أرشيف شهر: مارس 2021

المسرح السياســـي – د.ادريس الذهبي

1- توطئـة :
يعتبر سعد الله ونوس أحد أهم الدراميين العرب، الذين تفرغوا للعمل المسرحي تأليفا وإخراجا وإدارة فرقة مسرحية، والذين حملوا أعباء تأصيل المسرح العربي من خلال الأبحاث الدؤوبة وقنوات التجريب المستمر، ومواكبة القضايا العالقة، وحملوا هموم وآلام وطنهم وأمتهم. فهو ” ظاهرة المسرح العربي ا لحديث بامتياز، لأنـه صوته وفعله ومهندس رؤيته في تاريخ الدرامة العربية، وفي تاريخ التقاطعات العنيفة العربية بين واقع يتأسس على تناقضات ترمي به في متاهات الترفيهية والمجانية، وبين مسرح يحضر الثقافة في هذه التناقضات بهدف خلخلتها ليصعد بها إلى مستوى الفعل الثقافي الواعي بدور الصوت والفعل والرؤية البديلة في هذه الحتمية …(1) ، لقد عايش ونوس أحداث بلاده سوريا سواء على الصعيد الوطني أو القومي، بكل أحاسيسه ومشاعره، وتفاعل معها، مما انعكس على تكوينه النفسي والجسدي معاناة وحرقة، كما انعكس على حسه الفني قلقا وإبداعا.
وإذا كان الدكتور يوسف إدريس قد انطلق، في محاولته التأصيلية، من الدعوة إلى العودة إلى الشخصية الفرفورية، والانطلاق من حلقة السامر الشعبي في كتابه “نحو مسرح عربي،” فإن سعد الله ونوس انطلق من الدعوة إلى “المسرح التسييسي”.
فإلى أي حد يتمظهر التسييس في مسرح ونوس ؟. وأين تتجلى تنظيراته في تطبيقاته المسرحية ؟
المسرح فن سياسي، هكذا نشأ وإن كانت نشأته مرتبطة بطقوس الأديان البدائية أكثر من ارتباطها بأي نشاط سياسي مباشر. لكن الطابع السياسي للمسرح يجب أن يفهم من

حيث قدرة هذا الفن على الاستجابة لمتطلبات الحركة التاريخية للمجتمع. والدلالة السياسية هي الدلالة الأولى الأكثر شمولا لهذه الحركة التاريخية.
والمسرح، مثل كل الفنون الأخرى، يستطيع دائما، وفي صورة جادة أن يكون مصدرا يمد الإنسان بالطاقة الروحية والوجدانية التي يتزود بها في معركته المستمرة من أجل التطور والانطلاق. وقد كانت له جذور مباشرة في رومانسية القرن التاسع عشر. فهو بمعنى أوسع نتيجة حتمية لعملية تمهيدية طويلة، بدأت في العصور الوسطى؛ فمن فوق سقوط الطبقات الاجتماعية القديمة وأشلاء القيم البائدة وخرائب الأصول والأسس المنهارة في الثقافة التقليدية، يقف كاتب المسرح السياسي الحديث ليمعن التفكير في التمرد وفي واقعه الاجتماعي والسياسي، لأنه لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور من تلقاء نفسه، ولكن من خلال عمل الإنسان فيه وتطلعه الأبدي إلى حل ما تطرحه عليه الحياة والوجود من قضايا ومشكلات.
وفي القرن العشرين” ظهر في أوروبا مصطلح مسرحي جديد، هو المسرح السياسي. وإذا حاولنا تعريف المسرح السياسي بأنه المسرح الذي يتعرض لقضايا سياسية، نكون كالذي عرف الماء بعد الجهد بالماء .” (2)
ويمكن تتبع خطوات المسرح السياسي عالميا قبل النظر فيما وصل إليه العرب في هذا الميدان.

2-المسرح السياسي العالمي :
2-1- المسرح الروسي :
نشأت بعد ثورة 1917 مجموعات مسرحية تعليمية معظمها من العمال والطلاب، كان هدفها دعائيا سياسيا. ذلك أن المسرح والأدب كله ” كان وما زال في أحد مظاهره سياسيا؛ أي أننا إذا ا تفقنا على تعريف السياسة بأنها مجموعة الأفكار أو الفلسفة التي تشكل نظرية الحكم التي يتم في ضوئها تنظيم علاقات الأفراد والمجموعات في المجتمع وفق قوانين وقيم معينة تحكم توزيع السلطة والمال وتحديد الأدوار ومناطق التحرك للأفراد والجماعات …(3) فإنه لم تكن هذه الحماسة المسرحية في الاتحاد السوفياتي بعد ثورة1917 صدفة أو انفعالية، لكنها راجعة إلى أن الثورة الجديدة قد غيرت من الوضع القائم، وفرضت مضامين جديدة كان من شأنها أن تفرض أشكالا مسرحية مناسبة لمضامين الثورة ومناصرة لها. ومن أهم هذه المجموعات المسرحية “جماعة القمصان الزرقاء” التي تطرح المفاهيم الاشتراكية الجديدة بشكل سياسي مقنع.
ولكن أحداث الثورة الاشتراكية الأولى في روسيا، قد ولدت ومعها مسرح المظاهرة السياسية أو مسرح “الجريدة الحية ” التي يجوز القول بحسب رأي الدكتور إبراهيم حمادة إنها نشأت في باطن ثورة أكتوبر الروسية حيث الظروف العامة التي أعقبت الحرب العالمية الأولى(4). وكان من نتيجة تأثير”الجريدة الحية ” في روسيا أن ظهرت بألمانيا صيغة درامية مشابهة، ثم انتقل هذا الشكل المسرحي إلى أمريكا.

2-2 – المسرح الألماني :
قبل نشوب الحرب العالمية الأولى، عمل جيل الكتاب التعبيريين على تمهيد السبيل لوجود مسرح سياسي. وذلك عندما أنشأوا ما سموه “بالمسرح الشعبي” . عرف المسرح الألماني بعد الحرب مسرحيات “الإثارة والدعاية”، بل إنه قدم صورته المعدلة للقمصان الزرقاء باسم “القمصان الحمراء” (5)، وأخذ العمال في أول الأمر عنصر المبادرة في أيديهم بألمانيا عام 1919″(6)، كما عمل الحزب الشيوعي الألماني على تكوين جماعات مسرحية، بمثابة فروع للحزب، تعمل على إثارة الوعي الاجتماعي بين طبقات الشعب. وقد كانت تشترك مع المسرح الملحمي في “أن كلا منهما مسرح غير واقعي بطريقة لا تقبل الموازنة، فلم يحاول أحدهما خلق أي إيهام بالواقع سواء في المتن أو مكونات العرض المسرحي.
والواقع أن الصحف الحية في ألمانيا ومسرحياتها، لم تطرح جديدا على الشكل الملحمي الذي كان يتزعمه (برتولد بريشت) Bertold Brechtخاصة عروض (بسكاتور) Piscator في العشرينيات، في حين نجد أن بريشت في كتابة أعماله التي هاجم فيها النازية مثل “صعود وسقوط أرثووي” اعتمد على حبكة غير درامية، وتكاد تكون سردية تماما؛ حيث يحكي قصة سيطرة الحزب النازي على السلطة في ألمانيا متحالفا مع قطاعات معينة من الرأسمالية الاحتكارية الألمانية، كما جسد بشاعة الحرب الاستعمارية على الشعب، وأضحى الصراع في مسرحياته “هو الصراع بين الطيبين” “والأشرار” ، وبين الخير المطلق والشر المطلق بالمفهوم الملحمي، لكي يكشف عن البعد السياسي والاجتماعي لهاتين القيمتين المجردتين، وعن معناهما التاريخي المستمد من القضية التحررية التي يدور حولها الصراع نفسه”(7)، وهكذا يجد المسرح الغربي نفسه مضطرا إلى اكتشاف أشكال وأساليب جديدة لمعالجة المسرحية بموضوعات سياسية؛ ذلك أن السياسة بأوسع معانيها –أي اعتبارها المحيط الفكري والإجتماعي الذي يتم في إطاره الصراع الدرامي- تمثل فرضية أساسية في الدراما على مختلف أشكالها وفي مختلف عصورها (8)، و نجد التشيكوسلوفاكي (كارل تشابيك) CarlTchabik يعود إلى الشكل التقليدي في مسرحية “الأم” التي يجسد فيها بطولة أم تشيكية تضحي بأبنائها في مقاومة الغزو، كما نجد المسرحي الألماني( بيتر فايس) Peter Vais يلجأ إلى شكل تقليدي تماما في مسرحية “التحقيق”، ومادته كلها مستمدة من محاضر التحقيق مع مجرمي الحرب العالمية الثانية من النازيين، لكي يفضح جرائم النازية من ناحية، و التواطؤ المخزي بين الماكارثية الأمريكية الجديدة وبين النازية المهزومة من ناحية أخرى.
وعندما نتحدث عن “المسرح السياسي” يتبادر إلى أذهاننا منذ الوهلة الأولى، ذلك النوع من المسرح الذي ازدهر في ألمانيا أعقاب الحرب العالمية الأولى، أوفي أمريكا إبان أزمة 1929 الاقتصادية، حيث جاء محملا بوعي سياسي كبير، متوسلا بأساليب فنية جديدة سواء في أسلوب صياغة هذه الرسالة أدبيا أو في أسلوب عرضها على المسرح. غير أن هذا لا يعني أن هذا المسرح لم يكن منذ بدايته يحمل رسالة سياسية في طيات رسالته الفكرية؛ بل إننا نخطئ إذا توهمنا أن الأدب في كل صوره، وعلى اختلاف مذاهبه الفنية، لم يكن يعبر في المقام الأول عن رؤيا سياسية(9).

2-3-المسرح الأمريكي :
يعد المسرح السياسي وجها من وجوه المسرح المعاصر، لأنه دائم التطور والانطلاق، وللحقيقة والتاريخ لم يشهد العالم لفرقة مسرحية – تبنت موضوعات المسرح السياسي كما شهد لفرقة المسرح الأمريكية Theliving thestre ؛ تلك الفرقة التي أثارت اهتماما كبيرا في الأوساط المسرحية العالمية ، إذ وضعت –في مدى عمرها القصير –بصمات حقيقية في حياة المسرح الطليعي المعاصرعلى نحو جعلها تتمتع بلقب الفرقة الأم لسائر الفرق الطليعية في أنحاء الولايات المتحدة. لقد نالت هذه الفرقة شهرتها لما استحدثته من أساليب ، وما أبدعته من أفكار فاقت ما أنتجه غيرها من الفرق المسرحية المماثلة (10).
لقد ظهرت مسرحيات الصحف الحية في الثلاثينات(11) ، وتحديدا في عـام 1935. ويمكن القول إن المسرح الذي يندد بالحروب ويدعو إلى السلام ، ويعمل على إدانة المجتمعات الرأسمالية وفضح المجتمعات الاستهلاكية قد تأثر بصورة مباشرة وإيجابية بتعاليم (بسكاتور) ثم (بريشت)، وإلى جانب هذا نجد مسرحا سياسيا أمريكيا يتجسد في الجماعات المسرحية التي “تؤيد التغيير الاجتماعي وتكتب مسرحياتها بشكل جماعي”(12) مثل فرقة سان فرانسيسكو التي كان هدفها هو دفع الناس للتمكن من التحرك لتغيير المجتمع بمساعدة الفنون لتكون رؤية لحياة أفضل، ومثل هذه الجماعات منتشرة ومتعددة وكل واحدة منها تختار طريقة حياتها. ناهيك أن المسرح الحي ” يدعو مشاهديه للغوص في أعماق القلق الإنساني، وإلى بنية مسرحية تتبع أسلوب بيراندللو، الذي يقلد إنتاج الأفلام، لكن ذلك لن يسبب سوى حصر الجمهور في المسرح …” (13).
2-4- المسرح السياسي العربي :
بدأ المسرح السياسي العربي مرحلته الجديدة بعد نكسة 1967 ،عندما وجد نفسه مواجها بسؤال كبير: ” من نحن؟ إلى أين؟ كيف؟ وهذا يؤكد أن المسرح أداة ثورية بالغة الأهمية، من أجل تجاوز الهزيمة والتمزق والتخلف” (14)، ولكن هذا لا ينفي أن ميلاده الأول كان في بداية الثلث الأخير من القرن الماضي في أحضان المقاومة، منذ كتب يعقوب صنوع أولى مسرحياته مهاجما الاستبداد الخديوي أو التدخل الأجنبي. لكن المسرح السياسي العربي كان بحاجة إلى فترة طويلة نسبيا لكي ينضج فنيا، وينشط العقل للتفكير والتأمل دون أن يحده أو يكبله. وقد تحقق له ذلك بعد الحرب العالمية الثانية وبالضبط بعد نكسة يونيو 1967 هذه النكسة التي ” مرت أنواع من المسرحيات التي من شأنها أن تؤلم وتعذب الذات العربية كما أنها أسهمت إلى حد كبير في إبراز الشخصية النضالية للإنسان الفلسطيني”(15)، وذلك في صورة الفدائي الذي يولد مع الشعب بكل معاناته وآلامه، وبكل خبرته ووعيه في مجتمع يسوده البؤس والفقر، فلم يكن بطلا أسطوريا وتمثالا جامدا بل إنسانا صاحب قضية يعي أبعادها تماما، وقد اكتشف الطريق الذي يوصله إلى تحقيق أهدافه لاسترجاع حقه.
وهكذا فالنكسة حولت المسرح، بشكل خاص، نحو مرحلة جديدة تنحو بصورة أو أخرى نحو الإشتراكية، متأثرة بالمسرح الملحمي في أوروبا. وهي لا تقدم أحداثا منفصلة بل مشكلة تتكون من عدة أخبار يربطها جميعا نمط كلي واحد يوفر لها أثرا عاما واحدا مستخدمة الإذاعة والفيلم كحدث، وتقيم علاقة جدلية مع المتلقي كعنصر مشارك في الحدث المسرحي، “وكمواطن يعنيه حلها بشكل مباشر”(16)، كما كانت هناك مسرحيات تعرض في الشوارع وحيث تجمعات العمال خارج بوابات المصانع بهدف التغيير.
والمسرح الحي، على الرغم من أنه لا يرتبط بنظام سياسي من حيث نشاطه، ومن حيث قضاياه المطروحة، إلا أنه يعمل على إدانة المجتمع الرأسمالي، ويرفض نصوصه المسرحية، ويسعى إلى تحرير الإنسان على كل المستويات. وعن المضمون في المسرح الحي يرى سعد أردش أنه يتجه نحو أسلوب التعبير الساخر، ولا يخشى التعابير التي تعتبر منحطة وقبيحة. وقد كان الدافع الأساسي لظهور هذا النوع من المسرح في أمريكا لأن الأزمة الاقتصادية قد جاءت لتفتح عيون البعض على ضرورة الالتزام، ففتحت عيونهم على ضرورة ظهور مسرح جديد يتناول المشاكل الجديدة ويجسدها، حيث كانت البطالة سائدة في كل مكان ولم تعد الطبقة العاملة سوى كتلة ميتة لا حاجة بالكاتب للنظر إليها أو استخدامها كمادة للخلق الفني. ومن الأدوات التي كان يستعملها هذا النوع من المسرح لتوضيح قضيته المراد طرحها، وأخذ موقف منها، الشكل الملحمي ويستخدم مكبر الصوت والصور المعروضة على الشاشة الخلفية للمسرح، والإعلام والإضاءة الخاصة، وعلى تغيير المشاهد السريعة في كثير من الأحوال عن مذهب الفن للفن، وإن لم يفعل فعله المطلوب في تغيير العقلية العربية. كما خضع هذا المسرح في هذه الفترة لمراجعة أساسية، واتخذ طريقا لرؤياه محاولا إعادة اكتشاف الواقع العربي والإسهام في تغييره؛ بدءا برسم الحاضر بكل تناقضاته لتحديد أفق المستقبل بنظرة مغايرة لما كان سائدا قبل الهزيمة. فبدأ المسرح يستفيد من منهج التداخل و المباعدة، والإغراب وكسر الحائط الرابع، كالاتجاه نحو المسرح الملحمي البريشتي كما في مسرحية “حفلة سمر من أجل 5 حزيران” لسعد الله ونوس، “والنار والزيتون” لألفريد فرج و”وطني عكا” لعبد الرحمان الشرقاوي و”أغنية على الممر” لعلي سالم، و “ثورة الزنج” لمعين بسيسو و”بلدي يا بلدي” للدكتور رشاد رشدي، ومثل تجارب مسرح ” الشوك”، ومسرح “الشعب” في حلب، ومسرح “القهوة” في مصر، وتجارب مسرح “الهواة ” في المغرب. ولكنها كانت أمرا طبيعيا ومنطقيا جاء نتيجة التحولات الجديدة في المجتمع بعد النكسة، حين بدأ المثقفون والمسرحيون يفتحون أعينهم على الواقع، وبدأت رحلة البحث عن الذات العربية، وعن حقيقة الواقع العربي الذي نعيشه.
ونعود للحديث عن مسرح الشوك، كشكل من أشكال المسرح السياسي التحريضي، الذي تأسس على يد الفنان المسرحي عمر حجو، وشاركه عدد من الفنانين الشبان وعدد من الفنانين النجوم مثل دريد لحام ونهاد قلعي، وقد اتخذ هذا المسرح شكل الكباريه السياسي الذي يستند في تقاليده إلى تقاليد المسرح الشعبي في الأرض العربية “فهو لا يقدم عرضا مسرحيا متكاملا، ولا يهتم بالأصول الدرامية العلمية”(17)، وإنما يهتم أولا وأخيرا بالنقد والتحريض الاجتماعي وكشف الأخطاء رغبة في العلاج ومساهمة في الوصول إلي التغيير نحو الأفضل بمبدئه الذي يتمثل في “كثير من السياسة قليل من الفن”؛ وذلك لأن هدفه الإنساني هو السياسة. ويأتي الفن المسرحي في المرتبة الثانية، كما يعتمد مسرح الشوك على تقديم الأخطاء والعيوب بأسلوب “الكاريكاتير” مضخما الأخطاء ويطرحها بشكل يثير النفور، لأن تلك الأخطاء ما أن تتجسد وتظهر حتى تفضح. وفضحها هو الخطوة الأولى نحو الخلاص منها وتغييرها. وهنا تتمثل المهمة الأولى، المهمة الإنسانية لمسرح الشوك، “وهي با لضبط فضح الأخطاء الموجودة في المجتمع وتسليط الأضواء عليها تسليطا يشتمل على التحريض ويعمل على محوها”(18). وهكذا، فهو مسرح يشخص المرض أو العيب الفردي أو العيب الاجتماعي ويترك للمشاهد دوره في العثور على الدواء، باعتباره أي المشاهد جزءا من العرض المسرحي مشاركا فيه بيقظته بما يجري أمامه. ومن هنا تأتي مسؤولية المشاهد في العمل على تغيير الواقع السياسي أو الإجتماعي أو الإقتصادي نحو الأفضل،” فالقدرة على تغيير الواقع موجودة داخل الإنسان المتفرج، كما أن السلطة تملك الوسائل القادرة على التغيير. وهاتان القوتان المتفرج، والسلطة، هما المسؤولان الأساسيان عن تبديل الواقع”(19).
يبقى مسرح الشوك مجرد صورة لما يمكن أن يقوم به المسرح السياسي، كمنبر للنقد السياسي الجاد. “فهو صيغة سورية مثل المقاهي المسرحية والمسرح الحي في الغرب، وقد يكون تطويرا ذكيا لفكرة الاسكتش الفكاهي التقليدي أو احتفالا فنيا جماعيا لصالح المجتمع”(20). وهو أقرب ما يكون إلى الجماعات المسرحية ومسرح الصحف الحية في أوروبا وأمريكا من حيث اعتمادهم على فكرة النقد السياسي والاجتماعي المباشر والشجاع، لأن أروع ما في الموضوع هو الفكرة ذاتها، فكرة النقد الاجتماعي والسياسي المباشر عن طريق مسرح الشوك. وهي وظيفة عتيقة للكوميديا أحياها مسرح الشوك بعد موت طويل. وأبرز ما حققه مسرح الشوك هو الشكل المسرحي الجديد. والنجاح الحقيقي لفرقة مسرح الشوك هو نجاحها في أن تشغل الجمهور بمشاكله الحقيقية. وهكذا، ومن منطلق ذلك المضمون السياسي الاجتماعي التحريضي يأتي الشكل الجديد والطليعي لمسرح الشوك كمسرح سياسي، ومن أشهر عروض مسرح الشوك عرض “لا تسامحونا” للمخرجين فيصل الياسري، وعلاء كوكشي، وعرض في عام 1972 وعرض “ليلة ما بتتعوضش” وعرض “مرتي مناعة محلية” .وفي تلك العروض نجد اللوحة الانتقادية ذات الهدف السياسي والاجتماعي المباشر إضافة إلى الثوب الشعبي الدرامي. أما أجرأ عروض مسرح الشوك، فيتمثل في تجربة المخرج والممثل السوري أسعد فضة، الذي تأثر كثيرا بمسرح الجريدة الحية عندما عرض مسرحية “براويز” . ويتضح من هذا العرض أن الحيوان يرفض أن يستمر في مجتمع به كل هذا التناقض وهذه الانتهازية. و من خلال الضحكة السوداء يعمل على إلقاء الضوء على هذه الأوضاع لتنبيه المشاهد إلى هذه السلبيات، فيعمل من خلال هذا الدرس على التغيير نحو الأفضل.
تهتم جميع هذه العروض أو معظمها أساسا بالناحية السياسية، والتي تكون مباشرة في أغلب الأحيان أكثر من اهتمامها بالناحية الدرامية.وتقر على أن ” للمسرح علاقة بالسياسية ، وأن المسرح لا يستطيع أن يدير ظهره للأحداث السياسية القائمة في مجتمعنا” (21) ونشير إلى مسرحية “كأسك يا وطن” لدريد لحام التي، بالإضافة إلى السخرية في مختلف الميادين، تشير بشكل مباشر إلى مأساة فلسطين، وكيف أن الآباء قد خرجوا من قبورهم ليسخروا من جيلنا الحالي، الذي أضاع فلسطين وراح يحررها على الورق أو بالشعارات فقط. ومسألة خروج الآباء والأجداد من قبورهم خصوصا القواد الذين تركوا بصماتهم وانتصاراتهم علامات مضيئة في التاريخ العربي، مسألة مكررة في معظم العروض المسرحية السياسية التي تلجأ إلى البعد الزماني كمسرحية “المهرج” لمحمد الماغوط.
وفي الوقت الذي كانت تعرض فيه عروض “مسرح الشوك” في لبنان وسوريا، ظهرت تجربة مصرية تحريضية أيضا واتصلت اتصالا وثيقا برجل الشارع. وكان لها دورها المؤثر والحاسم في جبهتها الداخلية في ظروف معركتنا الحضارية بعد نكسة يونيو 1967 ونقصد بها تجربة “مسرح القهوة، ” والتي قدمها ناجي جورج كمؤلف شاب مع مجموعة من الشبان المتحمسين مسرحيا وسياسيا. فقدم مسرحية “إني أعترض” في مقهى المعلم أبي الهول التي لا يستغرق عرضها أكثر من خمس وأربعين دقيقة، وتدور أحداثها في أحد مقاهي السويس أو الإسماعيلية كخط مواجهة لنيران العدو الإسرائيلي صارخا في المسرحية نوعين من النماذج : الأول نموذج السلبي الانتهازي، والثاني نموذج “الوطني ابن البلد”. وينتقد العرض النظام الرأسمالي الانتهازي الذي لا يهمه إلا زيادة ثروته. ويتمثل هذا النموذج في المعلم “أبو الهول” والمسرحية باختصار ـ رغم حشدها للنماذج البشرية ـ تدعو إلى الخروج لملاقاة العدو الذي يتربص بالأمة العربية، وألا تنتظر حتى يأتي إلينا، ساخرة من البرجوازيين المثقفين الحالمين الذين ليست لديهم القدرة على الفعل. والمسرحية تكاد تقول بشكل مباشر “إن معركتنا مع العدو يجب أن تكون على مستوى الشعب كله”(22)، ورغم ما يمكن أن يؤخذ على العرض من بعض السلبيات إلا أنه استطاع أن يحقق التلاحم والمشاركة، ومخاطبة عقل المشاهد إلى جانب وجدانه، ” فلم يكن جمهور المقهى هو ذلك المتفرج السلبي ولكنه كان مشاركا في العرض يمثل دور المتفرج من خلال التحام خشبة المسرح بالصالة”(23) . وهكذا اكتسب الجميع حالة التمسرح، من خلال مقارنة أدوار أبطال العرض بالمشاهدين، الذين تمثلوا أنفسهم مكان الأبطال، مشاركين أحيانا في الحوار، بل في الفعل المسرحي. لهذا لم يكن غريبا أن يهب أحد المشاهدين ليطالب بفتح الباب وإنقاذ الفتاة البائسة التي كان المعلم قد تركها خارج مقهاه وقت الغارة خوفا على ممتلكاته.
ويمكننا طرح العديد من النصوص، كمسرحية “البعض يأكلونها والعة” التي كتبها نبيل بدران وأخرجها من مصر هاني مطاوع، ومسرحية “عضنا الجوع وغربه” فالمعنى الاجتماعي، أو السياسي لا يأتي من خارج العملية الفنية ذاتها، وليس مفروضا على الفن من خارجه، يأتي إليه من نظرية اجتماعية أو سياسية مثلا، ليصبح هو المضمون في العمل الفني، وإذا ما حدث مثل هذا، يصبح (الفن) في العمل الفني مدركا نظريا سالفا على العمل الفني ذاته. وهذا خطأ كبير يقع فيه التفكير المسرحي الحديث ، ويمكن التدليل على ذلك بالعديد من المسرحيات التي كتبها منظرو الحركات السياسية في العالم العربي فخرجت كتابا تهم ساذجة فنيا، أقرب إلى المقال السياسي، منها إلى المسرح السياسي. فالعلاقة بين عالم الواقع وعالم المسرح مشروطة بمدى قدرة المتفرج على أن ينتقل من عالم الواقع إلى عالم الاحتمال، والمتفرج يتقبل هذه النقطة، بل إنه يجد نفسه منغمسا في عمليتها، لأن عالمه الواقعي هو في حد ذاته عالم الاحتمالات.
وعليه، يمكن القول إن عالم الواقع مختلف تماما عن عالم المسرح، ونحن كمشاهدين لعالم المسرح قد نتخبط، على مسرح الشعارات البراقة والجوفاء، التي تساهم في التشويش، وتعتمد على الكلمة الصارخة، لأن هذا في حد ذاته، إلى جانب كونه ضد العملية الفنية، فإنه قد “يفرغ الناس من قدراتهم على التمييز والمحاكمة والاستيعاب”(24). وليس المقصود أن هذا الرأي ينطبق على مسرح التحريض والإثارة أو المسرح الملحمي أو التسجيلي، لكنه ينطبق فقط على تلك المنشورات السياسية، والتي يطلق عليها أصحابها ـ تجاوزا ـ اسم مسرح سياسي “فالفكرة والواقع المادي في تفاعل دائم، وأن الفكرة تشكل الواقع، بقدر ما يشكل الواقع الفكرة، فالعمل الفني ليس خادما للواقع بل رائدا، وأستاذا”(25).
ولقد عرفنا أن خاصية الأعمال الفنية الكبرى تعمل على إثارة القلق لدى المشاهد ، ومساعدته على الوعي بالواقع والعمل على تغييره وتبديله، وإذا كان لا يثير التمرد، أو يهدي الدفعات العنيفة، فهو يعمل في اتجاه الرغبة في التحول وذلك يقطع متناقضات الواقع سواء أكان سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا .
يقوم المسرح السياسي على الرغبة في انتصار نظرية مرتبطةباعتقاد جماعي، في أفق تحقيق مشروع فلسفي طموح وهادف(26).


