ ما لها يبست مكانها ؟ نريد أن ننام . . نجلس . . نأكل . . نشرب . . وهي واقفة على وقفتها ! فقال ابراهيم : لا تصدقوها . . إنها تمثل . فسألته الحاجة : وهل هي كذلك منذ أن أتت هنا ؟

قال : نعم . . لكنها تمثل . . كله تمثيل بتمثيل . . تظن أنها ستتخلص من الإعتراف والتحقيق والشيء ثابت عليها . . لكن هذا شيء تحلم فيه ! تركته الحاجة وعادت إليها ثانية فسحبتها من يدها شيئا فشيئا وأجلستها بجانبها فاستجابت وجلست . . سالناهم أن يطفؤوا الضوء ففعلوا وأتينا لننام ، ولم تمض دقائق على ذلك حتى وجدتها متربعة فوق قدمي تحدق في وجهي ، فلما رأيتها كذلك لم أتمالك نفسي وصحت برعب : -حجة . . من شان الله تعالي وخذيها ! قامت البنات كلهن وقامت الحاجة يسألنني ماذا هناك . . فنظروا ورأوها . . وعادت هي فجلست منكمشة تنظر برعب وهلع إلينا ، فجاءت الحاجة وقالت لها بالإنسانية : -تعالي لعندي وانتي ابنتي . . وجعلت تحضنها وتلفها حتى أرجعتها إلى جانبها . . وعاد الهدوء شيئا فشيئا إلى المهجع . . وفي الصباح وبعد أن أدينا الصلاة وعدنا للنوم ثانية أحست وقد غفا الجميع تدفق أنفاس بالقرب مني ، فلما فتحت عيني رأيتها فوق رأسي هذه المرة تكشف الغطاء من جانبه وتتلصص بالنظرإلي ، فلما رأيتها هكذا تخيلت أنها تريد أن تخنقني فصحت صوتا بالمقلوب ولم أعد أقوى حتى على التحرك ، فيما تحركت هي بلا أدنى انفعال وجلست على جنب وكأن شيئا لم يكن ! وكانت ماجدة قد استيقظت على الصوت فسألتها : – ماذا تريدين ؟ هل تريدين شيئا ؟ فما وجدناها إلا وقد نطقت وقالت تسألها بلهجة جامدة : -ماهذا . . هل هذا بدير؟ قالت لها ماجدة : لا . . هذا ليس بدير . . هذا سجن ! فعادت إلى صمتها وظلت على جلستها لا تتحرك .


قذيفة بطاطا !

كان حجاب هالة وثيابها حينما جاءت وسخة جدا ، وبمرور الأيام وهي على حالتها تلك ازدادت نتانة واتساخا ، لكننا كلما حاولت أحدانا أن تقترب منها أو تلامس ثيابها انكمشت أكثر ومنعتها من الإقتراب! وظلت على هذه الحال ثمانية أشهر لا تحكي ولا تأكل ولا تشرب ولا تحرج إلى الحمام ! كنا نسقيها الماء بالغصب وندس لها اللقمة في فمها دسا فتبقى فيه ساعة ولا تبتلعها ! وتقوم في الليل لتدخل الحمام فنتظاهـر كلنا بالنوم ، فتبقي الستارة مكشوفة وتجعل تراقبنا دون أن تفعل شيئا ، فإذا رأت أحدا تحرك تخرج مباشرة ولم تسحب ثيابها عنها بعد وذات يوم جلست عائشة بجانبها وأعطتها حبة بطاطا مسلوقة وهي تقول لها : -خذي . . هذه بطاطا طيبة وحلوة . . وقشرتها لها وأرادت أن تطعمها إياها ، فخطفتها من يدها بسرعة وأطبقت عليها ثم عادت فرمتها . . وكنت وقتها أغسل ملابسي في الحمام فما وجدت إلا شيئا يرتطم برأسي . . نظرت فإذا بها قد قذفتني بالبطاطا فكادت أن تشجني ، فيما وقعت حبة البطاطا في التواليت !


كي. . واعتداء. . وافتراء !