الهوامـــــش

1-د.عبد الرحمان بن زيدان –مسرح سعد الله ونوس ، شهادات مقلقة حول وعي الذات بالواقع – سعد الله ونوس ، الإنسان/ المثقف/ المبدع، دار كنعان للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 2000.
2-د. نهاد صليحة – المسرح بين الفن والفكر– الهيئة المصرية العامة للكتاب 1986ص. 97.
3-المرجع نفسه.
4-د. ابراهيم حمادة ـ آفاق في المسرح العالمي ـ المركز العربي للبحث والنشر، ط.1 ، 1981.
5-د. عبد العزيز حمودة ـ المسرح السياسي ـ مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1971.
6-المرجع نفسه.
7-سامي خشبة ـ قضايا معاصرة في المسرح ـ دار الحرية للطباعة بغداد،1972.
8-د. نهاد صليحة – المسرح بين الفن والفكر – مرجع سابق.
9-أمين العيوطي – المسرح السياسي – مجلة عالم الفكر، المجلد الرابع عشر، ع4، يناير/فبراير/مارس، 1984.
10-أحمد زكي – المسرح الحي مسرح سياسي – مجلة فصول، المجلد الثاني ، ع 3، أبريل/ مايو/ يونيو ، 1982.
11-د.ابراهيم حمادة ـ آفاق في المسرح العالمي ـ مرجع سابق.
12-نبودور شانك ـ المسح السياسي الممثلون و المشاهدون ـ ترجمة نيودلهي راكيش،1979.
13-فرانك جوتران – المسرح الأمريكي الجديد – ت: ولي الدين السعيدي ، دراســـات نقدية عالمية ” 18″، منشورات وزارة الثقافة، دمشق سوريا 1998.
14-أحمد العشري –المسرح التحريضي، الإثارة والدعاية –مجلة عالم الفكر ، الكويت عدد 1 أبريل /مايو/يونيو/ 1987 .
15-د. عبد الرحمان بن زيدان ـ أدب الحرب في المغرب ـ مجلة فصول المجلد2، ع1 ،1995.
16-د. ابراهيم حمادة ـ أفاق في المسرح العالمي ـمرجع سابق.
17-سعد أردش ـ المخرج في المسرح المعاصرـ مجلة عالم المعرفة عدد 19، الكويت، 1979.
18- مسرح الشوك إضحاك أم تحريض على التغيير-حوار مع دريد لحام مجلة الموقف الأدبي، ع.1، س.2 . 1992.
19-المرجع نفسه.
20-بهاء طاهر ـ المسرح والجمهور ـ مجلة المسرح، القاهرةع 4. يونيو 1969.
21-حوار مع : سعد الله ونوس، أجراه : نبيل حفار – مجلة الطريق، ع 2، أبريل /ماي 1986.
22-محمد بركات -مسرح القهوة تجربة جديدة وجريئة -مجلة المسرح القاهرة، يوليــوز/ غشت، ع73 ، 1970.
23-المرجع نفسه.
24-علي عقلة عرسان ـ سياسة في المسرح ـ منشورات اتحاد الكتاب، دمشق، 1978.
25-شكري عياد ـ تجارب في الأدب والنقد ـ دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967.
26-أحمد بلخيري-معجم المصطلحات المسرحية –مطبعة سندي مكناس ، ط 1 ، 1997.

فى الألفية الثالثة

المسرح السياسى بين الانتقاد والتحريض

يكتمل العرض المسرحى إلا بالحضور الجماهيرى، فالجمهور شريك أساسى فى هذا الفعل وليس فقط مجرد متفرج.. والمسرح الذى يتوجه دائماً للإنسان ويعبّر عن قضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هو مسرح سياسى فى كل صوره المختلفة حتى لو كان يطرح قضايا ذاتية، منذ التراجيديات الإغريقية الكبرى التى جسدت صراع الإنسان مع القدر والتى لا تخلو أيضاً من السياسة، لأنها تطرح مأساة الإنسان وصولاً إلى عروض المسرح السياسى فى عصرنا الحديث. فالمسرح ارتبط بالسياسة منذ نشأته وعبر تاريخه من خلال التوجه إلى جماهير عريضة ومروراً بكل الصيغ والأشكال التى عرفها الجمهور.

فما أطلق عليه فى العصر الحديث  “political theater” كان موجوداً فى صيغ مسرحية عديدة قبل اعتماد هذ المصطلح، أهمها المسرح الشعبى، والمسرح التحريضى.

لذلك اعتبر البعض أن المسرح كله سياسى، بل ويمكن أن نعتبر أن فعل التوجه إلى الجمهور وشكل التلقى الذى يفترضه المسرح سياسة أيضاً، حتى وإن كان لا يحمل مضمونا سياسيا، فهناك دائما محاولة لخلق مسرح يربط بين الفن والسياسة ويعطى للمسرح دوراً تحريضياً يتوجه – فى الغالب – للطبقات الشعبية.

لكن علينا أن نفرق بين المسرح الذى يندرج بوضوح تحت مسمى المسرح السياسى، وهو الذى يتناول القضايا السياسية بشكل مباشر، وبين المسرح الذى يطرح قضايا اللحظة الراهنة وأسئلة الواقع أو مأساة الإنسان عبر العصور، فالنوع الأول ليس فقط يحتاج إلى كتابة يتحقق من خلالها شرط المسرح السياسى بل أيضاً صيغ الإخراج والتمثيل التى تعتمد على كسر الإيهام واستخدام أساليب المسرح السياسى مثل الكباريه، والريفيو، وغيرهما، ليتحقق الهدف من تقديمه فى التحريض وإثارة الجماهير. أما النوع الثانى الذى يطرح قضايا عامة ورؤية لا تخلو من الإسقاط السياسى فيتم تقديمه بصيغة المسرح التقليدى، الصيغة الأرسطية التى تتوحد فيها الصالة مع الخشبة من خلال تحقيق شرط الإيهام.

وعربياً، ارتبط المسرح بالسياسة وارتبطت السياسة بالمسرح منذ النشأة فى مصر وسوريا ولبنان، ليس فقط لأنه نشأ فى زمن الاستعمار، بل لأن كل الظواهر المسرحية الشعبية التى مهدت لاستقبال هذا الفن فى الوطن العربى يغلب عليها الطابع السياسى، مثل فن الأراجواز وخيال الظل والبابات والمقامات. وعلى الرغم من الطابع الغنائى للمسرح حال ولادته فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر فإن السياسة كانت لها الكلمة العليا، السياسة التى أغلقت مسرح يعقوب صنوع فى مصر، والرجعية الدينية التى لا تخلو أيضاً من السياسة والتى أجبرت أبوخليل القبانى على إغلاق مسرحه فى سوريا والهجرة إلى القاهرة، فلم يستطع الرواد الأوائل تجاهل الأحداث الجارية والواقع الذى يسيطر عليه التخلف فى ذلك الوقت، ولم تكن النشأة مخططا لها بشكل منهجى، بل جاءت من هواة ارتبط المسرح عندهم بالوظيفة الاجتماعية من خلال شعورهم بقدرة المسرح على القيام بعمليات التغيير الاجتماعى، حيث عرف المسرح المصرى الكوميديا الشعبية المرتجلة فى أوائل القرن من خلال عروض أقرب إلى الكوميديا الانتقادية التى بدأها عثمان جلال كما ذكر د.على الراعى، وتلاه تيمور فى الكوميديات الأخلاقية، ثم توفيق الحكيم فى مسرحية المرأة الجديدة عام 1923. وبفضل عثمان جلال أمكن لأحمد شوقى أن يقدم الست هدى التى يعتبرها على الراعى أول ثمرة حقيقية للنبت الذى استورده عثمان جلال وزرعه فى التربة المصرية، أى كوميديا النقد الاجتماعى المعروفة باسم كوميديا السلوك، والتى سوف تكون بعد ذلك ملمحاً رئيسياً فى المسرح المصرى من خلال صيغ وأشكال متباينة تتغير وتتطور وفقاً لشروط ومتطلبات اللحظة الراهنة. فالكوميديا الاجتماعية التى قدمها نجيب الريحانى وبديع خيرى فيما بعد فى مسارح شارع عماد الدين كانت لا تخلو من إشارات سياسية، وشيوع فن الأوبريت الذى قدمه سيد درويش وكان يعتمد على السياسة فى بنائه العميق، مثل العشرة الطيبة التى تؤكد فساد السلطان والحاشية. وإذا تأملنا عروض الريحانى وعلى الكسار وجيل النهضة بعد ذلك سنجد أن هذه الكوميديات تقوم فى بنائها العميق على السياسة، بل وعلى التحريض فى أحيان كثيرة. وأشار المؤرخون إلى أن وزارت عديدة كان يتم تشكيلها فى شارع عماد الدين، شارع المسارح، حيث أسهم مسرح التورية السياسى الفكاهى الوثائقى فى ذلك الوقت فى تنمية روح الوطنية والقومية وفى ثورة الشعب عمالاً وطلاباً. فقد آمن المجتمع بالمسرح وشارك أهل السياسة فى كتابة المسرح واستخدامه فى تنمية الروح الوطنية كما فعل عبدالله النديم فى مسرحية “الوطن” التى تخيل فيها الوطن إنسانا بائساً يجلس على قارعة الطريق يتسول المحبة من المواطنين ولا يحظى بها ويكشف من خلال هذا النص أمراض المجتمع فى نهاية القرن التاسع عشر.

استمرت كوميديا النقد الاجتماعى التى يغلب عليها طابع الانتقاد السياسى فى المسرح المصرى وكانت لها الكلمة العليا حتى بداية النصف الأول من القرن العشرين، لكن بعد يوليو 1952 تطورت العلاقة بين المسرح والسياسة من خلال المسرحيات التاريخية التى تعتمد على الإسقاط لطرح قضايا سياسية معاصرة، وذلك فى أعمال ألفريد فرج وعبدالرحمن الشرقاوى ومحمود دياب بعد ذلك، وأصبح المسرح يطرح المشاكل من خلال رؤية أعمق بعيدا عن الإسقاط والخطاب الانتقادى المباشر خاصة بعد أن أحكمت المؤسسة الرسمية قبضتها على المسرح والفنون الأخرى فلجأ المسرحيون إلى استلهام التراث أو قل الاختباء خلف الشخصيات التراثية والتاريخية واستخدام الرمز، وبرزت مسرحيات عديدة منها “الفتى مهران، وطنى عكا (لعبدالرحمن الشرقاوى)، سليمان الحلبى، حلاق بغداد (لألفريد فرج)، بير السلم، سكة السلامة (لسعد الدين وهبة)”، حتى صاحب البرج العاجى توفيق الحكيم كتب “السلطان الحائر، والصفقة، وبنك القلق”، بالإضافة إلى أعمال محمود دياب وميخائيل رومان ونجيب سرور وصلاح عبدالصبور وغيرهم، الأعمال التى هى أقرب إلى مفهوم التسييس كما وضعه سعدالله ونوس فيما بعد حيث طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها وعلاقتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية ومحاولة استشفاف أفق تقدمى لحل هذه المشكلة.

لكن فى نهاية حقبة الستينات ظهر المسرح السياسى المباشر بقوة فى مصر والذى انحاز لصيغة الكباريه السياسى فى ظل هامش الديمقراطية الوهمى، وظهرت عشرات الأعمال التى يمكن أن تندرج تحت مسمى المسرح السياسى وتبتعد عن المفهموم العميق للتسييس، وتتخلى عن الإسقاط والرمز، بعضها تجاوز القوالب التقليدية مثل “البعض يفضلونها ولاعة” تأليف نبيل بدران وإخراج الدكتور هانى مطاوع، وعرض “كلام فارغ” إخراج سمير الصعفورى عن كلمات أحمد رجب الساخرة التى كان يكتبها فى الصحف، وإن كان البعض ظل يقدم المسرح السياسى فى صيغة الكباريه السياسى المباشر مثل جلال الشرقاوى، وهى عبارة عن مجموعة من اللوحات التى تجمع بين النقد الشديد لما يحدث فى المجتمع مع الغناء والاستعراض، وهذا يساعد فى توحيد الصالة وخشبة المسرح من خلال القواسم المشتركة بينهم وهى الأحداث الجارية والشخصيات المعروفة التى يتناولها العرض، أو إشارات التراث والتاريخ وهى الصيغة الأكثر شيوعاً للمسرح السياسى فى مصر خاصة فى العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. ولأن الواقع كان مهيأ فى تلك اللحظة لاستقبال المسرح السياسى خاصة بعد يونيو 1967، أصبح الأسلوب الأكثر تداولاً خليطا بين الكباريه السياسى وعروض المنوعات ومسرح الجريدة الحية والمسرح التحريضى مع استعارة أشكال الفرجة الشعبية من خلال استخدام الأراجوز وخيال الظل وألعاب شعبية أخرى، ناهيك عن الاستعراض والغناء، ولهذا يكون عرضا أقرب إلى عروض المنوعات التى تقوم على أشكال فرجة متعددة من خلال التنوع فى استخدام الأشكال الفنية التى تهدف إلى الإثارة والتسلية والإبهار فى محاولة لتحقيق الربح التجارى، من خلال تقديم لوحات لها طابع الهجاء السياسى والنقد اللاذع للمجتمع، مع تفاوت المستوى الفنى، أى المسرح السياسى فى صيغته الصريحة المستعارة من الغرب، بالإضافة إلى ظهور المسرح السياسى التسجيلى مثل “ما حدث لليهودى التائه مع المسيح المنتظر” ليسرى الجندى.

وإذا انتقلنا إلى المسرح السياسى فى مطلع الألفية الجديدة، فسنجد أن ثمة تشابها بين ما حدث بعد يونيو 67 وبين السنوات التى سبقت الأحداث والوقائع التى حدثت فى 2011 بصور وأساليب مختلفة، فلا يمكن إغفال التغييرات التى طرأت على المجتمع المصرى فى الحقبتين وأصابت الواقع السياسى والاجتماعى والفكرى فى مصر، الأولى بفعل صدمة الهزيمة غير المتوقعة والحقبة الثانية بفعل فساد النظام السياسى والاجتماعى قبل 2011 ورغبة المسرحيين فى الإصلاح الاجتماعى عبر المسرح ونمو الوعى السياسى بعد الخامس والعشرين من يناير خاصة بين الشباب الذين اتجهوا إلى صيغ المسرح السياسى بأشكاله المختلفة.

فى محاولة للتعبير عن تلك اللحظة، وفى السنوات الأخيرة دخل الشباب حلبة الهجاء السياسى أو الانتقاد السياسى لطبيعة المرحلة حيث أصبح الجدل السياسى من أساسيات الحياة والطبق الرئيسى على مائدة المصرين اليومية، فقد تم تقديم عدد من العروض فى الفترة من 2011 وحتى 2013، مثل “1980 وأنت طالع”، “حكايات أم دينا”، “حلم بلاستيك” الذى تم تقديمه أثناء حكم الإخوان، بالإضافة إلى عروض تم تقديمها قبل 2011 بدأت مع مطلع الألفية الجديدة منها “اللعب فى الدماغ” وقهوة سادة وشيزلونج، ونلتقى بعد الفاصل لتطرح هذه العروض رؤية مغايرة للمسرح السياسى فى مصر بتأثير الأحداث السياسية الساخنة قبل وبعد 2011. وعلى المستوى الفنى استمر الأسلوب الكلاسيكى للكباريه السياسى فى عروض جلال الشرقاوى الذى قدم عرضين فى هذه الفترة “دنيا أراجوزات، ودنيا حبيبتى” قبل وبعد 2011، بالإضافة إلى عرض “غيبوبة” من تأليف محمود الطوخى فى 2016، وسوف نحاول فى هذه القراءة إلقاء نظرة على مجموعة من عروض المسرح السياسى قبل وبعد الثورة فى صيغه المختلفة من خلال اثنى عشر عرضاً، ستة عروض منها قبل الثورة “اللعب فى الدماغ، قهوة سادة، نلتقى بعد الفاصل، شيزلونج، دنيا أراجوزات، بصى” وستة عروض بعد الثورة “1980 وأنت طالع، حكايات أم دينا، دنيا حبيبتى، حلم بلاستيك، مافيش حاجة تضحك، غيبوبة”. ويلاحظ فى هذه العروض أولاً: أن بعضها تم تقديمه فى 2010 واستمر فى 2011 بعد الثورة حيث تم تعديلها بما يتناسب والأحداث الجارية، وهنا لا بد من التوقف أمام ازدهار المسرح السياسى عام 2010 قبل اندلاع أحداث الثورة للأسباب التى ذكرناها سلفاً. ثانياً: دخول الشباب حلبة المسرح السياسى خاصة الفرق المستقلة، بعد أن كان من نصيب المسرح التجارى فى السنوات الأخيرة أو من نصيب مسرح الدولة فى حدود الانتقاد المسموح به، وبالتالى تغيرت ملامح المسرح السياسى وخرجت من حيز الكباريه إلى آفاق أكثر حداثة من هذه الصيغة، لكن غاب عنها النص المسرحى الذى يطرح المشكلة من خلال قوانينها برؤية عميقة، بل معظمها غاب عنه النص المكتوب واعتمد على الارتجال الجماعى، بل وعاد إلى البدايات الأولى للمسرح الشعبى مستفيداً من الصيغ المسرحية الحديثة مثل المسرح التحريضى، وعروض المنوعات وتقنيات عصر الصورة مثل المالتيميديا. وما حدث يؤكد أن ازدهار المسرح السياسى أو تراجعه عبرالعصور مرهون بالتطور السياسى والاجتماعى والفكرى فى المجتمع، وهذا ما دفع شريحة كبيرة من الشباب للتخلى عن عروض القاعات، والعروض التجريبية واللجوء إلى المسرح السياسى وتجلياته حيث كان الهدف هو التحريض وإثارة المتفرج وتحفيزه على التغيير..

المصدر مجلة الاذاعة والتلفزيون

المسرح السياسي في الغرب ونظيره في الوطن العربي

في الوقت الذي تجاوز فيه المسرح العالمي تعريفه لمصطلح السياسي في المسرح لا تزال الإشكالية قائمة في الوطن العربي حول مفهوم المسرح السياسي وماهيته وممارساته ؛ وهي إشكاليات ترتبط بمفهوم مصطلح ( السياسة ) في الوطن العربي ؛ وبالتالي ما زال هناك غموض  حوله يؤدي إلى فوضى في المصطلح ؛ وفوضى في التصنيف ؛ وفوضى في الممارسة المسرحية ؛ وبالتالي يمكن طرح أسئلة مثل :
هل كل عمل مسرحي عربي يتناول ظاهرة سياسية ما هو مسرح سياسي ؟
هل يدخل النقد الاجتماعي في تصنيف المسرح السياسي ؟
أن يلجا المسرح إلى التراث العربي القديم لنقد ظواهر سياسية معاصرة هل يعني انه مسرح سياسي ؟
إلى آخر مثل هذه الأسئلة التي تعطي المسرح العربي صفة الزئبقية وعدم الوضوح ؛ فما يمكن وصفه بالمسرح السياسي في مكان يمكن وصفه بمسرح النقد الاجتماعي في مكان آخر ؛ وما يصنفه إيديولوجيون على انه مسرح سياسي قد يسفهه إيديولوجيون آخرون نافين عنه صفة المسرح السياسي؛ وعندما يحقق المسرح السياسي حضورا في فترة ما ؛ سرعان ما يدخل في إطار التمييع في فترة لاحقة ليصبح مسرحا تجاريا ..
وهكذا يعيش المسرح السياسي العربي أزمة هي جزء من أزمة المسرح العربي ككل ؛ واحد أشكال هذا المسرح السياسي تحوله كما قلنا سريعا إلى التجارية والتمييع ثم الانطفاء.
تاريخ المسرح السياسي في الغرب
لا يذكر تاريخ المسرح السياسي في الغرب انه تم تداول مصطلح المسرح السياسي كصفة مميزة لمسرح ما ؛ فالمسرح باعتباره جزءا من الطقوس الحياتية يتعرض للظواهر السياسية وغير السياسية ؛ ولكن ظهر مصطلح المسرح السياسي مع شهرة أعمال المسرحي الايرلندي ” شون اوكيسي ” الذي ربما يكون أول من طرح المصطلح بلفظه وجسَده عمليا على ارض الواقع ؛ ولعل استعراضا سريعا لسيرة هذا المسرحي توضح فكرة المسرح السياسي الذي سمَاه وطرحه.
ولد شون اوكيسي في عام 1828 في مدينة دبلن من أسرة فقيرة معدمة ؛ وعاش طفولة بائسة أثرت تأثيرا كبيرا في أعماله المسرحية ؛ فالحرمان الذي عانى منه والفقر الذي عاشه سنين طويلة وجو المقاومة الايرلندية للبريطانيين كان الأساس الذي بنى عليه مسرحه ؛ وقد تعرف على قادة المقاومة الايرلندية وصار هو نفسه من أعضائها النشطين.
لم يدخل اوكيسي مدرسة ؛ ولكنه تخرج من مدرسة الحياة ؛ وفي بداياته المسرحية كتب ثلاث مسرحيات هي : زهرة في الصقيع – عبدالحياة – اللون القرمزي؛ ولكن هذه المسرحيات لم تلق أي نجاح ؛ وشن النقاد هجوما عنيفا عليها لانها كانت تطرح مضامين غريبة عن المسرح السائد ؛ وقد رد اوكيسي على هجوم النقاد قائلا : ” ما على هؤلاء سوى أن يمجدوا أسيادهم ؛ بينما أنا أتحدث في السياسة التي لاترضي أسيادهم ؛ وبالتالي لا يمكن أن ترضيهم”.
وهكذا وردت كلمة ” السياسة ” في سياق الحديث عن المسرح لاول مرة في عبارات اوكيسي ؛ ومنذ ذلك الوقت اقترنت كلمة ” السياسي ” بالمسرح عندما كان يطرح مواضيع تشابه مواضيع اوكيسي ؛ ومع ذلك لم يصل النقاد الغربيون إلى تحديد تعريف نهائي للمسرح السياسي ؛ فهناك تعاريف ليست منسجمة مع بعضها ؛ ففي بعض هذه التعاريف نقرأ أن المسرح السياسي هو المسرح الذي ينشغل بأحداث سياسية معينة تمثل وجهات نظر محددة تجاه هذه الأحداث ؛ ومبدعو هذا النوع من المسرح يستخدمون أساليب وطرقا فنية متنوعة ؛ بالإضافة إلى فن الارتجال وغيرها من الوسائل والإمكانيات الفنية الأخرى التي تتضافر جميعها في خلق هذا المسرح الذي يعد ظاهرة مسرحية تنعكس في أعمال تتسم بتفوقها الفكري والفني .
وعلى هذا يمكن استخدام تسمية المسرح السياسي على الأعمال التحريضية ؛ أو تستخدم في تحديد نوع من المسرحيات تتناول مضامين دعائية تستثير ردود فعل فورية عند المتفرجين في مواجهة هذه الأحداث ؛ وتمتد تقاليد هذا المسرح وجذوره إلى فترة المسرح الروسي أثناء ثورة أكتوبر عام 1917 حيث احتاجت الثورة هذا النوع من المسرح في عملية الترويج لمبادئها ؛ كما تم تداول مصطلح ” المسرح السياسي ” بكثرة في ألمانيا عقب استيلاء هتلر على الحكم في ألمانيا ؛ وكان من جملة الوسائل التي اعتمدها للدعاية للنازية وترويج أفكارها المسرح .
أما المخرج والمنظر الألماني ( ايروين بيسكاتور ) فيرى في كتابه ( تسييس المسرح ) الصادر في ألمانيا عام 1929 أن الشرط الأساسي لكي يكتسب المسرح صفة السياسي هو أن يعتمد على وثائق وحقائق معروفة للجمهور ثم يعيد طرحها ضمن معالجات توجه الجمهور نحو رؤية سياسية يعمل من اجلها المسرحيون الذين يقدمون العمل ؛ وهذا يعني أنه لكي يكون المسرح سياسيا يجب أن يمتلك الحجة والبرهان على طرحه السياسي عبر المسرح ؛ وعندما يطلب منه أن يبرز وثائقه للجمهور يجب أن يملكها ويبرزها ؛ وعلى هذا فان المسرح المنتمي للبلشفية عند بيسكاتور لا ينتمي للمسرح السياسي لانه يطرح قضايا نظرية يمكن مناقضتها ومجادلتها من قبل الجمهور نفسه .
وهكذا تعددت تعاريف المسرحيين والنقاد للمسرح السياسي ؛ وتحول الأمر منذ الستينات إلى اجتهادات نظرية وعملية يحاول أصحابها تسييس المسرح عبر رؤاهم لوظيفة المسرح ؛ فظهر ما يسمى( مسرح الشارع ) ؛ وينادي أصحابه بدمج المسرح بالحياة من خلال عروض مسرحية تجري في الشارع ؛ وتعتمد التحريض هدفا لها ؛ ومن اشهر المسرحيين الغربيين الذين نادوا بهذا المسرح ومارسوه الفنان ” اندريه بينديتو” ؛ والحوار الأساسي في هذا المسرح هو الارتجال من قبل الممثلين ؛ والمادة الأساسية هي هموم الأحياء في الشارع الذي تقدم فيه المسرحية ؛ والمواقف تكون وليدة لحظتها ؛ والجمهور هم العابرون والمارة في الشارع ؛ ولذلك يجب لفت انتباههم في البداية بواسطة حركات بهلوانية ونشاطات تعتمد القدرات الجسدية للمثلين ؛ ثم يتدرج العرض المسرحي ليتوحد الممثلون مع المتفرجين ؛ ويصبح الجميع مؤدين مسرحيين لهموم الجميع.
وقد ظهر ضمن هذه المسارح السياسية ما عرف باسم مسرح جويريلا ؛ ويعني ” مسرح العمليات السياسية ” أو ” مسرح ما تحت الأرض ” ويقوم أيضا على التحريض والاستثارة ؛ وقد اسسه المسرحي رونييه ترووب ؛ ووضع اسسه في كتابه الشهير ” مسرح جويريلا”.