وفي مرة أخرى وبعد شهر من حضورها قررنا أن نغير لها ملابسها بأي طريقة ، وكانت طوال هذه الفترة لم يمس جسدها الماء . لكنها ظلت تنفر وتزمجر كلما اقتربنا منها ، فجاءت الحاجة وأم شيماء إليها معا وقالتا لها: – انظري . . هذه ثياب جميلة وثيابك وسخة الان . . فكشت من جديد علامة الرفض ، فتقدمت أم شيماء لتخلع عنها ملابسها ، فصاحت صوتا يا لطيف ويا ساتر . . ورفضت بكل إصرار ، فلم نجد بدا إلا أن نمزق لها ثيابها تمزيقا لنلبسها الثياب النظيفة لأول مرة ، لكن جسدها ظل وسخا وطال شعرها فكانت تحكه بأظافرها الطويلة الوسخة وتظل تحكه وتحكه بشكل مقزز حتى رجحنا أن لديها قمل ، فقررنا إعادة المحاولة وجلست الحاجة والبنات يسايرنها حتى أدخلوها الحمام . . وما أن بدأن بخلع ثيابها حتى خرجت أصواتها وارتفع زعيقها ، وهرع العناصر يسألون ما الذي يجري فقالت لهم الحاجة : لا شيء . . نريد أن نحممها فقط . . نخاف أن تجرب إن تركناها مدة أكثر .

فقالوا لها : اعلموا أنها تمثل عليكم . . هي سفيهة . . فاجرة . . وظلوا حتى خروجها وانتقالنا إلى قطنا يتكلمون عنها بهدا الكلام . . وعندما حمموها وجدوا آثار ما يشبه الكي بسيخ محمى على أرجلها وفخذيها وجسمها من الأسفل . . لكن الأحجية لم تكن لتحل بعد ، وسر هذه المرأة ظل غامضا يستعصي علينا . . وفجأة وبعد خمسة أو ستة أشهر من وجودها معنا لاحظنا أن بطنها تنتفخ وتكبر وقد بدأت تتأوه وتتألمم ، ثم لم تلبث أن فقدت قدرتها على الإحتمال . . فجعلت تصيح وتستغيث ، فشككنا أنها حامل – ولم نكن قد عرفنا قصتها بعد – وقدرت الحاجة وقتها أنها ربما كانت متزوجة من أحد الشباب وكانا جالسين معا فحدثت مداهمة لقاعدتهم واستشهد الزوج أمامها فأتتها صدمة . . وهى الآن حامل .

ولما لاحظ العناصر ذلك أيضا نقلوا الخبر كما يبدو إلى رؤسائهم ، فأتى رئيس التحقيق وسأل عن الأمر وقال من ثم لعائشة : نريد أن نفحصها فربما تكون حاملا بالفعل. فقالت له عائشة : دعنا نفعل ذلك وسوف نخبركم .

وقامت بالفعل ففحصتها بين الصراخ والزعيق الذي صرع الدنيا فوجدتها قد تعرضت لاعتداء واضح لكنه لم يؤثر عليها كثيرا وليس هناك ما يشير إلى حمل ، وظلت على هذه الحال يومين كاملين حتى ظننا من شدة الألم الذي نزل بها أن منيتها قد دنت . . فجعلنا نقرع الباب عليهم وننادي : -هالة ستموت . . نريد طبيبا . . فأتى أحد العناصر يسأل ماذا حدث ، فقلنا له إنها تكاد تموت من الألم . . فأجابنا بكل برود وجلافة :- وماذا في ذلك؟ مسموح هنا حسب القانون أن يموت 7% من المساجين ! وأمام إلحاحنا الذي لم يتوقف ونحن نراها على هذه الحال أحضروا لها آخر الأمر طبيب الفرع المخصص لا لعلاج السجناء بالطبع وإنما للضباط والعناصر ، فلما كشف عليها قال لهم : -ليس لديها شيء . . مجرد إمساك. وأعطاها تحاميل ومرهما أذكر أنني وضعتهم لها بنفسي . . وبعد قليل يا لطيف دخلت الحمام فخنقتنا الرائحة حتى كدنا نموت ! وكان نهارا لا ينسى حتى طرقت الحاجة الباب وسألتهم أن يفتحوه قليلا قبل أن نختنق جميعا !فسألها مستغربا : ما هذا . . ماذا لديكم . . ماذا فعلتم ؟ فأجابته الحاجة تضحك : فعلتها المدللة !


شويط اللحم !

والذي يبدو أن مسؤولي الفرع قرروا بعد استمرار هالة بتصرفاتها تلك القيام بمحاولة جديدة لامتحانها ، فرأوا أن يخرجوا ابن خالها السجين في نفس الفرع ويجمعوهما معا ليروا رد فعلها من اللقاء ، فسألت الحاجة مديحة رئيس قسم التحقيق أبا فهد أن يسمح لها بمرافقتها علها تستأنس وتتكلم . . ففعل .