المسرح الزنجي
كمثال آخر عن المسرح السياسي في الغرب نتوقف عند المسرح الزنجي الذي يعتبر مثالا نموذجيا للمسرح السياسي في الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وتعود بدايات هذا المسرح إلى عام 1716 عندما أسس فنان زنجي يدعى براون مسرحا صغيرا في ولاية مانهاتن وصار يقدم عليه مسرحيات ترفيهية للزنوج ؛ وبسرعة اشتهر هذا المسرح بين زنوج مانهاتن مما جعل مؤسسه : براون ” يبني مسرحا اكبر منه سماه ” مسرح البستان الأفريقي ” وقد حقق عبر هذا المسرح شهرة تجاوزت ولاية مانهاتن للولايات الأخرى المجاورة ؛ وسبب شهرته بالدرجة الاولى تعود إلى طبيعة المسرحيات التي كان يقدمها ؛ فبالإضافة إلى الأعمال الهزلية التي قدمها في البداية تحول إلى النقد اللاذع ؛ ثم قدم مسرحيات قديمة من مسرح شكسبير ؛ ولما كان جميع الممثلين من الزنوج فقد بعث شعورا بالاعتزاز بين الزنوج في الولايات المتحدة ؛ وبأنهم لا يقلون مقدرة عن التعامل مع المسرح عن البيض .
واستمر مسرح براون في صعوده نحو الشهرة ؛ وبحكم التمييز العنصري السائد آنذاك حملت المسرحيات روح التحريض للزنوج وبعث مشاعر الاعتزاز بأصولهم الأفريقية ؛ وأدى ذلك إلى وقوع صدامات بين الزنوج والبيض ؛ وبالتالي قامت السلطات الأمريكية بإغلاق المسرح في عام 1821 ؛ ولكن المسرح عاد وفتح أبوابه مجددا ؛ وقدم دراما تحت اسم ” محاولة قتل ملك” وهي مسرحية تتحدث عن عصيان يقوم به مجموعة من الزنوج العبيد في جزيرة القديسة فينيسيت ؛ وقد استمر العرض لمدة أربع سنوات متصلة ؛ وكما هو متوقع ؛ كان استمرار نجاح المسرحية همَا يؤرق السلطات المحلية بسبب روح التحريض التي كانت تبثها بين الزنوج ؛ فعادت واغلقت المسرح نهائيا بعد صدامات جرت بين البيض والزنوج بعد انتهاء أحد عروض المسرحية.
لقد ترك ” مسرح البستان الأفريقي ” أثرا كبيرا في الواقع المسرحي الأمريكي فيما بعد ؛ فقبل ظهور هذا المسرح كان من المحظر على الزنوج أن يظهروا في أية مسرحية كممثلين ؛ وفي افضل الحالات كان من المسموح أن يظهر ممثل زنجي واحد فقط في دور المهرج أو الأحمق مع كل الصفات الشاذة ؛ ولكن مسرح البستان الأفريقي منذ أن أسسه براون شكل تمردا على ما كان سائدا تجاه الزنوج ؛ بل فرض هذا المسرح شهرته على البيض أنفسهم بحيث صارت تُنظم لهم عروض خاصة بهم يذهب فيها المسرحيون الزنوج إليهم ويقدموا لهم مسرحهم مع طروحاته المناوئة للتمييز العنصري ؛ ومن الواضح أن مسرح البستان الأفريقي فرض تأثيره المقاوم بين الزنوج وغير الزنوج طوال السنوات التالية ؛ ففي عام 1927 قُدمت مسرحية ” يورجي و بيس ” ؛ وهي مسرحية جادة تحمل فكرا عظيما ؛ واستمر عرضها فترة طويلة ؛ واحتشد المتفرجون لمشاهدة هذه المسرحية وتحية القائمين عليها من الزنوج ؛ وقد أستمر عرضها ثلاث سنوات متواصلة في مسرح يتسع لالف متفرج في الليلة الواحدة ؛ وفي عام 1936 قام الفنان اورسن ويلز وجون هاريسمان بإنتاج مسرحية ” مكبث ” لشكسبير وبممثلين زنوج ؛ وقد استمرت عروض المسرحية سبع سنوات متتالية في كافة أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية بنجاح كبير ؛ وفي عام 1943 قام الممثل الزنجي بول روبنسون بتقديم مسرحية ” عطيل ” لشكسبير لمدة عام كامل ؛ ولتتوالى عروض الزنوج على هذا النمط من النجاح ؛ وفي جميع هذه المسرحيات لم يول المسرحيون الزنوج أهمية للتقاليد المسرحية ؛ بل عبروا عن تراثهم الأفريقي وفلسفتهم الحياتية ورفضهم للتمييز العنصري ؛ ولم يكن تحقيق ذلك سهلا ؛ بل احتاج إلى كثير من النضال الشاق حتى استطاعوا أن يفرضوا مسرحهم كمسرح فعال في المجتمع.
التياترو كامبيسينو
نموذج آخر للمسرح السياسي الفعال في الغرب ؛ ويمثل هذا المسرح فئة من المكسيكيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية ويطلق عليهم chlcanos ؛ ويعني هذا المصطلح ( المعذبون) ؛ وقد بدا هذا المسرح وجوده في عام 1965 كسلاح من أسلحة النضال الفني لهذه الفئة من اجل انتزاع حقوقهم وتحسين ظروف معيشتهم وتوفير فرص عمل لهم ؛ ورفع أجور العمال والفلاحين منهم.
ولد مؤسس هذا المسرح ومديره ( لويس فالديس ) في عام 1940؛ وهو ابن لفلاح مكسيكي تخرج من جامعة ولاية كاليفورنيا ؛ وكان ممثلا في سان فرانسيسكو في جماعة التمثيل الصامت ؛ وفي عام 1965 أسس مسرح ( التياترو كامبيسينو ) ؛ وفيه اعتمد على تقديم اسكتشات مثيرة تتخذ من أحداث التمرد والإضرابات مادة لها ؛ ولم يتقيد هذا المسرح بشكل فني محدد ؛ إذ صار هذا المسرح يجمع بين المسرح البريختي التعليمي الملحمي ؛ وبين الكوميديا المرتجلة ؛ وفن المهرج الشعبي المكسيكي ؛ ومعظم أعمال هذا المسرح لا تعتمد على الديكور ؛ ولكن منذ عام 1967 وسع مسرح التياترو من اهتماماته المسرحية إذ قدم مسرحيات كاملة تتسم باتساع بمنظورها في مجال إلقاء الأضواء على أوضاع المكسيكيين في الولايات المتحدة والمشاكل التي تواجههم كونهم مكسيكيين .
لقد عالجت مسرحيات مسرح التياترو مثلا مشكلة اللغة التي تشكل عائقا أمام أبناء المهاجرين في المدارس الأمريكية ؛ وصعوبة تكيف المهاجرين المكسيكيين مع المجتمع الأمريكي ؛ والقت الأضواء على شخصية المكسيكي المتأمرك الذي يفقد شخصيته ويتحول ليتحول إلى أمريكي ؛ وغير ذلك من المشاكل التي جعلت هذا المسرح معملا حقيقيا في إيقاظ الحس القومي في نفوس الجالية المكسيكية والحفاظ على كرامتهم وتحريضهم للنضال من اجل الحصول على حقوقهم كاملة ومواجهة التفرقة العنصرية في المجتمع الأمريكي ؛ وقد استمر هذا المسرح حتى عام 1971 بنجاح كبير .
مسرح فاسبيندر
وهو مدرسة أخرى من مدارس المسرح السياسي في الغرب ؛ وبدايته كانت في عام 1968 عندما اصدر المخرج السينمائي والمسرحي الألماني ( رياينر فيرنر فاسبيندر) بيانا وقع عليه عدد من الكتاب والمفكرين والمسرحيين ؛ وفيه استعرض مسيرة المسرح السياسي في الغرب عموما وفي ألمانيا خصوصا ؛ ورأى أن هذا المسرح لم يعد صالحا بعد التحولات السياسية والمادية التي أصابت المجتمع الغربي والتي أدت إلى انهيار القيم وطغيان المصالح الفردية والجماعية.
ورأى فاسبيندر أن المسرح السياسي ؛ أو المسرح المضاد كما أطلق عليه ؛ يجب أن يصعَد من صدامه مع المسرح البرجوازي التقليدي ؛ وان يرتقي بوظيفته إلى تطوير الأحداث المأخوذة من الواقع وإضفاء التنوير عليها عبر مسرح مضاد جديد مشحون بطابع الجرأة وسمة الغرابة والفضح والافتضاح ؛ وكلما كان للمسرح قدرة الفضح صار مسرحا ثوريا وتحريضيا ضد ما هو سائد في حركة المجتمع.
على هذه الرؤية ينادي سبايندر لإيجاد مسرح جديد بكل شيء ؛ مسرح يفضح ويسعى إلى تحقيق انقلاب من خلال معالجة تعري وتنير العقل ؛ وتدخل مباشرة على المدارك الحسية للمتفرج ؛ مسرح يتجه إلى تخير الشكل والبناء المناسبين دون قيود لينفذ من خلالهما إلى تفتيت الرؤية والأشكال السلبية التي صارت بحكم التكرار والعادة مألوفة للناس ؛ ويجب أن يكون هذا المسرح كتلة كبيرة من القسوة والشر وتجسيدا للفساد؛ ولكنه لن يكون اكثر شرا وقسوة وفساد مما يرتكبه البشر في السر والعلن .
يقول فاسبيندر ” إن الإنسان يعيش الفساد والشر كل يوم عشرات المرات ؛ وهو إما لا ينتبه لهما بحكم التكرار والاعتياد ؛ وإما يعتبر الشر والفساد قدرا لا بد منه ؛ ولذلك يتقبل وجودهما بدون تذمر ويمارسهما بدون تأنيب ضمير ؛ و لهذا يجب على المسرح المضاد أن يضع المتفرج أمام عملية اكتشاف الشر والفساد كما يجري تنفيذهما في الحياة ؛ ثم يكشف له الأشخاص والأسباب والعوامل التي تتحالف ليستمر الشر والفساد والقسوة ؛ وبعد ذلك يحرضه للتمرد على هذا الواقع الشرير والفاسد والقاسي ؛ ومن الخطأ أن يلجا المسرح للوعظ والإرشاد والخطابة الحماسية ليحرض المتفرج ؛ بل يجب أن يمر الحدث الدرامي بسرعة وان تتطور الشخصيات بقوة مدهشة ؛ ثم في لحظة يجب أن تتلاشى مبالغات الحلم والرومانسية وكل الأفعال غير الصالحة أو غير الصادقة من تلقاء نفسها لتحل محلها لحظات تعرية الذات ؛ وعلى هذا يجب على الممثل أن يعتمد التلقائية في الأداء متناسيا وجود الجمهور وكأنه يؤدي لنفسه”.
ملامح أساسية
من خلال هذا العرض السريع للمسرح السياسي ونماذج منه في الغرب نجد انه يتصف بصفات مشتركة عبر كل مدارسه منها :
– انه لم يأت كردة فعل على واقعة سياسية أو حدث سياسي عابر ثم يتوقف بعد مرور هذا الحدث ؛ بل إن المسرح السياسي في الغرب نشأ ليستمر ؛ وعندما تنتهي الظروف السياسية أو الاجتماعية التي ظهر بسببها يجد هذا المسرح لنفسه ظروفا أخرى ليستمر باعتباره رسالة مسرحية مستمرة ويجب ألا تتوقف ؛ والعاملون فيه يمارسونه على أساس قناعة تامة به .
– قد يتوقف هذا المسرح السياسي أو ذاك لفترات طويلة أو قصيرة ؛ ولكن لمراجعة النفس وليطور نفسه على أساس المستجدات السياسية ؛ فمسرح التياترو كاممبسينو مثلا توقف في عام 971 ؛ ولم يعلن القائمون عليه عن توقفه نهائيا ؛ بل عن التوقف المؤقت للقيام بقراءات سياسية وتطوير المسرح بما يناسب المستجدات السياسية ؛ وخاصة فيما يتعلق بموضوع التمييز العنصري ؛ وفعلا عاد المسرح للعمل في عام 1981 وتحت نفس التسمية ؛ وقدم مسرحية ( المنتفخ) لمدة أربع سنوات متواصلة على اشهر مسارح الولايات المتحدة الأمريكية ؛ وقد أجبرت تلك المسرحية السلطات الأمريكية على التخفيف من شروط منح الإقامة الدائمة “كرين كارد” لابناء الجالية المكسيكية ثم أبناء الجاليات الأخرى ؛ والمسرحية تتحدث عن معاناة المهاجرين من الحصول على حق الإقامة والأساليب الملتوية التي يضطرون لسلوكها التفافا على القوانين الأمريكية .
– يعطي المسرح السياسي بكافة أشكاله حيزا كبيرا لفن الارتجال ؛ ويبتعد عن البذخ في الديكور والملابس ؛ وغالبا لا يولي أهمية للخشبة المسرحية أو صالة العرض .
– ما زال هذا المسرح يفرض حضوره واحترامه على جمهور المسرح في الغرب ؛ وكل تجربة في المسرح السياسي ينظر إليها باحترام واهتمام من قبل الجمهور والنقاد .
– لا يطرح المسرح السياسي نفسه بديلا عن المسرح التقليدي ؛ بل ينظر إليه رغم صدامه معه باحترام ؛ ويراه ضروريا لاستمرار المسرح السياسي ؛ فيقول بيساتور مثلا في كتابه ” تسييس المسرح ” : ” من الخطأ ألا نصطدم مع المسرح التقليدي البرجوازي ؛ ولكن من الخطأ أيضا إلا ننظر إليه باحترام ؛ فهذا المسرح يشكل تاريخ البشرية ؛ ولهذا نرفض مقولة بعض المتطرفين الثوريين الذين يطالبون بإلغاء المسرح البرجوازي ؛ فلو تم إلغاء المسرح البرجوازي لن يكون هناك وجود للمسرح السياسي ؛ بل سيظهر مسرح سياسي نقيض يناضل من اجل إلغاء السائد المسمى مسرحا سياسيا وعودة المسرح البرجوازي ؛ من هنا يجب أن نقر بأننا في المسرح السياسي والمسرح التقليدي رغم تناقضاتنا نكمل بعضنا في المسرح .. إن المسرح البرجوازي يُخدم من قبل مسرحيين يقدمون للمتفرج ألواح شوكولا لذيذة ؛ ومهمتنا هي أن نقدم للمتفرج ما يوضح له أن هذه الشوكولا ليست لذيذة بقدر ما هي مزيفة ؛ ولكننا إن لم نحترم قدرات صانعي الشوكولا المزيفة لن نستطيع تحقيق كشف زيفها للناس …”. 
المسرح السياسي العربي
ما نريده من هذه الوقفة عن المسرح السياسي في الغرب هو أن نبحث عن موقع المسرح السياسي في الوطن العربي ؛ وكما قلنا في بداية هذه الوقفة ؛ نجد أن ما يسمى بالمسرح السياسي العربي لا يشكل في الحقيقة إلا أزمة من أزمات المسرح لعربي ككل ؛ ولنكون منصفين نعود إلى المسرح العربي كفن مستورد ؛ وحيث ما زالت إحدى إشكالياته عندنا هي موقعه من الثقافة العربية .
لقد جوبه المسرح كفن مستورد منذ البداية بالرفض والحساسية ؛ والرواد الذين نقلوه للثقافة العربية لم يقدموه لكافة فئات المجتمع ؛ والفئة التي اقتصر عليها حضور المسرح كانت طبقة تأثرت واندهشت بالحضارة الغربية المتفوقة ومعطياتها ؛ أي أن المسرح العربي لم يبدأ بداية شعبية ؛ وبقي مقصورا على طبقة الأغنياء السلطوية والمثقفة وذلك لاسباب كثيرة منها حداثة هذا الفن في الثقافة العربية ؛ وكل جديد طارئ لابد أن يجابه بنظرة ريب وتحسس ؛ ومنها أن هذا الفن لم يكن من الممكن تعميمه بوسائل النشر المعروفة كالصحف والمجلات ؛ بل كان يقدم في أماكن معينة ولجمهور معين .
لهذا منذ البداية وحتى عقود تالية اعتبر هذا المسرح دخيلا على الثقافة العربية وفنا شبه مرفوض ؛ وهذا ما أدى إلى تنازلات كثيرة في سبيل خلق وترسيخ هذا الفن على الأرض العربية ؛ واول تلك التنازلات دمج المسرح بالغناء والرقص على نحو ما فعل أبو خليل القباني ورفاقه ومن جاء بعده ؛ كما تأخر ظهور التأليف المسرحي الحرفي في الأقطار العربية إلى الخمسينات وما بعدها ؛ وبهذا وذاك انقضت عدة عقود من عمر المسرح العربي وهو يحاول أن يثبت وجوده في الثقافة العربية ؛ وطوال تلك العقود لا يمكن الحديث عن أي شكل من أشكال المسرح السياسي العربي ؛ وهذا بديهي وطبيعي .
بعد الخمسينات استطاع المسرح العربي أن يحصل على الاعتراف به كفن أدبي ؛ وربما من اصعب الفنون الأدبية ؛ وحصل على اعتراف الجماهير العربية به كظاهرة حياتية مسلية بالدرجة الأولى ؛ ولكنها مؤثرة ؛ فتم إدخال المسرح في النشاطات المدرسية كوسيلة تثقيفية وتربوية وتوجيهية ؛ وانشئت هيئات رسمية عربية مهمتها الإشراف على المسرح والتأليف وتشجيعه ودعمه ؛ فدخل المسرح العربي بذلك تحت وصاية المؤسسات العربية ؛ وتحت هذه الوصاية وبدونها شقت الظاهرة المسرحية طريقها ورسخت نفسها في الحياة العربية ؛ خاصة بعد هزيمة 1967 ؛ فقد انبرى المسرح العربي قويا وأصيلا يعبر عن غضبة الإنسان العربي وفضح هزائم الأنظمة العسكرية واللامبالاة بمصير الإنسان العربي والوطن ؛ وقد جعل هذا المسرح لنفسه القضايا القومية التزاما صريحا ؛ وعلى رأسها قضية فلسطين ومظاهر التبعية للغرب الاشتراكي أو الرأسمالي والمخاطر التي تهدد الهوية الثقافية العربية؛ ونذكر من تلك الفترة على سبيل المثال لا الحصر سعد الدين ونوس ونجيب سرور وسعد الدين وهبه وفوزي فهمي وعبدالكريم برشيد ؛ ولكن هذه الفترة لم لتلبث أن تراجعت لاسباب كثيرة منها أنها كانت فترة تأزم نجمت عن الجرح العربي الذي صار عميقا في العقل العربي ؛ ومما عمق التجزئة والتعصب القطري ؛ وأدى إلى غياب المشروع الحضاري العربي ؛ وفي هذه الأجواء انتكس الإبداع المسرحي ؛ وصار الإخراج سيد المواقف في اتجاه الابتعاد عن الهموم القومية والتركيز على الإلهاء السطحي .
النقطة الثانية هي أن المسرح الذي تكون تحت وصاية المؤسسات ضمن مصطلح ” الرعاية” ما كان ليستطيع تأسيس مسرح سياسي فعال ودائم ؛ اللهم إلا المسرح التجاري الخاص الذي تحت تسمية المسرح السياسي قدم كل ما يخطر على البال من ابتذال وانحطاط.
صحيح أن بعض الومضات ظهرت في المسرح السياسي العربي مثل مسرح الشوك الذي أسسه عمر حجو ودريد لحام ؛ وفرقة تشرين لدريد لحام ونهاد قلعي ؛ واستوديو الممثل لمحمد صبحي ولينين الرملي في مصر ؛ والمسرح الجديد في تونس … ولكن هذه التجارب وغيرها سرعان ما واجهت التسليخ والتمييع والتسخيف منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي ؛ وسنتوقف عند نماذج من هذه المسارح السياسية العربية ونرى كيف بدأت وأية مصائر مروعة وصلت إليها
مسرح الشوك
عقب هزيمة 1967 أسس عمر حجو مسرح الشوك بالتعاون مع دريد لحام ؛ وكانت الأجواء السائدة بعد الهزيمة العربية في الحرب مناسبة لنجاح هذا المسرح جماهيريا وإعلاميا ؛ إذ اعتمد هذا المسرح على فقرات قصيرة ناقدة ومتتالية ضمن العمل الواحد تتناول بشكل ساخر وناقد الظواهر الحياتية في المجتمع العربي ؛ والرسالة الأساسية التي أرد المسرح إيصالها هي أن المواطن المنهك وراء تحصيل لقمة عيشه والحصول على الحد الأدنى من حقوقه في الخدمات هو مهزوم أساسا في داخله ؛ وبالتالي لا يمكن محو الهزيمة إلا بتحقيق إنسانية العربي .
كان مسرح الشوك شكلا جديدا في المسرح السائد ؛ وجاءت نجومية دريد لحام ونهاد قلعي كمشاركين في المسرح لتضيفا أسبابا أخرى لرواج ونجاح هذا المسرح ؛ ولو استمر هذا المسرح لاستمرت تسمية السياسي له صحيحة ؛ ولكن بعد فترة من النجاح بدأ تألقه يخف ؛ فقد قدم القائمون عليه كل ما عندهم مما يهم المتفرج وسط تلك الظروف السياسية آنذاك ؛ بل بدأ يكرر نفسه رغم العدد القليل جدا من الأعمال التي قدمها ؛ وبذكائه التجاري المعروف أدرك دريد لحام أن هذا المسرح بدأ بالاحتضار ؛ فتقرر إيقافه بعد أن طغت على السطح الإعلامي أصداء الخلاف المستحكم بينه وبين عمر حجو حول من هو المؤسس لهذا المسرح ومن هو صاحب الأفكار فيه .
والمضحك المبكي أن مسرح الشوك هذا بعد أن أنهى نفسه فرَخ عددا من المسارح التي حاولت أن تنحو نحوه ؛ إذ أسس كل ممثل كان في مسرح الشوك لنفسه مسرحا ؛ فظهرت مسارح تحت تسميات مثل ” مسرح دبابيس ” و ” مسرح خوازيق ” و” مسرح قنوع ” وكلها مسارح اعتمدت على التهريج والابتذال والسخف ولم تخرج عن نطاق التجارية الرخيصة ؛ وكان كلها مصيرها الفشل الذريع بعد أن أساءت للمسرح ككل وكانت سببا في سرعة انطفائه؛ وقد عاد عمر حجو بعد سنوات ؛ وتحديدا في عام 1995 إلى محاولة إحياء مسرح الشوك في مدينة حلب ؛ وبالتعاون مع مسرحيين منها ؛ ولكن كان نصيب هذه المحاولة الفشل الذريع لانه أعاد تقديم نفس الفقرات التي قدمها في ستينات القرن الماضي مع دريد لحام في الوقت الذي كانت فيه المفاهيم السياسية قد تغيرت ووعي المواطن قد تغير .
وهكذا انطفأت هذه التجربة المسرحية السياسية سريعا ؛ بل صارت متهمة بأنها وراء التجارية الرخيصة التي لازمت المسرح الخاص السوري بعد انحلالها .
فرقة تشرين
أسسها بعد انحلال مسرح الشوك دريد لحام ونهاد قلعي ؛ وقدمت أعمالا لقيت صدى طيبا عند الجمهور العربي مثل ” ضيعة تشرين ” و” غربة ” و “كاسك يا وطن ” ؛ واعتبرت هذه الأعمال سياسية بكل ما تعنيه الكلمة من خلال مواكبة مواضيعها للأحداث السياسية العربية ؛ ولكن المشكلة أنها وصلت إلى مرحلة لم تعد تملك ما تستطيع قوله إزاء تسارع الأحداث السياسية العربية ؛ فوصلت إلى مرحلة التكرار والإملال ؛ ومع ذلك استطاعت الفرقة أن تقف على قدميها قليلا عندما كتب لها الشاعر والكاتب الكبير محمد الماغوط مسرحية ” شقائق النعمان ” ؛ ومع ذلك عاد الانحدار إلى الفرقة وجماهيريتها؛ وكما هو متوقع برز على السطح الخلاف بين محمد الماغوط ودريد لحام والذي انتهى بانسحاب محمد الماغوط ودخول دريد لحام تجربة الكتابة بنفسه .
والنتيجة لم تكن افضل من مسرح الشوك ؛ إذ فشل آخر عمل قدمته الفرقة فشلا ذريعا على المستوى النقدي والمستوى الجماهيري ؛ ولم ينفع تطعيم العمل بالرقص المجاني والأجساد الأنثوية المغرية ؛ أي أن دريد لحام وقع بدوره في مطب التجارية واللجؤ لنفس الأساليب التي يلجا إليها المسرح التجاري ؛ والنتيجة كانت اعتزال دريد لحام المسرح ” بسبب السن ” كما قال ؛ ولكن في الواقع كان اعتزاله المسرح بسبب انه لم يعد يجد ما يقوله في المسرح الذي يصر دريد لحام على تسميته بالمسرح السياسي ؛ وهو كان كذلك فعلا ؛ ولكنه انتهى إلى التجارية .. والانطفاء .
واقدساه
وفي المسرح السياسي العربي نتوقف عند أهم محاولة مسرحية كان من الممكن أن تكون نواة لمسرح سياسي عربي فعال هي مسرحية ( واقدساه ) التي أنتجها اتحاد الفنانين العرب من تأليف يسري الجندي واخراج المنصف السويسي ؛ وتم عرضها في عام 1989 بمشاركة فنانين من تسع دول عربية ؛ ومحورها كما يحمله العنوان هو مدينة القدس ؛ وبالتالي جاء العمل وقد توفرت له كفاءات عربية كبيرة ؛ ولكن منذ البداية يجب أن ننتبه إلى أن العمل جاء نتيجة ( قرار ) من اتحاد الفنانين العرب ؛ وكتابته تمت ب (تكليف) ؛ والإبداع لا يصنع بقرار .
وتم عرض العمل وسط اهتمام إعلامي عربي ؛ وحيث فكرة العمل تقوم على استحضار شخصيات تاريخية عربية وعرض مواقفها وارائها ولحظات قوتها وضعفها ؛ وذلك في ما يشبه المحاكمات لها ؛ ولتؤكد أسئلة المحاكمات على أسئلة مثل : لماذا استطاع صلاح الدين الأيوبي تحرير القدس ؛ ولو توفرت له ظروف اكثر ملاءمة هل كان من الممكن أن يستمر هذا التحرير ؛ وما هي الأسباب التي أضاعت القدس من جديد…؟!
وهكذا ؛ من الملحمية والتسجيلية والواقعية والتعبيرية؛ ومن الماضي والحاضر تم نسج النص المسرحي ؛ وبلغة مسرحية هي مزيج من الخطابية والإلقاء الشعري والسردية اللاهثة ؛ وكان من الطبيعي أن يجد الجمهور نفسه أمام نص غير مفهوم أبدا ؛ وحتى الممثلين أنفسهم كانوا يقدمون أدوارهم دون أن يعرف أحدهم ماهو موقع دوره في المسرحية ؛ وإزاء الإملال الذي كان يحيط بالجمهور لم يجد الممثلون سوى اللجؤ إلى ارتجال القفشات والقاء النكت الهزيلة في محاولة لاستجرار الضحك من الجمهور ؛ وبدلا من مسرحية سياسية كان العمل مسرحية عجيبة غير مفهومة ؛ وبالتالي كان مصيرها الفشل الذريع ؛ ولم يحاول اتحاد الفنانين العرب تكرار التجربة.
باب الفتوح
لعل هذه المسرحية تمثل إحدى أهم الإضاءات في مشروع المسرح السياسي العربي بعد نكسة حزيران 1967 ؛ فقد كتبها محمود دياب بعد النكسة وبعد أن تبلورت معطياتها وانعكاساتها وإفرازاتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية في ذهنه ؛ وقد قدمت هذه المسرحية عشرات المرات في معظم الدول العربية بعد أن قدمها المسرح القومي المصري في موسم عام 1976 من إخراج سعد اردش وبطولة عبد المنعم إبراهيم وفردوس عبد الحميد .
تترجم المسرحية باختصار أحزان نكسة 1967من خلال مقولة صريحة تتمحور في المعادلة التالية ” أن انتصار السيف وحده لا يكفي إن لم يدعمه انتصار الفكر” فالفكر هو الذي يعطي للنصر العسكري دلالته ومعناه وابعاده ؛ وحتى يصل دياب إلى عمق هذه المعادلة الفكرية ويجسدها دراميا بشيء من الواقعية لجأ إلى التاريخ ليعيد تشكيله وهيكلته من جديد وفق نظرة فلسفية مستمدة من في الأصل من الواقع ذاته من خلال استدعاء عصر صلاح الدين الأيوبي .. وبالطبع لسنا هنا في مجال عرض هذه المسرحية الهامة ؛ ولكن نريد من الإشارة إليها أن مسرحنا العربي قادر في الواقع على تأسيس مسرح سياسي لو وفر لنفسه هدف تأسيس هذا المسرح بعيدا عن الاستعجال والتجارية ؛ فمحمود دياب كتب مسرحيته في عام 1970 ؛ أي بعد ثلاث سنوات من نكسة حزيران ؛ وحيث أمضى هذه السنوات الثلاث مراقبا لمعطيات النكسة واستقراء أسبابها وسبل الخروج منها ؛ وبالتالي قدم نصا متكاملا في نضوجه وطروحاته الفكرية ؛ في حين وجدنا أن معظم الأعمال المسرحية التي تناولت النكسة ظهرت بسرعة بعد النكسة مباشرة مثل مسرح الشوك ؛ فكانت ردود فعل آنية ؛ وبالتالي لم يكتب لها الاستمرار .
ولكن من المؤسف أن ( باب الفتوح) مع تكرار عرضها هنا وهناك قتلها الاجتهاد الإخراجي للمخرجين الذين أخرجوها ؛ فكل مخرج صار يجتهد بإضافة ما شاء من بهرجات ولمسات وتفنن في استنباط ديكورات وأزياء ؛ وبحيث أن أهداف المخرجين كانت استعراض قدراتهم على حساب فكرة المسرحية وأهدافها ؛ وبالتالي قُتلت هذه المسرحية على أيدي المخرجين ؛ ولم تعد سوى من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية.
نفس الأمر يمكن أن نقوله عن رائعة ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) فهذه المسرحية السياسية التي حققت نجاحا في بدايتها ؛ سرعان ما قتل المخرجون فكرتها باجتهاداتهم الإخراجية ؛ وشخصيا شاهدت عرض هذه المسرحية حوالي سبع مرات من قبل سبع فرق مسرحية عربية ؛ وفي كل مرة كنت أجد أن المسرحية قد صارت ساحة لاستعراض عضلات المخرج وقدراته اكثر من أن تكون مجالا لعرض الفكرة التي تحملها ؛ وأيضا بسبب ذلك صارت هذه المسرحية من الذكريات الطيبة عن مسرحية سياسية عربية .
التهريج أم السياسة
ما عدا بعض المسرحيات القليلة جدا مثل ( باب الفتوح) و ( حفلة سمر من اجل 5 حزيران ) يرتبط المسرح السياسي في قناعات وممارسات المسرحيين العرب بالكوميديا ؛ أو بالأحرى ؛ وبصراحة قاسية ( بالتهريج ) ؛ وكأن المسرح السياسي العربي لا يمكن أن يظهر إلا في أحضان الكوميديا (إذا التزمنا التهذيب ولم نقل التهريج ) ؛ فمسرح الشوك رغم أهميته كتجربة مسرحية لم يكن سوى قفشات كوميدية تعتمد على نجومية ( غوار الطوشة) الشخصية الشهيرة التي تقمصها دريد لحام ؛ ولهذا عندما قدم بعض المسرحيين في بيروت نفس فقرات مسرح الشوك في عام 1969 كان نصيبهم الفشل لان الجمهور كان يريد رؤية (غوار الطوشة) في المسرحية ؛ ولا يهم ما سيقال في المسرحية .
والأعمال التي قدمها دريد لحام بعد ذلك في إطار فرقة تشرين كانت تتكيء بالدرجة الأولى على نجومية دريد لحام وقدراته على الإضحاك عبر شخصية غوار الطوشة ؛ وهذا لامانع منه لولا انه وصل إلى حد الابتذال في معظم الأعمال المسرحية التي تصنف نفسها سياسية ؛ ويمكن أن نستشهد هنا بمسرحيات لعادل إمام مثلا ؛ وكمثال نتوقف قليلا عند مسرحية حملت اسم ( دستور يا أسيادنا ) قدمها الفنان احمد بدير وتحت تصنيف المسرح السياسي في عام 1995 ؛ وحيث حملت إعلانات العمل عبارة ” المسرحية السياسية …” بالإضافة إلى الضجة الإعلامية التي رافقت عرضها بعد أن منعت وزارة الثقافة المصرية عرضها بسبب “خروج الممثلين عن النص وعبارات الابتذال والنقد غير المبرر لشخصيات سياسية حية “.وفي الواقع لم يأت قرار إيقاف العمل إلا دعاية كبيرة مجانية للعمل ؛ إذ اجتمع المثقفون ونقابة المهن التمثيلية والمثقفون واحتجوا وتضامنوا مع احمد بدير وفرقته ؛ وخاصة بعد أن روج احمد بدر بان قرار المنع جاء بسبب الأفكار السياسية الجريئة التي يطرحها العمل ؛ وفعلا ؛ وبسبب ضغط الفنانين والمثقفين والإعلام تراجعت وزارة الثقافة المصرية عن قرار المنع وعاد العرض للعمل ؛ ولكن ليشكل صدمة كبيرة للذين تضامنوا معه لانه في الواقع لم يكن إلا كتلة كبيرة من التهريج والعري الرخيص غير المبرر والنكات المبتذلة ؛ وكل ذلك تحت يافطة المسرح السياسي .
وفكرة العمل تدور حول مواطن فقير يبتكر طريقة للتخلص من فقره بان يرشح نفسه لانتخابات رئاسة الجمهورية كمنافس لرئيس الجمهورية الذي أعيد انتخابه مرارا ؛ وهي فكرة جريئة بالتأكيد ؛ ولكن بحسب النقاد المصريين الذين شاهدوا العمل ” سيطرت على إخراج هذا العمل روح التجارة في المسرح ؛ فهناك أجساد كثيرة عارية بلا وظيفة واضحة ؛ وهناك ممثلون كثيرون يتحركون بلا أدوار حقيقية وكل شيء موظف للنجم الأوحد الذي يجيد إلقاء النكات والتهريج المبتذلة…”
في النتيجة
نستطيع القول انه لا يوجد مسرح سياسي عربي بما تعنيه التسمية من معنى ؛ بل هناك محاولات تظهر فجأة بعد أحداث سياسية هامة كطفرة الأعمال التي ظهرت بعد نكسة حزيران ثم انطفأت بسرعة ؛ بينما كما قلنا إن المسرح السياسي في الغرب موجود ومستمر وينجح باستنباط مواضيعه بعيدا عن الآنية والانفعالية ؛ وبالتالي ولا يمكن أن نقارن المسرح السياسي في الغرب بقرينه في الوطن العربي ؛ وان نسأل لماذا لا يوجد مسرح سياسي عربي مثل المسرح السياسي في الغرب ؛ فهذا يعني ترفا لا لزوم له الآن ؛ فالمسرح العربي كله يعيش أزماته القاتلة ؛ وعندما ننجح في إعادة الحياة إلى المسرح العربي من البديهي أن تعود الحياة إلى المسرح السياسي أيضا ؛ وعندها يمكن النقاش حول المدارس والأساليب التي يجب اتباعها لتفعيل المسرح السياسي ضمن تفعيل دور المسرح العربي ككل .