فأخرجوهم معا إلى غرفة التحقيق بالقبو وكانت هالة وقتها قد نزعت الحجاب بالمرة وما عادت تبالي بستر أو بلباس ، فخرجت منكوشة الشعر تلبس تنورة ممزقة وتحملق في المجهول ، فما أن راها ابن خالتها بهذه الحال حتى أخذ يناديها بألم : هالة . . هالة . . لماذا تفعلين هذا بنفسك ؟ أنا ابن خالك . . وأمسكها يهزها وهي لا حياة لمن تنادي . . والمسكين يبكي ويقول لها : -يا هالة . . أنا ابن خالك . . أنا فلان . . ولكنها لم تبد أي ردة فعل ولم تظهر أية حركة ، فأتى إبراهيم وفتح باب المهجع علينا ثم جرها إليه جرا ودفعها لتدخل ونحن كلنا نراقب ما جري فما دخلت ، ووضعت يديها على طرفي الباب ووقفت مكانها فاجتمع أربعة عناصر يدفعونها تارة ويسحبونها أخرى ولكنهم ما استطاعوا أن يزحزحونها قيد أنملة . . فأشعل أحدهم السيكارة وجعل يلسع لها يدها ويزيد ويكرر حتى وصلت والله رائحة شويط اللحم إلى أنوفنا وهي لا تزحزح أصبعا واحدا وكأنها لا تحس بشيء . . فلم أتمالك نفسي أمام هذا المنظر الرهيب وصرت أصرخ بلا وعي : – منشان الله . . والله حرام . . حرام . وفي آخر الأمر تعاونوا فحملوها حملا وألقوها كقطعة من خشب على أرض المهجع وأقفلوا الباب . ولم تمض فترة على ذلك اللقاء حتى وجدناهم يستدعونها ثانية لمقابلة والدتها التي علمنا من بعد أنها دفعت مبلغا كبيرا ثمن ذلك ، وكان والد هالة قد أصيب بجلطة إثر اعتقال ابنته فنقل إلى المستشفى ولكنه ما لبث أن مات هناك بعد فترة . . وحضرت الأم الملتاعة إلى السجن وهي لا تزال متشحة بالسواد ، لكن اللقاء أثر بالسلب على الأم والبنت معا ، ففيما ازدادت صدمة البنت وقد علمت بوفاة أبيها تعاظمت لوعة الأم التي هالها أن تجد ابنتها فقدت العقل وانقلبت في تصرفاتها وشكلها أسوأ من المجانين . . فأصاب الأخرى ما يشبه الإنهيار ، ولم يستطيعوا أن يخرجوها من الفرع إلا شحطا !


وتكلمت هالة !

وانتهت المقابلة ، ولكن عذاب المسكينة وتعذيبها لم ينته ، فبعد فترة من الزمان وكان قد انقض على وجودها معنا حوالي الثلاثة أشهر كان باب المهجع مفتوحا للتنفس ، فما وجدناها إلا وقد ارتدت ملابسها وحملت حقيبتها ووضعت غطاء صلاة على رأسها وركضت بلا مقدمات خارج المهجع . . فلما رآها السجان هيثم اندفع وراءها يريد الإمساك بها فزلقت قدمه ووقع على قفاه . . وركض بقية العناصر فأمسكوا بها وأعادوها !لى المهجع .

فسألتها الحاجة: إلى أين كنت ذاهبة ؟ قالت : عيد ميلاد أمي . . رايحة أحضر عيد ميلاد أمي ! ودخل ابراهيم وقد التأم منها بشكل كبير وكانت جالسة على الأرض مثلما ألقاها العناصر فصفعها على وجهها صفعة خبطت رأسها مرتين في الجدار،ثم أمسك بهاوهويصيح : تريدين أن تخدعيننا وتهربي يا . . . وبدأ يلف يدها وراء ظهرها . . ويصفعها . . ثم يدير يدها أكثر ويصفعها . . ونحن كلنا نصيح ونستغيث . . فلا هو يرحمها ولا وهى بين يديه تتلقى العذاب تنبس ببنت شفة ! وعلى هذه الحال ظلت هالة تتعذب وتعذبنا لعذابها حتى كانت أول مرة تكلمت فيها معي حينما كانت مستلقية ذات مرة ، فلاحظت أن أظافرها قد طالت جدا فقلت لنفسي : فلأحاول معها من جديد .

وسألتها: -قولي لي يا أختي . . ما اسمك ؟ ففوجئت بها تجيبني بصوت كأنما هو قادم من عالم اخر : -اسمي على كسمي . .اسمي مخبا بنسمي ! انتفضت وأنا أصيح : حجة . . حكت . . حكييت ! .

وسألتها من ثم وأنا بين مصدقة لما أسمع ومكذبة : – ما رأيك أن أقص لك أظافرك ؟ ومددت يدي أحاول أن أمسك بأصابعها فما وجدتها إلا وقد نترتهم من بين يدي نترا قطعني من الرعب ، فانكمشت على طرف وألغيت الفكرة وما عاودت الإقتراب ! وفي مرة تالية أردنا أن نحممها ثانية فقلنا لعلنا إذا أخرجناها إلى حمامات الشباب وجدت المكان أوسع فتستجيب بسهولة ، فلما أخرجناها وأخذنا معنا بقجة ثياب . . سألت : – إلى أين أنتم تأخذونني ؟ إلى التلفزيون ! ولم تلبث أن انفجرت في الصراخ والبكاء فأرجعناها! وفيما بعد وعندما بدأت تتقبل فكرة الحمام قالت للحاجة عندما: سألتها أن تتحمم : لن أفعل حتى تخلع لي هذه ثوبها.مشيرة إلى ماجدة .

فقالت لها الحاجة! – لكنها إذا فعلت فليس لديها ثوب آخر تلبسه . . أنا عندي ثوب والله أرسله أهلي لي وما مسسته أو لبسته وهو غالي علي . . : ولم تكن الحاجة قد لبسته من قبل بالفعل فأخرجته خصيصا لها لعلها تقبل به ،لكنها لم تفعل وكررت طلبها لثوب ماجدة، فخلعته ماجدة لها اخر الأمر.. وقامت الحاجة فأعطت ماجدة بدورها الثوب الجديد!


الأحمر ممنوع والماء مرفوض

وكان مما لاحظناه على هالة أنها تخاف كل شيء أحمر اللون وتنفر منه فعند ما كانت تشاهد ضوء سخان الحمام الأحمر كنا نحس بهلعها وتوترها وكأنه يثير شيئا بأعصابها لا نعلمه . . وكانت ماجدة تضع حلقا على شكل وردة فيه حجرة صغيرة حمراء ،فكانت هالة تحملق فيه أيضا وترتسم على وجهها معالم الخوف . . فقمنا وغطينا الزر بكيس ورق ، وخلعت ماجدة حلقها وأخفته . وكانت عائشة تضع نظارات طبية ،.

فكانت هالة تحملق في النظارات فترة طويلة..وتظل تدنو من وجهها وتبتعد وتعود فتدنو تنظر كما يبدو إلى صورتها المرتسمة على زجاج النظارات ولا تمل وبعد فترة وهكذا بلا مقدمات قالت إنها عطشى . . فملأنا لها كأسا ! من حنفية الحمام حيث نشرب كلنا،فنظرت إلينا هكذا جميعا وقالت بترفع.”

-هل يسقي أحد بوله للثاني ! فقالت لها الحاجة :طيب . . سنأتي لك بأحسن كأس ماء في السجن كله وطرقت الباب فجاء أبو عادل يسأل ما الأمر، فقالت له الحاجة نريد كأس ماء للست هالة . . تريد أن تشرب .

– قال مستغربا:ألايوجدلديكم ماء؟ فأجابته الحاجة : الماء الذي لدينا لا يشرب مع هالة ! فذهب وأتى لها بكأس ماء أعطتها الحاجة إياه ،فنظرت في ثم فينا وقالت: هذا وسخ وبصقت فيه فسألته الحاجة أن يأتي بآخر ففعل ،ولما قدمته لها فعلت الشيء نفسه . .وعادت الحاجة فرجته أن يجلب لها كأسا آخر فاستجاب أيضا وكأنما اندمج في هذه التجربة المثيرة ! لكن الفعل تكرر وعاد فتكرر حتى اجتمعت أمامها سبع كاسات مصفوفة بصقت فيها جميعا وماشربت ولاقطرة! ومرة أخرى وفي إحدى جلسات التسلية كنا نمثل على أننا مثل اللاجئين الفلسطينيين نرسل سلامات لأهلنا عبر الراديو . . فكانت كل واحدة منا تعبر عن مشاعرها وأشواقها بهذه الطريقة ، فكانت الحاجة رياض تقول -أهدي سلامي إلى أمي . . يا حنونتي . . إيش عم تعملي هلق .ا أى أنك جالسة تنشقي وتبكي . . وتنخرط في البكاء . . فتبدأ المناحة ويبدأ الكل في البكاء على  ! أثرها. .فسألناها مرة: – هالة . . ألا تريدين أن تشاركي معنا في الإذاعة؟ وقالت لها أم شيماء: هيا هالة . .أنشدي لنا نشيدا.

فما وجدناها إلا وقد انبلقت مرة واحدة تنشد”توحيد ربي .- ومضت بها فما توقفت حتى نهاية النشيد وجاء السجان وقال : ما هذا؟ عاملين مولد نبوي فقالت له الحاجة : دعنا الآن بحالنا . . أغلق الطاقة واذهب الآن. وكأننا بفرحتنا بكلامها قد ولد لنا أول مولود، فجلسنا نحمد الله أنها نطقت وكسرت عن نفسها حاجز الصمت آخر الأمر