إيران: أدب السجون في “قسم المحكومين” لـكيهان خانجاني

بعد انتصار الثورة الإيرانية تراجع “أدب السجون “وغلب على النصوص الاستعارات والرمزية وذلك خوفا من الرقابة

تفتتح شخصية زاباتا رواية “قسم المحكومين”، للروائي الإيراني كيهان خانجاني، بهذه الجملة:”فتحوا الباب، ورموا في السجن فتاة” التي كانت قد صدرت في عام 2017. وفي أقل من 4 أشهر، صدرت الطبعة السادسة لها، وحصلت على جائزة “أحمد محمود”، الذي بدوره عانى من مصادرة رواياته ومنعها، ثم حجبت ومنعت، ثم أعيد إصدارها. فزاباتا يستعيد ماضي السجناء بجملة: “في سجن لاكان ألف حكاية وحكاية”، على طريقة “ألف ليلة وليلة”. فكلما حكت شهرزاد حكاية، تحدث فجأة انتقاله لشخصية جديدة، ومن ثم تعود لأصل حكايتها. 

وكان نجاح الرواية يظهر في الندوات المقامة في المدن الإيرانية التي استضافت الكاتب، إلى أن ظهرت مقالة هجومية أدت إلى منعها. وجاء في كتاب المنع’قسم المحكومين’ “كتاب تعليمي لتهريب المخدرات! مع حصوله على ترخيص من وزارة الثقافة، رغم ترويجه الرذيلة واللامبالية والحث على الفجور”. وكان الكاتب مهدي مرادي، قد نشره في موقع “فرهنك سديد”، التابع لمركز “جرفا للدراسات الثقافية الاستراتيجية”، المركز المؤثر في اتخاذ بعض القرارات في الشأن الثقافي الإيراني، ومنها منع الكتب، كما حدث مع رواية “قسم المحكومين”.

ومنذ الجملة الأولى، يظهر صاحب المقال “مرادي” أنه غير مطلع على النص وأحداثه، فقد حصر السجناء في هذا القسم بالمحكومين بالمؤبد والإعدام، بينما الأمر ليس كذلك بتاتا، إذ كتب في مقاله التحريضي: “ينتظر القارئ متى سيعتدي الـ250 سجيناً في القسم على الفتاة الداخلة عليهم… وليس النص سوى استغلال القارئ في أجواء إيروتيكية. يروي كيهان خانجاني روايته عبر أدبيات سخيفة، وشرح لتفاصيل القتل وتعاطي المخدرات، وتعليم طرق تعاطي المخدرات وإخفائها، وأساليب الانتحار”.

وامام هذا المنع وهجوم “مركز جرفا للدراسات الثقافية الاسترتيجية”، رحبت أصوات أدبية نقدية بالرواية، واعتبروها تؤسس لـ”خطاب الصمت”، حيث كتب محمود رضائي في مقالة نشراتها صحيفة “إيران” في العدد 6865″ تلك الفتاة، هي شهرزاد قسم المحكومين، ولكن على خلاف “ألف ليلة وليلة” الراوي هنا رجل يريد كل الحكايات في ليلة واحدة، وكأن له حق الحياة لليلة واحدة فقط”، وفي نهاية الرواية يطلب الرفيق المهندس من زاباتا أن يكف عن تقليد السجناء، ليروي واقع حكايتهم الحقيقية للآخرين.

حكايات مترابطة ببعضها، تستعيد فيها كل شخصية من الشخصيات ماضيها عبر قصة حبه “أمه أو أخته أو زوجته أو ابنته”، إلى أن ينتهي به المطاف في سجن لاكان: الخان، الذي يمثل الملك والسلطة، وأزمان، السلطة المواجهة لسلطة الخان، واللجوج، والعم الوزير، اليد اليمنى للخان، والأفغاني، والثعلب، وملك الأنوف، والرفيق المهندس، والدرويش، وغاز. ولكل شخصية من هذه الشخصيات أسلوبها في تعاطي المخدرات، مثلما لديها لغة هي وليدة السجن.

تبني المركزية الروائية مع دخول شخصية الفتاة وتنتهي معها، ولكنها تصبح دافعاً لزاباتا لكي يندفع في عرض شخصيات رفقائه في السجن. ثم تنقسم اللحظة الروائية في النصّ على خطين متوازيين: لحظة مواجهة المجرم لوجود فتاة، ولحظة استعادية لما كان عليه قبل دخول السجن. إنها حكاية أخطر قسم في سجن “لاكان” الواقع في مدينة رشت. قسم يقبع فيه أعتى السجناء والمجرمين؛ وكان زاباتا هو الأقل خطورة بينهم؛ إنه مجرد شاب أدمن الحشيش والثرثرة، وحفظ تاريخ ونزوات وآمال رفقائه في القسم. والإحالة في تسمية “زاباتا” هي إحالة مقصودة، فالتسمية مأخوذة من فيلم “فيفا زباطة”، الذي يعكس شخصية إميليانو زباطة الثورية الذي ثار من أجل حقوق الشعب المكسيكي، وهو اسم حاولت السلطة بعد الثورة أن تحفره في الذاكرة الشعبية، عبر دبلجة توحي بأن البطل يمثلهم، وما ثورتهم إلا ثورة زاباتا.

هذه رواية مولودة من رحم أدب السجون الذي لم يكن بعيداً عن الرواية الإيرانية، خصوصاً مع مؤسسه “بزرك علوي”، في روايته التي تغطي فترة تاريخية للسجناء الماركسيين قبل الثورة الإيرانية، كما في رواية “53 شخصا” و”أوراق سجنية”، وإن كانت تعتمد في سردها على جانب السيرة. كذلك كتب هوشنك كلشيري “شاه مرتدي السواد”، وعلي أشرف درويشيان “زنزانة رقم 18″، وشهرنوش بارسي بور “مذكرات سجن”، وعباس سماكار “أنا عنصر متمرد”، ورضى براهني في “ما الذي حدث بعد العرس؟”. وبعد أن تراجعت الأعمال التي يمكن إدراجها في خانة “أدب السجون” مع انتصار الثورة الإيرانية، غلب على النصوص السردية الغموض اللغوي، والاستعارات التي لا يفهمها إلا كتابها، وذلك خوفاً من الرقابة.

ويشعر القارئ مع هذه الرواية أنه أمام حوارات ساخرة ولغة معكوسة لا تتفتح معانيها بسهولة، ومن الممكن تحميلها عدة معان؛ إنها لغة تقصد المتكلم للمحافظة على سريتها وتشفيرها، ليشعروا “بحرية داخل اللغة”.

i24NEWS

أدب السجون في سوريا

قد تمر عشر سنين أو عشرون، وربما أكثر من ذلك بكثير، قبل ان يأتي يوم تصير فيه الكتب التي ترصد حياة السجون وتجارب الاعتقال في سوريا أدب سجون حقيقياً، وتتحول من مسرح لكشف الانكسارات والهزائم واستعراض البطولة في مواجهة الطغاة، إلى كتب تُطبَّق عليها معايير الروايات والمؤلفات الأخرى. عندذاك، ويا للأسف، ربما يسقط قسم كبير منها ويصير مجرد حبر على ورق. حقيقة ستكون محزنة حقاً، لكن هذه الحقيقة يصنعها الكتّاب أنفسهم، كنتيجة حتمية، في رأيي، لوقوعهم تحت ضغط الديكتاتوريات، وربما لاعتقادهم أن كتابة وقائع حقيقية على شكل كتاب أدبي، أي كرواية تخييلية، سيحول دون اعتبارها وثيقة قد يحاسبهم عليها الطاغية. لكن من أين لذلك أن يختبىء أو ينجو من المساءلة، فشخصيات السجون هم الرفاق أو معتقلو الإيديولوجيات الأخرى. أما جواب الكتّاب فجاهز: أدب السجون رواية وليست سيرة ذاتية. وهنا الطامة الكبرى.
قلائل في سوريا كتبوا عن تجربة السجن من دون أن يعيشوها، وخصوصاً أيام المد “النضالي”! “السجن” للروائي نبيل سليمان من أوائل الروايات التي خاضت في المسألة، ثم روايته “سمر الليالي”. ولا يزال ثمة كتّاب حتى اليوم يكتبون السجن وأجواءه من دون أن يعيشوه، مثلما فعل خالد خليفة في روايته “مديح الكراهية”. لكن أن يكتب سجين كتاباً عن السجن فأمر مختلف كلياً وخصوصاً عندما تتكشف اللغة عن أداة عاجزة أمام سطوة الواقع الحقيقي، فتقول دائماً أقل مما نحسّ أو نريد، وتخرج إلى القارئ أقل بكثير مما نزفته أو تنزفه أرواحنا.
في السبعينات افتتح إبراهيم صموئيل أدب السجون الحديث في سوريا، بمجموعاته القصصية الثلاث، “رائحة الخطو الثقيل”، “النحنحات” و”الوعر الأزرق”. كان صموئيل يؤرخ فيها لتجربة حقيقية وعميقة، لكن بلغة رفيعة وبحساسية خلاّق، الأمر الذي جعل تلك القصص بمثابة مانيفست عن السجون السورية، لا تزال الأيدي تتداوله حتى اليوم. ثم انقطعت الكتابات عن السجن طوال الثمانينات حتى أواخر التسعينات، لتعود حسيبة عبد الرحمن فتفتتح مرحلة أخرى بروايتها “الشرنقة” التي صدرت عام 1998. لكن “الشرنقة” التي حددت عبد الرحمن جنسها إذ سمّتها رواية، قد ظلمتها للغاية، لأن اعتبارها هذا جعل النقاد يحاسبونها على هذا الأساس، وليس كونها يوميات ذات حساسية عالية عن تجربة السجن المقيتة. تفتقر “الشرنقة” في اعتقادي الى بعض مميزات الرواية، من تماسك الشخصيات وتطور الحوادث ولغة القص وما إلى ذلك، كما أنها تقع في فخ أحكام القيمة التي تعج بها الرواية. على الرغم من ذلك سيسجل التاريخ الأدبي لحسيبة عبد الرحمن جرأتها التي قل مثيلها، وخصوصاً لجهة كونها أول معتقلة سورية تكتب السجن بلغة أنثى، لم تكترث بكل الضغط الأمني المحيط بها.
أصدر مالك داغستاني “دوار الحرية” عام 2002 عن “دار البلد”، لكن كتابه ظل طي الصمت حتى اليوم. سمّى نصه “لعبة” رغم أنه ينطوي على أدب سجون حقيقي، ويمكن اعتباره رواية. نص واحد متماسك، تندفن فيه تفاصيل المعتقل المشحونة والمكثفة بشكل لماح وغير مباشر، وقد كتبه كرواية مفترضة لحوادث مفترضة، نسجها سجين في عتمة الأقبية، وقصها كما أملى عليه تخييله الخصب، في محاولة حثيثة لاستعارة المكان والزمان، وتحويل محكمة أمن الدولة، التي يخضع للمحاكمة فيها، إلى حديقة، وبرد السجون إلى دفء العشق، وغياب المرأة إلى جسد حبيبة يحضر بكل سطوة الأنثى وهيمنتها. يقول داغستاني في أحد المقاطع: “إن الكتابة كالحب تماماً، فعل مبرر بذاته، إنه أولاً وقبل كل شيء فعل حرية، ولا يحتاج إلى التبرير من خارجه”. جملة أجدها غاية في الدلالة، وقد تنسحب على كل ما يمكن أن يكتب في أدب السجون.
لكن إلى أي حد استطاعت الكتابات عن السجن في سوريا أن ترقى إلى مستوى الكتابة المبررة في ذاتها، أو أن تكون فعل حرية بحق؟!
هبة دباغ افتتحت تاريخاً آخر حين أصدرت كتابها “خمس دقائق فحسب: تسع سنوات في سجون سوريا” في لندن. ويبدو أنها كتبته قبل ذلك بأكثر من عشر سنين. إلى الآن كانت كتابات السجون في مجملها بأقلام معتقلين يساريين، وكتاب هبة الدباغ هو الأول تصدره معتقلة “إخوانية” عن تجربتها، بعدما أصدر محمد سليم حماد، وهو شاب أردني سجن في سوريا، كتابه “تدمر… شاهد مشهود” عام 1998. لكن كتاب دباغ الذي لم يوسم بأنه رواية، كان مليئاً بالمبالغات والشطحات التي أثرت على صدقيته، كأن ينبت لسان إحدى المعتقلات بعد قطعه أثناء التعذيب، أو أن يلتصق جلبابها بجسدها كي لا يتاح للجلاد اغتصابها. يضج الكتاب بمثل هذه المبالغات، كما أنه يمتلىء بالنظرة السلبية إلى الآخر الذي لا يماثلنا في اعتقاده أو إيديولوجيته. الآخر دائماً سيىء في كتاب هبة دباغ. على الرغم من ذلك تقدم الكاتبة وثيقة صادمة لم يتم فضحها قبلاً، حتى لو اضطررنا الى حذف نصفها.
وجد مصطفى خليفة الحل بإصدار كتابه عن السجن،”القوقعة – يوميات متلصص”، بالفرنسية وفي باريس أيضاً. أول ما قد يتبادر إلى ذهن القارئ أنه جريء للغاية، وتكمن جرأته في تخلص الكاتب من محاولات الكتّاب السابقين، بالعربية، الالتفاف حول الحقيقة، سواء بالأسماء المستعارة أو بتحوير الأماكن وما إلى ذلك. لكن الرواية، التي تفضح الواقع السياسي السوري في السجون، لم تطبع بالعربية، ويبدو أنها لن تطبع في وقت قريب.
لم يمر زمن طويل على ذلك حتى نشر لؤي حسين كتابه “الفقد” سنة 2006، معتبراً إياه “حكايات متخيلة لسجين حقيقي”، وذلك كمحاولة ربما للهرب من سطوة الرواية، إلا أن الكتاب كان مضمخاً بلغة متماسكة، وبتفاصيل، رغم قلتها، موحية ومؤثرة.
خلال هذه السنة أيضاً أصدرت مي الحافظ روايتها “عينك على السفينة”، وقد ظلمت كتابها حين سمّته رواية. فعلى الرغم من المشاهد المؤثرة والتفاصيل المثيرة التي تنتشر على طول صفحات الكتاب، ومع أن الكاتبة بذلت جهوداً حثيثة لتحليل شخصيات المعتقلات السياسيات، اللواتي يشكلن عصب الرواية، فإن الاستعاضة عن الأسماء الحقيقية بأسماء مستعارة لا يحقق المطلوب، وهو خلق مسافة بين الراوي والحادث، ولم يكن ذلك كافياً لحقن الشخصيات بالدلالة، ولا لحقن النص بشحنة روائية خاصة، ذلك أن النص وقع في كثير من الأحيان في فخ المباشرة الشديدة والآراء المنجزة التي دفعتها مي الحافظ في وجه القارئ بشكل صادم. إضافة إلى أن لغة الرواية، وهنا مشكلتها الكبرى، لم ترق إلى لغة القص وهي تنوء بالأخطاء، مما يحوّلها من رواية إلى مشروع نص لا غير.
لطالما ناوشتني في هذا الموضوع تساؤلات عدة: لِمَ الكتابة عن السجن، وهل يحقق النص الجمال المطلوب، وهل سأغدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟ يرى إيتالو كالفينو أننا “في الكتابة في حاجة إلى تركيز فولكان، الإله الحداد القابع في فوهات البراكين، وحرفيته المهنية لتسجيل مغامرات عطارد، الإله الخفيف الرشيق بقدميه المجنحتين”. أسمح لنفسي بأن أستعير قول كالفينو هذا في معرض الحديث عن أدب السجون: كم نحن في حاجة إلى حرفية اللغة ودلالاتها اللامتناهية وإلى نحت الكلمات كي نستطيع التعبير عن ذاكرة السجون المعششة في أرواحنا. وكم نحن في حاجة إلى ألم السجن وتجربته المشدودة كوتر في أعماقنا كي نهب اللغة تلك الحقنة من الواقعية المؤلمة الى حد الإنهاك!

روزا ياسين حسن

المصدر: النهار

أدب السجون بين جمالية القراءة وقسوة الحكايات

الناس نيوز :

ربما يستوقفنا، أو يثير تساؤلنا، ذلك المنحى الجماليّ الذي ينحو بالقارئ للصبر على استساغة أو هضم جرعةٍ مبالغٍ فيها من الألم والمعاناة، وهو يطالع كتاباً عن آداب السجون، والذي سيأخذه بالبداهة في منعرجاتٍ ضيقةٍ وعميقةٍ ومظلمةٍ من ردهات التعذيب والألم والصراخ، الذي تلفّه روائح الدم والقيح، والذي لن ينجو منه دون أن يسبغ عليه مسحةً من الكآبة، التي تطول أو تقصر حسب طبيعة المتلقي.

ينبغي الإقرار أنَّ معظم من كتبوا في هذا الباب، وإنْ هم ذهبوا مذهب الأدب المترامي في فضائه، والرحب في إتاحة المزيد من الحرية للكاتب، إلّا أنَّ الموضوع بمرارته وقسوته المكثفة، تبقى تشدّ الكاتب إليها، فلا ينفلت من عقال سرديتها التوثيقية، وإن ابتغى إلى ذلك سبيلا، فمقدار الإثارة المتصاعدة والمتواترة، التي تحبس الأنفاس وتسارع معدلات نبض القلب في كثير من الأوقات، والتي تتعدّى حدود الطبيعة والفعل الطبيعي، الذي يغري في تتبّع أثره وتفاصيله أكثر مما يغري بالركون إلى عالم التخيّل السردي.

يخبرنا “جورج أورويل” أنَّ الكاتب عموماً يكتب مدفوعاً بمدى وعيه للجمال الخارجي، وبالترتيب الدقيق للكلمات ومدى تناسقها وإيقاعها، وبصدى تلك الكلمات لدى المتلقي. كما يخبرنا “غاستون باشلار” في كتابه (جماليات المكان) أنَّ بؤرة الطيف الجمالي في الصورة، إنما تكمن في قدرتها على إثارة الدهشة في النفوس، حتى لو كانت الدهشة أمراً مرّاً ومليئاً بالألم.

مَن منّا على سبيل المثال لم يستمتع بتفاصيل مدهشة من فيلم “سبارتاكوس” بالرغم من مرارته وقسوة مشاهده!
هنالك تمايزٌ واسعٌ بين مَن كتب عن السجون على خلفية المعاناة والتجربة الشخصية، فكانت كتابته تغتني بالتوثيق والاستناد إلى مخزون الذاكرة أكثر مما تغتني ببراعة البلاغة والأسلوب وسعة الخيال، وبين من كتب عنها بريشة الفنان، الذي وسَّع اطلاعه على هذا العالم القاتم بطرائق مختلفة، ثم أعاد تشكيلها بريشته البارعة، كما فعل “عبد الرحمن منيف” في روايتيه (شرق المتوسط) و(الآن هنا)، و”نجيب محفوظ” في رائعته (الكرنك).

تشدُّنا آداب السجون والروايات التي تتحدث عن المعتقلات وعوالم التعذيب في وجه من أوجهها، بجمالية الإثارة التي يبعثها كشف المخفيّ المليء بالأهوال، فكأننا نستمع إلى إنسانٍ عائدٍ من الجحيم الذي تتحدث عنه الكتب المقدسة، بالرغم من كل التصوّرات القبلية التي تنبئنا بشكلٍ مستفيضٍ ومتكررٍ عن أهوال وأحوال تلك العوالم، إلّا أن سماعها من إنسان قد شهدها بذاته، له متعة الكشف الجديد الممتلئ بمعنى التحقّق.
كما يسعى المطالع لهذا النوع الخاص من الأدب، للتعرّف على أنماط شديدة الغرائبية في المقاومة والإصرار على الحياة، بالرغم من ظلال الموت التي تخيّم على عموم المشهد، الذي يفتقر للحياة أصلاً.

في رواية “برنارد شلينك”: (القارئ)، والتي تحولت عام 2008 إلى فيلم يحمل الاسم ذاته، من بطولة “كيت ونسليت” و”رالف فاينس” والذي حصل على جائزة الأوسكار، سنكتشف جمالية كشف ذلك الجانب الوحشيّ القاتم من التكوين الإنساني، حتى عند السجّان الساذج البسيط، الذي شكلته آلة الدعاية النازية على نحو متوحشٍ مختلفٍ عن الطبيعة الإنسانية.
ربما سنجد أنَّ من مؤشرات الجذب، الذي يحوزه هذا الضرب من ضروب الأدب، أنَّه يمتلك طيفاً واسعاً من الاهتمام والتشاركية، فهو أدبٌ تُعنى به النخب المثقفة والسياسية، إضافة لحضوره الواسع في قطاعاتٍ شعبيةٍ، نادراً ما تعنى بأصناف أخرى من الأدب.

يعتبر أدب السجون من الآداب العابرة للحدود وربما للقارات، لأنَّ السجون عموماً تشكّل مشتركاً تاريخياً في حياة الشعوب، ودعامةً أساسيةً من دعامات الأنظمة المستبدة الحاكمة، وهي تزداد قوةً وباساً وفظاعةً، بمقدار تطوّر الانسان وتنامي قدرته على توظيف منتجه العلمي والتقني في خدمة توحشّه، وتحوّله لإله من آلهة التعذيب التي تتباهى بقدرتها الفائقة على صناعة الألم وإذلال المعذبين، ومع تطور تقانات الاتصال وشيوع المعلومات ووصولها بالسرعة الفائقة، ستجدنا حين نتحدث عن سجن (تدمر الصحراوي)، سيستدعي هذا بالضرورة الحديث عن معتقل (قصر النهاية) و(أبو غريب) في العراق، وسجن (تازمامارت) في المغرب، وعن سجن (الباستيل) في فرنسا، وعن سجن (هنري شاريير) في مستعمرة غويانا الفرنسية، وصولاً إلى سجون النازية المتعددة.

لقد حققت رواية (الفراشة) لـ “هنري شاريير” انتشاراً عالمياً عبر ترجمتها للغاتٍ عدة، وبطبعاتٍ متكررة بلغت حداً قياسياً، وكما يرى المتتبعون، فقد كان لها بالغ الأثر في إلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا.

يمكن لنا أن نلاحظ أن الروايات التي تتحدث عن أدب السجون المعاصرة عموماً، هي روايات تتحدث عن سجون ومعتقلات في دول العالم الثالث، حيث تغيب الديمقراطية ويتألّه الحكام وتستعبد الشعوب، ومع انفلات الكثير من شعوب المنطقة العربية على وجه الخصوص من عقال حكامهم، بفضل الربيع العربي وإن تعرض هذا الربيع لانتكاسات حادة، إلا أنه أتاح القدرة للعديد من الناجين أن يتحدثوا ويكتبوا، عن عوالم بقيت لسنوات طويلة طيّ الكتمان لا يسمع الناس عنها إلّا همساً، والمثير للسخرية أنَّ بعض الدول المتحضرة، حين تحتاج لقمع خصومها، تلجأ لإدارة معتقلاتٍ متوحشة في بقع جغرافية خارج حدودها، كما فعلت الولايات المتحدة في سجن (أبو غريب)، وكما هي السجون السرية التي تديرها بعض وكالات الاستخبارات الأوروبية، في بقاع شتّى من العالم.

محمد برو .

أدب السجون.. صورة حية لمقاومة الاحتلال

  • غزة- وليد عبد الرحمن

التاريخ: 15 يناير 2020

الأسرى الفلسطينيون في سجون الاحتلال، يلامسون المطر والثلج الأبيض قبل أن يبلل وجوههم، وبدأت الجباه تتفتح، اشتدّت زخات المطر، وبدأوا يركضون في ساحة السجن، ولكنهم خارج حدود الزمان والمكان.

يركضون جميعاً، الشيوخ والشباب والأطفال ويحلقون بسعادة حتى تحرروا من قسوة وسطوة السجن والسجان، وأصبحوا أكثر حرية من السجّان الذي شعر لحظتها بأنه السجين الوحيد رغم امتلاكه مفاتيح الأبواب، وهم الأحرار الطلقاء رغم أنهم أصحاب محكومات عالية ومؤبدة.

وعلى الرغم من التعذيب والمعاناة التي يواجهها الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية، إلا أن الحياة اليومية للقهر والظلم في ظل احتلال لا يعرف الرحمة ويمارس أنواع العذاب بحق الأسرى تخلق نسيجاً قوياً بين أصحاب الفكرة والقضية الواحدة من العلاقات الإنسانية المتميزة التي تجمع المعتقلين وتؤلف بين قلوبهم، وهذا ما أسهم في إيجاد تربة خصبة تنمو فيها الإبداعات، لتبني نموذجاً ذا نكهة جديدة تسجلها اللحظات التأملية التي يحياها السجين بعيداً عن ذويه.

ونجح الأسير الفلسطيني في أن يخرج فناً وأدباً جيداً يؤرخ ويوثق الحياة التي يعيشها، ويعبر عن ذاته بشكل جيد وينقل تجربته داخل سجون الاحتلال في قصائد وحكايات ومسرحيات وتسليات جميلة وصادقة، والقسم المشترك للأعمال الأدبية التي خرجت من السجون هو التصوير الحي للصمود.

مجموع هذه الإبداعات التي ولدت في أقبية السجون وعتمة الزنازين وخلف القضبان، والتي خرجت من رحم المعاناة والوجع اليومي والمعاناة النفسية التي كانت نتاجاً لفنون السجان في التعذيب والتنكيل كانت تمنحهم الصبر والصمود أمام أيام السجن.

أدوات بسيطة

كانت باكورة العمل المسرحي قد بدأت في سجن «الجنيد» عام 1984 كتب فيها الأسرى المسرحيات وشاركوا بعروض عرضت داخل غرف السجون وبأدوات بسيطة، وتطورت موهبتهم خلال سنوات الأسر فأصبحوا الآن كتاباً ومخرجين وفنانين تعرض أعمالهم على المسارح.

يقول الأسير المحرر جهاد غبن لـ «البيان»، والذي أمضى 22 عاماً داخل السجون الإسرائيلية، إن اللجان الثقافية في بعض السجون كانت تنظم بين الحين والآخر مسرحيات تستثمر فيها المواهب المتوفرة، حيث كانت تتم التدريبات بالسر، وبعدها يُفاجأ الأسرى في «الفورة» بوجود مسرحية، وقد استمرت هذه الأعمال في السجون حتى عام 2000، وبعدها منعت إدارة السجون هذا النوع من الفن من خلال ملاحقة الأسرى ورشهم بالغاز، ثم نقل الأسرى إلى سجون جديدة تمتاز بغرفها الصغيرة ولا مجال للعروض المسرحية بداخلها، واكتفى الأسرى بعدها بالأدب ووسائل الترفيه عن النفس.

أما عن الموضوعات التي كانت تتناولها المسرحيات فقد أفاد غبن بأنها في الغالب تكون وطنية عن حب الأرض والشهداء وزيارة الأهل للأسرى، ومنها ما يكون حزيناً، أو كوميدياً يصحبه نقد ساخر عن حياة الأسرى لنشر الفرح في السجن.

الشعر وأدب السجون

امتدت جذور الإبداعات التي تخلقت في السجون الإسرائيلية في التاريخ الفلسطيني، وثمة أسماء عديدة كتبت الشعر والنثر وأصحابها يقبعون خلف الزنازين من الأدباء الذين جادت قرائحهم بالشعر والنثر، وسجلوا تجربتهم وهم في السجون الإسرائيلية.

يقول هشام عبد الرازق الأسير المحرر ووزير الأسرى سابقاً، والذي أمضى 21 عاماً داخل السجون الإسرائيلية لـ«البيان»: إن الأسرى ركزوا في أعمالهم الأدبية على موضوعات الفخر والحماسة بصفتهم مقاومين رفضوا الظلم الواقع عليهم وعلى شعبهم، إضافة إلى محاولتهم نقل تجربتهم وتجربة من حولهم، ويضيف أن أدب السجون تناول وصفاً دقيقاً للحالة الشعورية والنفسية للكاتب والأسرى من حوله ووصف المكان والزمان.

ويضيف عبد الرازق شهدت مرحلة انتفاضة الحجارة تنوعاً في إبداعات المعتقلين وتطوراً كمياً في النتاجات الإبداعية، وقد تحول الأدب من ممارسة هواية وثقافة جمالية، إلى مشاركة نضالية في أحداث الانتفاضة وزخمها الثوري.

وشهدت هذه الفترة الزمنية زيادة ملموسة في عدد الكتب التي صدرت للمبدعين المعتقلين، وأولت دور النشر والمؤسسات الثقافية والمجلات والصحف عناية خاصة بأدب المعتقلات.

انعكاس للواقع

ويقول عبد الرازق إن «الأسير الذي يكتب الأدب هو انعكاس للواقع الذي يعيشه، ومن أهم الأعمال التي كتبتها ديوان «الجِراح» وهو عبارة عن شعر نضالي مقاوم إضافة إلى رواية «فرسان الحرية»، والتي تتحدث عن تاريخ الحركة الأسيرة، وكذلك رواية «شمس في ليل النقب» عام (1991)، مشيراً أن هناك العديد من الكتاب والأدباء الذين تألقوا داخل السجون وكتبوا عدداً من الدواوين.

أما نهاد جندية والذي أمضى 24 عاماً داخل السجون الإسرائيلية فيقول لـ«البيان»: إن المعتقل الفلسطيني بفكره ومحتواه الثوري والنضالي، يشكل هدفاً أساسياً للاحتلال الإسرائيلي الذي كرس كل اهتمامه وطاقاته للتشويش على وعي وفكر الأسرى، وتشويه سلوكهم وأفعالهم النضالية، من أجل جعلهم في حالة شك لإحباط توجهاتهم وتفكيك قدراتهم الكفاحية والثورية، بهدف تحطيم وترويض إرادتهم وصمودهم.

ويضيف جندية: إن من الأساليب التي سعى الاحتلال لممارستها على المعتقلين الفلسطينيين لتنفيذ مخططاته، سياسة الإفراغ الفكري والثقافي، التي تهدف إلى زرع ثقافة مشوهة بديلة، تعمل على صياغة نفسية المعتقل من جديد وتطويعه وفق إرادتها، لهذا قامت سلطات الاحتلال بإعلان الحظر التام على الثقافة الوطنية والإنسانية، بل على كل وسيلة ثقافية، حتى الورقة والقلم والكتاب، فقد كانت سلطات الاحتلال تعتبر أن امتلاك ورقة وقلم في وقت من الأوقات من الأمور المرتبطة بالحضارة والرقي، لهذا لم يسمح الاحتلال بأن يتوجه معتقلوه نحو رفاهية الحضارة والرقي، بل عليهم أن يبقوا تحت القهر والإذلال وكتم الأنفاس.

مراحل مهمة

مرحلة السبعينيات نجح فيها المعتقلون في فرض مطالبهم على إدارة السجون.

وفي هذه الفترة شكّلت الرسائل التي يبعثها المعتقل إلى ذويه الكتابة الأدبية الأولى من خلف القضبان، حيث حاول المعتقلون في رسائلهم استعمال ديباجات إيحائية معينة لجأوا إليها لتمويه الرقيب الإسرائيلي، فكانوا يختارون أبياتاً من الشعر أو عبارات من النثر، يسطرون بها رسائلهم.

وقد كان الأدب أكثر التصاقاً بواقع المعتقلين، فقد كان وسيلة للتعبير عما يعتمل في النفس البشرية.

وكان التعبير بالشعر البدايات الأولى في إبداع المعتقلين، فهو أسرع الأنواع الأدبية استجابة للتعبير عن المعاناة.

أما في فترة الثمانينات فقد تطور الإبداع وتعدد لدى المعتقلين، ففي هذه المرحلة اتسعت مساحة الثقافة والمعارف لدى المعتقلين بعد السّماح بإدخال الكتب الثقافية المتنوعة، وخاصة الكتب الأدبية التي كان نصيبها من الرقابة المشددة أقل من الكتب السياسية، ما سمح للمعتقلين بفرصة الاطلاع على نماذج عديدة دعمت التجربة الإبداعية لهم.

وقد استطاع المعتقلون في فترة الثمانينيات تهريب نتاجاتهم الإبداعية إلى خارج المعتقل، واهتمت الصحف والمجلات المحلية بنشر إنتاجهم، ما شجعهم على مواصلة الكتابة وتطوير إبداعاتهم.

وعكف الأدباء المعتقلون جاهدين من خلال نتاجاتهم الإبداعية، لأن يكونوا صادقين مع تجربتهم، أوفياء لقضيتهم، يسجلونها بصدق وأمانة، لأنها تعكس ما يجول في خاطرهم من مشاعر وطموحات وتحديات وروح عالية، وتمسك بالهدف السامي الذي اعتقلوا في سبيله.

رواية”عناق الأصابع″ ومعاناة الأسرى

صدرت رواية”عناق الأصابع″للأديب المقدسي عادل سالم عام 2010عن دار شمس للنشر والتوزيع في القاهرة…..تقع الرواية التي صمم غلافها اسلام الشماع في 365 صفحة من الحجم المتوسط.

مدخل: “أدب السجون” والكتابة عن التجربة الإعتقالية ليست جديدة على الساحة الفلسطينية والعربية وحتى العالمية، وممن كتبوا بهذا الخصوص: الدكتور أسعد عبد الرحمن في بداية سبعينات القرن الماضي(يوميات سجين)كما صدرت مجموعة قصص(ساعات ما قبل الفجر) للأديب محمد خليل عليان في بداية ثمانينات القرن الماضي، و(الزنزانة رقم 706) لجبريل الرجوب، وروايتا(ستائر العتمة ومدفن الأحياء)وحكاية(العمّ عز الدين) لوليد الهودلي،و”رسائل لم تصل بعد” ومجموعة”سجينة”للراحل عزت الغزاوي و(تحت السماء الثامنه)لنمر شعبان ومحمود الصفدي، و”أحلام بالحرية”لعائشة عودة، وفي السنوات القليلة الماضية صدر كتابان لراسم عبيدات عن ذكرياته في الأسر، وفي العام 2005صدر للنائب حسام خضر كتاب”الاعتقال والمعتقلون بين الإعتراف والصمود” وقبل عام صدرت رواية”المسكوبية” لأسامة العيسة، وقبل أشهر صدرت”الأبواب المنسية” للمتوكل طه، وفي العام 2011 صدرت رواية “سجن السجن” لعصمت منصور، و”ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي” للقائد مروان البرغوثي، وأعمال أخرى لفلسطينيين ذاقوا مرارة السجن، كما أن أدب السجون والكتابة عنها وعن عذاباتها معروفة منذ القدم عربيا وعالميا أيضاً ومنها ما أورده الأستاذ محمد الحسناوي في دراسته المنشورة في مجلة”أخبار الثقافة الجزائرية” والمعنونة بـ”أدب السجون في رواية”ما لاترونه”للشاعر والروائي السوري سليم عبد القادر، وهي (تجربة السجن في الأدب الأندلسي- لرشا عبد الله الخطيب ) و ( السجون وأثرها في شعر العرب.. –لأحمد ممتاز البزرة ) و( السجون وأثرها في الآداب العربية من الجاهلية حتى العصر الأموي- لواضح الصمد )  وهي مؤلفات تهتم بأدب العصور الماضية ، أما ما يهتم  بأدب العصر الحديث ، فنذكر منها : ( أدب السجون والمنافي في فترة الاحتلال الفرنسي – ليحيى الشيخ صالح ) و( شعر السجون في الأدب العربي الحديث والمعاصر – لسالم معروف المعوش ) وأحدث دراسة في ذلك كتاب(القبض على الجمر – للدكتور محمد حُوَّر)
أما النصوص الأدبية التي عكست تجربة السجن شعراَ أو نثراً فهي ليست قليلة، لا في أدبنا القديم ولا في الأدب الحديث: نذكر منها ( روميات أبي فراس الحمداني ) وقصائد الحطيئة وعلي ابن الجهم وأمثالهم في الأدب القديم . أما في الأدب الحديث فنذكر : ( حصاد السجن – لأحمد الصافي النجفي ) و (شاعر في النظارة : شاعر بين الجدران- لسليمان العيسى ) و ديوان (في غيابة الجب – لمحمد بهار : محمد الحسناوي) وديوان (تراتيل على أسوار تدمر – ليحيى البشيري) وكتاب (عندما غابت الشمس – لعبد الحليم خفاجي) ورواية (خطوات في الليل – لمحمد الحسناوي)  وقد يكون آخر إصدار هو رواية (ما لا ترونه – لسليم عبد القادر).

عنوان الرواية: “عناق الأصابع″ عنوان رواية عادل سالم عنوان مباشر وفاضح للمحتل الاسرائيلي، الذي يحرم الأسرى وذويهم حتى من المصافحة والعناق اثناء الزيارة، وللتذكير فان قوانين الاحتلال بخصوص زيارات الأسرى شهدت تطورات سلبية متوالية ضمن سياسة القمع المستمرة، فقبل شهر نيسان 1969 كان الأسرى يصافحون زائريهم ويجلسون قبالتهم على طاولة واحدة، يتناولون وجبة طعام مشتركة يحضرها الزائرون معهم من الخارج، وكان يسمح للزائرين بادخال سلة فواكه للأسير قد يصل وزنها الى خمسة عشر كيلو غرام، ومنذ ذلك التاريخ منعوا ادخال وجبة الطعام، ومنذ منتصف  سبعينات القرن الماضي منعوا لقاء الأسرى بزائريهم، ومنعوا المصافحة بينهم إلا من خلال شباك حديدية لا تسمح إلا بدخول الأصابع كل إصبع على حدة، فأصبحت المصافحة بالأصابع فقط، فلا يستطيع الأسير حتى احتضان طفله الرضيع، ولا يستطيع والدا الأسير احتضان ابنهم، كما منعوا ادخال الفواكه.

وفي أواخر ثمانينات القرن الماضي أيضا أصبحت الزيارة من خلف زجاج مقوى وعبر سماعة هاتف تفتح بين الأسير وزائريه، يرون بعضهم البعض من خلال الزجاج الفاصل، ويتحدثون عبر الهاتف، ومنذ منتصف تسعينات القرن الماضي أيضا، لم يعد يسمح بزيارة الأسير إلا لأقربائه من الدرجة الأولى مثل(الوالدين والأبناء والأخوة والأخوات والزوجة فقط) وفي المراحل كلها فان الزيارة لثلاثة أشخاص فقط، ومرة كل أسبوعين في الظروف العادية، وهناك ظروف قد تمنع زيارة السجناء كافة في سجن ما لمدة شهور، أو تمنع الزيارة كليا لأسرى العزل الانفرادي.

وواضح أن عادل سالم قد استوحى عنوان روايته من مرحلة سلام الأصابع عبر الشباك الحديدية الفاصلة.

زمن الرواية: تمتد الرواية في فترة زمنية منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وحتى منتصف التسعينات.

مكان الرواية: تدور أحداث الرواية في مدينة القدس العربية المحتلة، وفي سجون الاحتلال التي يحتجز بها الأسرى ومنها” الرملة، عسقلان، نفحة وشطة”.

الرواية تسجيلية: الرواية التي بين أيدينا رواية تسجيلية واقعية، لا خيال فيها، وحتى الأسماء الواردة في الرواية هي أسماء حقيقية في غالبيتها العظمى، وما يدور في السجون المغلقة على الأسرى  من إضراب عن الطعام، وسقوط شهداء ومرضى، ونضالات لتحقيق مكاسب، وتعذيب من قبل السجانين، وتحقيق الأسرى مع بعض المتساقطين، واعدام بعضهم، وخلافات عقائدية بين الأسرى أنفسهم، هي حوادث حقيقية وواقعية حتى النخاع، وبالأسماء الحقيقية لشخوصها…حتى أن الكاتب سجل التاريخ الحقيقي للحوادث مثل اضراب سجن نفحة الشهير في تموز 1980 والذي استمر لثلاثة وثلاثين يوما، سقط فيه الى قمة المجد الشهيدان باسم حلاوة وعلي الجعفري، وما تبع ذلك من استشهاد القائد عمر القاسم، واسحق موسى المراغي”أبو جمال”….وكذلك صفقة تبادل الأسرى عام 1985، وصفقة تحرير أسرى بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، واستثناء بعض المناضلين من أمثال عمر القاسم وغيره، كلها أمور حدثت على أرض الواقع.

شروط فنية: يبدو أن تركيز الكاتب على السرد التسجيلي لما يدور في أقبية السجون، ومعاناة الأسرى وذويهم، قد أوقعه في كتابة التقارير الصحفية، والحكاية أكثر من كتابة الرواية، وهذا ما يطغى على أسلوب النص السردي.

المرأة: ظهر في الرواية أن الكاتب ركز على الدور التحرري للمرأة الفلسطينية، فخولة شاهين كتبت عقد زواجها على علي النجار المحكوم مدى الحياة، وانتظرته حتى تحرر في صفقة بعد ثمان وعشرين سنة، ومع ذلك فقد استشهد يوم حفلة عرسهما دون أن تزف اليه، وكانت راضية بقدرها.

ورحاب شقيقة علي سافرت الى موسكو طلبا للعلم وهناك أحبت شابا روسيا وتزوجته، وأنجبت منه طفلا، ثم تطلقت منه، وعادت الى القدس تاركة ابنها في حضانة والده، وعملت في مجال الصحافة وتزوجت زميلا لها، بعد أن كاشفته بزواجها الأول، ولم يعترض على ذلك، وأنجبت منه، ولما عرض عليها طليقها الروسي أن تأخذ ابنها منه ليكون في رعايتها بعد أن قرر الهجرة الى أمريكا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عارض زوجها الفلسطيني ذلك، لكنها تحدته وسافرت لاحتضان ابنها، بعد أن انكشف سرها لعائلتها التي تقبلت ذلك على مضض،  ليتبين لاحقا أنها سافرت وإياه للعمل في ألمانيا، ولتعود الى القدس للمشاركة في زفاف شقيقها علي الذي تحرر من السجن، لكنه يستشهد يوم زفافه وقبل أن تراه.

ونضال الأمهات والزوجات في زيارة أبنائهن وأزواجهن، ومشاركتهن في الاعتصامات والتظاهرات التضامنية مع الأسرى كلها أمور كان لها نصيب بيّن في الرواية.

وماذا بعد: تشكل هذه الرواية إضافة نوعية للمكتبة العربية عن معاناة الأسرى الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال الاسرائيلي، والكتابة عنها لا يغني عن قراءتها، فالتجربة النضالية للأسرى فيها الكثير مما يحتاج الى الكتابة والنشر والتعميم.

20-12-2011

(ورقة مقدمة لندوة اليوم السابع الدورية الأسبوعية في المسرح الوطني الفلسطيني في القدس)

موقع جميل السحلوت

“أدب السجون”.. قصاصات تخرج من عتمة الزنازين لتضيء طريق الحرية

في الوقت الذي تواصل فيه مصلحة سجون الاحتلال قمعها للأسرى في السجون، فإن الأسرى لا يتوقفون عن إصدارتهم الأدبية، ويخرجونها من داخل عتمة الزنازين لترى النور، وتضيء طريق الحرية.

مئات الإصدارات خرجت من سجون الاحتلال لمعتقلين، منها ما رأى النور وتم طباعته، ومنها ما بقي حبيس الأدراج ولم يجد من يطبعه، في ظاهرة أدبية وثقافية تسمى “أدب السجون”.

ولعل كتاب الأسير حسام شاهين “رسائل إلى قمر”، آخر ما خرج من السجن، وتم طباعته مؤخرا ووزع، وهو يتضمن 70 رسالة كتبها الأسير شاهين الذي يقبع في السجن منذ 15 عاما.

الخبير والمختص في شؤون الأسرى عبد الناصر فروانة، أوضح أن هناك مئات الإصدارات تخرج من داخل السجون، وهي نتاج عمل المعتقلين سواء روايات أو كتب أو رسائل ماجستير أو مؤلفات، وهذه ما يطلق عليها “أدب السجون”.

وقال فروانة لـ “قدس برس”: ” إن بعض هذه الإصدارات التي خرجت من السجون طبعت ورأت النور، وبعضها الآخر لم يخرج من السجن، وهناك أعمال خرجت، لكنها لم تطبع، وظلت على ورق”.

وأضاف: “هذا يحتاج لتجميع عمل الحركة الأسيرة في مكتبة كبيرة، وطباعة ما يلزم، لأن هذه الأعمال تحكي قصة آلاف الأسرى، وما وضعوه من أفكار في هذه القصاصات بحاجة لجمع لأرشفة أدب السجون”.

وأشار فروانة إلى أن معظم إصدارات الأسرى تركز على الجانب الأدبي، وتحكي ما يجول بخاطرهم سواء كتابات أو أعمال حرفية ومشغولات اليدوية.

واعتبر أن هذه الإصدارات هي جزء العملية الثقافية والتعليمية داخل السجون، التي لم تتوقف رغم محاولة الاحتلال معها ومرورها بمراحل عدة، وتطورت بفعل نضالات وتضحيات الأسرى، إلا أنها لم ترتقِ إلى نيل كامل الحق من إدارة السجن.

وتطرق فروانة إلى بدايات الاعتقال، وكيف فكر الأسرى  في الكتابة رغم صعوبة الأمر؛ لمنع الأقلام والأوراق عنهم.

وقال: “في السنوات الأولى التي تلت احتلال عام 1967، لجأ الأسرى والمعتقلون الفلسطينيون إلى تهريب الأقلام، والكتابة على علب السجائر والأوراق الفضية الرقيقة التي تغلف السجائر، والعلب الكرتونية لمعجون الأسنان وصابون الحلاقة، فضلاً عما كان يقع بين أيديهم من كراتين وقصاصات ورق، وغيرها مما يصلح الكتابة عليها وتدوير المعلومات بشكل سري فيما بينهم، فيما كانت إدارة السجون تجري تفتيشات مفاجئة وتصادر ما يقع بين أيدي السجانين من أقلام وهي نادرة، وأوراق شحيحة، وتعاقب كل من تجد لديه قلماً أو ورقة كتب عليها”.

وأضاف:”في وقت لاحق تمكَّن الأسرى وعبر المطالبات المستمرة، والاحتجاجات المتكررة، والإضرابات عن الطعام، من انتزاع  حقهم في امتلاك القلم والدفتر والأدوات القرطاسية وإدخال الكتب التعليمية، وتبعها انتزاع حقهم في الاجتماعات بين جدران غرفهم، وأحياناً على نطاق أوسع في ساحة الفورة، وعقد مناظرات ودورات تعليمية مختلفة في شتى الميادين، الأمر الذي شكّل أساساً لبناء عملية ثقافية وتعليمية بشكل منظم داخل سجون ومعتقلات الاحتلال الإسرائيلي”.

وتابع: “سرعان ما أدركت مصلحة السجون أهمية ما تحقق بالنسبة للأسرى، وخطورته على توجهاتها واستراتيجيتها، لكنها وقفت مكتوفة الأيدي، عاجزة عن مصادرته أمام وحدة الأسرى ونضالاتهم وإرادتهم القوية وإصرارهم على الحفاظ على ما تحقق، فيما نجحت بالمقابل في التضييق عليهم، وانتقلت من مرحلة منع القلم والورق إلى محاربة المادة المكتوبة، في محاولة منها لإفراغ ما تحقق من مضمونه، ووضعت قيوداً عديدة، وبدأت بتحديد كمية الدفاتر ونوعية الكتب المسموح بإدخالها ومراقبتها والمماطلة في إيصالها، واقتحام الغرف وإجراء التفتيشات المفاجئة ومصادرة بعض الكتب التي سُمح بإدخالها، والمادة المكتوبة على الأوراق وصفحات الدفاتر، وإتلافها، ومنعت الجلسات والتجمعات الثقافية في بعض الغرف متذرعة بحجج مختلفة”.

من جهته قال الأديب الفلسطيني محمود شقير على صفحته على “فيس بوك”: “ليس من السهل ممارسة الكتابة الإبداعية من دون نبض الحياة اليومية، ومن دون التفاعل مع هذا النبض”.

وأشاد بالكتابات الإبداعية التي تخرج من داخل السجون من الاسرى، معددا أسماء بعض الأسرى مثل: حسام شاهين، وباسم خندقجي، وخضر محجز ووليد دقة وسائد سلامة وعائشة عودة وعصمت منصور وغيرهم.

وقال شقير: “لعلنا نلاحظ أن مادة الكتابة تتمّ إما اعتمادًا على الذاكرة التي تستدعي وقائع وتفاصيل عايشها الأسير وهو خارج السجن؛ وإما اعتمادًا على التاريخ أو على قراءات الأسير داخل السجن؛ وقيامه بالتناص مع هذه القراءات”.

وأضاف: “تشكل المعاناة داخل السجن وقهر السجان، وتبادل الخبرات والتجارب بين الأسرى أنفسهم؛ وزيارات الأهل ومتابعة نضالات الشعب وأحوال الناس في الخارج مادة للكتابة”.

واعتبر شقير أن رتابة الحياة داخل السجن وتشابه الأيام والشهور لا تشكل أي حافز للإبداع، “وهنا تتجلّى قدرات المبدعين من الأسرى حيث يصبح الإبداع نفسه عنصرًا من عناصر تحدّي السجن والسجان، وكذلك التشبث بالحياة والأمل في المستقبل”.

وأشار إلى أن  الكتابات الفكرية والسياسية التي مارسها ويمارسها أسرى من أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات وأحمد قطامش أكثر طواعية من الكتابات الإبداعية؛ لأنها تعتمد في الأساس على المخزون الفكري والسياسي للأسير وليس على المعاناة من السجن والسجان؛ وبالطبع دون ان يجدوا صعوبة في التعبير من خلال اليوميات او السير الذاتية عن المعاناة داخل السجون.

أما الأسير المحرر والأديب حسن عبادي صاحب مبادرة “كتاب لكل أسير” فقال على صفحته على “فيس بوك”: “يُعنى أدب السجون الكلاسيكي بتصوير الحياة خلف القضبان وخارجها، كما يناقش الظلم الذي يتعرّض له السجناء، والأسباب التي أودت بهم إلى السجن، حيث يقوم السجناء أنفسهم بتدوين يوميّاتهم وتوثيق كل ما مرّوا به من أحداث بشعة داخل السجن، فهو إن صحّ التعبير، رواية السيرة الذاتيّة، يهتم بوصف وتوثيق التعذيب والمعاناة وكشف البشاعة من وحدة ورعب وزنازين انفراديّة موحشة، وتعذيب نفسيّ وجسديّ وغيرها”.

وأضاف: “جاء أسرانا الفلسطينيّون ليشرّعوا الباب والتعريف، ليصبح أدب السجون الحداثيّ هو الأدب الجميل الذي يُكتَب خلف القضبان، بغضّ النظر عن موضوعاته ومضامينه”.

وتساءل عبادي حول تعريف أدب السجون – هل هو أدب كتبه سجناء؟ أم أبطاله سجناء؟ أم عالم السجن محوره وموضوعه ومادّته؟

ودعا إلى ضرورة جمع كتابات الاسرى بشتى الطرق من اجل نشر ما بداخلهم.

وقال: “لكل أسير قصّة، والقصص العظيمة لم تُحكى بعد، وهناك ضرورة ملحّة لتوثيق قصص أسرانا، ويشكّل الكتاب الهامّ لبنة ضروريّة في فسيفساء لم يكتمل”.

المصدر وكالة القدس برس انترنشيونال

لحسن اوزين: مقاربة روائية لسردية أدب السجون

تمهيد

حاولنا في هذه القراءة لأدب السجون أن نسلط الضوء على رواية الآن هنا لعبد الرحمن منيف، من خلال مجموعة من الروايات، في نوع من التفاعل الخلاق بين النصوص الإبداعية المؤسسة  لتشكل القارئ في النص كمُفعل لمتخيل الكتابة، انطلاقا مما تتيحه خلفيته الثقافية في إدراك حضوره النصي والتاريخي الاجتماعي، خلال سيرورة التدليل، وهو يحاول انتاج الدلالة وبناء المعنى. النصوص السردية الراقية فنيا وجماليا هي التي تورط القارئ في متخيل الكتابة وتجعله معنيا بتشكله الجمالي، حيث هو ملزم بتعبئة الكثير من الشقوق والفجوات، بشكل محايث يجعله متمفصلا مع البناء الفني للرواية. حسب هذا الفهم حاولنا مقاربة الرواية بعيدا عن سلطة النقد في فرض تصوراته النظرية وجهازه المفاهيمي بشكل إجرائي حارما نفسه كقارئ من لذة ومتعة النص، وهو يحاول فهم نفسه أكثر مما يسعى الى فهم شيء آخر مغيب في النص.

فخلال قراءتنا للرواية كانت تحضر بشكل عفوي وتلقائي تجربة محنة السجن من خلال بعض الروايات التي ترسبت بشكل أو بآخر في سجلنا الثقافي الواعي وغير الواعي. وكانت لنا تلك الروايات لكل من عبد اللطيف اللعبي وعبد القادر الشاوي وعبد الرحمن منيف بمثابة موجه إرشادي لتحقق عملية التفعيل لما قرأناه حول أدب السجون من أعمال إبداعية.

أولا * القارئ و تفاعل النصوص الروائية

(شردت أسر وخربت آمال ودمرت أحلام ومرت طاحونة القهر على طموحات أجيال كاملة بدون موجب حق . اقرأ صفحة الماضي قبل أن تطوي أيها اللبيب. اقرأ هي شاهدة على كل شيء اقرأ فلا شيء يضيع مهما أوهمتنا لحظة الجبروت …لا شيء يبقى إلا الحقيقة العارية)1

 لا أذكر كيف ومتى وجدت نفسي أدخل في علاقة نادرة وموجعة مع مجموعة من الكتابات حتى صارت جزءا مني . نصوص تسكنني كقوة غريبة تتحكم في تفكيري وحياتي. هل هي معاناة الجوع والعري والقهر، أو ربما الصدفة هي التي دفعت بمثل هذه الكتابات في طريقي . بما أنني أكره لغة الصدفة والظروف كما يتداولها الأذكياء فإنني لا أستطيع أن أجزم في سر هذه العلاقة. إذا كنت واثقا من شيء فلعل الحياة هي التي علمتني كيف ألتقط تفاصيلها الحية حتى في ثنايا الكتب. لا تستطيع أن تفلت مني لحظة، موقف، سلوك…، لها تفاعلاتها الخصبة مع ذاتي كلها . ربما تلك الأشياء التي تشكل الناس في مساراتهم على اختلافها هي التي ربطتني بكل القراءات التي عشتها ولا أزال كجزء من كياني ووجودي. الكتابة حرفة ومسؤولية، أو مهنة صعبة كما يقول ناظم حكمت. ليس بإمكاني أن أدعي القدرة على ذلك. وإذا كنت أكتب اليوم فليس لأني أعشقها عشقا جنونيا. إنما أدركت ببساطة أن لي الحق في الكلام، والأكثر من ذلك الحق في الحياة ( وقد زادت دهشتي حين قرأت الورقة الأولى. وها قد عرفت ولا يمكنني أن أعيش اليوم كما لو أنني لم أعرف )2.  لا أعرف كم مرة قرأت الرواية وفي كل مرة، أو أثناء كل قراءة كانت تنتابني الشكوك حول المعاني التي أعطيتها لشقوق النص، لفجواته كما يقول النقاد .كانت تعصف بي التأويلات الخيالية بين قوة النص الفنية وبين الشكل الروائي الجدير بالدراسة والتنظير. الشيء الأساسي من هذا كله هو أنني كنت أعتقد ومقتنع الى درجة كبيرة بضرورة الكتابة. هي المرات الكثيرة التي كتبت فيها حو ل الرواية لكن سرعان ما كنت أمزق ما كتبته بدعوى أنه لا يرقى الى مستوى الكتابة النقدية. وفي الوقت نفسه أحس بضرورة الكلام ( كيف أستطيع أن أبقى بعد ذلك صامتا كشيطان أخرس أو أن أبقى عاقلا كما لو أني أقرأ كتابا أصفر أو أستعيد حلما قديما خابيا)3.  أريد أن أقول للناس بأن هذه الرواية سكنتني وأنها لا  يمكن أن تقبل بالصمت والقراءة المترفة ( إذا تحول الانسان الى شاهد أخرس الى شاهدة قبر الى شيء عقيم فعندئذ يفقد مبرراته كلها)4.  قرأت لكتاب كبار كما يقول النقاد لكن وأنا أقرأ ” الآن..هنا” انفجرت ذاكرتي ووقفت جميع النصوص التي كنت أظنها قابعة في ذاكرة النسيان، في ذلك الجزء المهمل والمهمش القريب الى مستودع الأشياء التافهة، إلا أن جدلية القمع والكتابة كان لها رأي آخر في استحضار ما تم ادماجه بطريقة التآزر التدريجي لتطور سيرورة معرفتنا. هكذا فُتحت ذاكرتي على كل السجون، في اللغة، العادات، الثقافة، وفي المأكل و المسكن …

أتوقف أثناء قراءتي . أعرج بعيدا بحثا عن الجلاد في تفاصيل الحياة. في كل قراءة أزداد قناعة بضرورة الكلام وقهر الصمت ( وهل أقوى على ابتلاع هذا الكم الهائل ليس من الأوراق وإنما من العذاب وحدي )5. وحدي لا أقوى على تحمل هذه الرواية لابد أن يقرأها الجميع، أو على الاقل أن أكتب ما بدا لي ضرورة للحوار والقراءة. كمتلقي اقتنعت بهذا الحق في القراءة والكلام دون أن أدعي الحقيقة فيما أقول. النصوص التي قرأتها سابقا كانت تقطع قراءتي، تمارس شغبها، تقفز من منطقة مجهولة في الذاكرة فتقتحم بنزق سيرورة القراءة.  وهي كتب تتداخل فيها نصوص الرواية والنقد، وتفاصيل الحياة والمعيش اليومي. إن شيئا قريبا من لذة النص الذي تناوله بارت بمتعته الخاصة يحدث الآن وأنا أقلب جمر صفحات رواية ” الآن ..هنا”  ( أن أكون مع من أحب وأفكر في ذات الوقت في شيء آخر هكذا أتوصل الى أحسن الأفكار وأخترع بصورة أفضل ما هو ضروري لعملي . كذلك شأن النص يبعث في لذة أحسن إذا ما تمكن من أن يجعلني أنصت إليه بكيفية غير مباشرة إذا ما دفعني وأنا أقرؤه الى أن أرفع رأسي عاليا وأن أسمع شيئا آخر. فلست بالضرورة مأسورا بنص اللذة قد يكون فعله خفيفا معقدا دقيقا شاردا على وجه التقريب،  كحركة رأس طائر لا يسمع شيئا مما ننصت إليه،  ينصت الى ما لا نسمعه)6. وما علاقة قراءتي بالتصور النقدي لجمالية التلقي؟ أقرأ الرواية لكنها تحيلني على روايات أخرى بين السطور، نوع من حوار النصوص، مستوى فني أخر للرواية كان يرتسم في ذاكرتي، معاني ثانية مضاعفة و كثيرة تقفز وتفرض نفسها. أسئلة لا حصر لها تنفجر، ( هل أستطيع أن أغادر وأترك جميع هؤلاء دفعة واحدة، ولكي لا أراهم مرة أخرى أي قلب يحتمل، وهل أملك من القوة ما يجعلني قادرا على البقاء ولا أتبدد الى آلاف القطع)7 . ربما هذا المقطع يقصدني، يبلورني كقارئ ضمني في الرواية، يقحمني في التجربة، دون أن أنتبه الى متخيل الرواية في قدرته الرهيبة على أن يورطني في محنة السجن، حيث لم يعد بإمكاني أن أقول نجوت، لأن وجها واحدا على أقل من وجوه السجن العديدة يلفني، ويجعلني واهما بحرية العبيد التي أنا في خدعتها مجرد سجان بئيس على نفسي.  هكذا كانت صفحات الكتابة تستوقفني بطريقة لا تخلو من الاستفزاز على قبول وضعية مقايضة حريتي برضا الخوف الذي يدثرني. فأكتشف أنا هذا أو ذلك الموقف يستهدفني . هذا الترتيب للوقائع هو تسلسل منطقي فني يختفي حين أكتشف متخيل الكتابة الذي يجعل الشخصية المضمرة ظلا لي.  يقحمني النص في لعبة فنية نادرة بين كوني قارئا، وشخصية داخل المحكي، ومواجهة المصير نفسه. كنت أكتشف منطق القراءة في شكل الكتابة. وبذلك أتحول الى قيمة أدبية أو قل الى تفاعل بين فنية الكتابة وجمالية القراءة،  لا أستطيع أن أضع الكلمات التي تعنيني، ربما علاقتي باللغة سيئة جدا، حيث ما أحسه وأعيشه لا يمكن أن يختزل في عبارات متداولة. لم أعد أملك الخيار نفسه قبل أن أقرأ الرواية. فمع قراءتي الخطية كانت نصوص تخترقني لتتلاحم بالرواية. تضيء الكتابات الصادقة قراءتي، وأكتشف بفرح عارم طفولي لا يخلو من معاناة هذا التفاعل الخصب بين القراءة والكتابة ( تكتب أو تقتل احذر أن تفهم أن هذا الانذار موجه إليك من جلاد ما. إذا تجاوزت سطحية الرمز ستعرف أن صوت التاريخ هو الذي يتكلم. وهو يعبر عن أحد أعنف قوانينه. كل صمت تقصير في حق الحياة. كل يوم يمر دون أن تكون على موعد مع الكلمة يمثل انكسار فرع من شجرة الحياة. وبعبارة بسيطة كل كلمة تضيع هي صوت يخنق، صرخة يائسة لا تجد لها صدى. فضيحة تسقط في مستنقع الأحداث التافهة)8. كلما أنهيت قراءة الرواية أجدني مرة أخرى أعيد قراءتها. لم يكن من السهل علي أن أتخلص منها وأرمي بها كما أقدف بأي كتاب آخر، شعور ما كان يلازمني وإذا كان لي أن أعترف بهذا الشعور فربما القراءة فجرت الأسئلة ولم تعد تقبل بالصمت لغة مألوفة. وربما أيضا لم يعد بإمكاني أن أنسى طالع، عادل، سلوى والآخرين، لا أستطيع أن أخون الأشياء الجميلة التي فجروها في داخلي. ( ليس الخروج من الحمام مثل الدخول إليه عندما يكون المرء قد تحمل مسؤولية أرواح وآمال وتاريخ و هلمجرا،  لا يمكنه أن يقول بين عشية وضحاها لكم طريقكم ولي طريقي)9. لم أستطع أن أفعل ذلك حتى لو أردت. وبصراحة كلمة أردت ليست سهلة كما كنت أعتقد. أشعر عند كل قراءة للرواية أنني مطالب بفعل ما ( الانسان لا يمكن أن يترك يده أو أي جزء منه ويمضي دون أمل، دون عودة. هل نقوى على ترك هؤلاء الخمسة ومادا نستطيع الآن؟ كيف يجب ان نتصرف؟)10.  تقف كل السجون التي أعرفها في وجهي، ويعرفها الآخرون أيضا. يمر عشرات الرجال قربها دون أن يفكروا بمداهمتها وإخراج المعذبين منها حتى يلامسوا الشمس والهواء والأشياء والناس. أسأل نفسي لماذا تسكننا البرودة كما تسكن الرطوبة زنازن شرق المتوسط كلما وضعت الرواية إلا وأشعر ( أني تركت قلبي، جزءا منه)11.  كانت الأسئلة المحرقة .. الوجوه واللحظات العنيفة للحرية، والحياة الحقيقية تلاحقني. لم تكن لتخيفني مراحل التعذيب، لم يمسسني الخوف، طوال الطريق كنت معنيا بالصمود بالقيء والدم وسوط الجلاد، وبصلابة وقوة الانسان وأرادته العظيمة. لم تكن قراءتي مسلية ولا مجانية، بل هي كما يقول الناس الملح والطعام الذي نتقاسمه مع الذين نحبهم.  كنت أشعر أن أجمل شيء أقدمه لأحبائي ولطالع وعادل اللذين ساعداني على الكلام هو أن أواصل القراءة وأنا في وضعية ( تلزمني السيطرة على تنفسي وجعله يتطابق مع ايقاع الضربات الشهيق عند ارتفاع اليد بالسوط والزفير عندما تهوي. الشهيق والزفير بهدوء دون أن يتبين الجلاد ذلك. لكن يلزمني في نفس الوقت الانفصال عن تنفسي نسيانه لأتمكن من تخيل صور أخرى أمكنة أخرى أزمنة أخرى)12.

هكذا هي الرواية تحكي أشياء كثيرة، لكنها في الوقت نفسه تحيلني على عوالم أخرى، طفولتي المستعادة، والقهر الذي عشناه في حي فقير. وضعت نفسي في الذكرى حتى أرى الجلاد أين كان يختبئ،  و ما هو القناع الذي كان يلبسه يومئذ؟ والآن كيف غير مساحيقه؟ تمثلت موقف طالع حين ضربت سلوى، فماذا أفعل وأنا شاهد على كل هذا العنف الدموي ولم أتكلم ( سوف تمر ألف سنة والسؤال الذي لا يبرح خيالي والذي يجعلني حائرا ومملوءا بالذنب الى آخر الأيام هو كيف استطعت أن أرقب كل هذا الذي جرى أمامي ولم أنبس بكلمة، لم أبك كيف؟)13 وعيت هذا الموقف، خفت أن ينطلي علي، كانت القراءة تدعوني للفعل ولم أجد أمامي غير الكتابة ( ما يستعصي على التعبير هي ذي معضلتك هذه المهنة الصعبة التي تجترها في رأسك ويديك مند بواكير شبابك دون أن تستطيع أبدا النفاد الى سرها )14.  لم يكن بإمكاني أن أصمت كما أنني خفت أن أسيء الى حياة الآخرين، الى أجمل ما قدموه من تضحيات ( لست مهرج أحد ما على الذي أو التي تلتمس الهزل وحده إلا أن تمضي لحال سبيلها، لست بائع كلمات أتسمعني، أكتب بحياتي بمجازفاتي ومخاطري وبمجازفات ومخاطر ذاك أو تلك التي يمكن لهذا الأمر أن يسليها أو يثير اهتمامها للحظة )15. أعتقد أنه ليس من حقي أن أصمت أو أرفع صوتي ناكرا دور هؤلاء الذين أيقظوا في قلبي الانسان. وضعوني في وسط الحلبة، صارعت أعزلا من أي سلاح إلا من حريتي وجسدي، كنت لا أريد أن ( أظل كسلحفاة خائفة أحاول أن أتقي نظرات الشهيري وإذا تجرأت فأوجه إليه الشتائم بصوت لا يخرج من اللهاة وأدعو الله أن يحل المشكلة نيابة عني وعن جميع البشر وأشارك بالقلب وحده سلوى وهي تتلوى ثم وهي تسحب، وحين قال الشهيري كإله سومري أعيدوه شعرت بالفرح لأني نجوت)16 لا أستطيع أن أضع الرواية وأقول نجوت. فهمت أن كلام طالع يعنيني ويقصدني في دلالاته الواضحة، وهو يؤسس وجودي النصي والتاريخي الاجتماعي كفرد ينتمي الى أحد سجون شرق المتوسط بشكل أو بآخر. وفي هذا الحضور في عمق التجربة أكتشف ذاتي، وأختار طريقي الذي يحررني من الخوف الذي لوى لساني، فالدرب لايزال محفورا في خلايا جسمي: ( تلك الظروف التي تنعدم فيها أبسط الحقوق الانسانية والقانونية. فالعصابة موضوعة على العينين باستمرار والقيد لا يفارق اليدين والكلام ممنوع بين المعتقلين زيادة على رداءة التغذية وعدم كفايتها مع غياب النظافة وانعدام أدنى رعاية طبية. وقد كان مفروضا على المعتقلين أثناء المدة التي قضوها في المعتقل السري أن يظلوا منبطحين على جنوبهم أو ظهورهم ولا يسمح لهم بالجلوس إلا أثناء فترة الأكل القصيرة. وكل مخالفة لما ذكر تعرض مرتكبها للعقاب القاسي والجلد بالسياط)17.  هي المرات الكثيرة التي كنت أشتم فيها، فبعد كل صفحة أمتلئ بالحقد والغضب، والثقة في النفس.  كانت تسافر بي خيالاتي وأفكاري بعيدا في البحث عن السبل الممكنة لتقوية الانسان داخل الإنسان، من أجل القضاء على السجن. هذا هو الأفق الذي ترسمه الكتابة وهي تحاول تفكيك السجن، أي هدمه نهائيا. أحيانا يبدو لي أن أخطر سجن هو شكل الحياة الذي نعيشه، أي ما تراكم عبر التاريخ الطويل. الكتابة في الآن هنا هي امتداد لصمود الجسد، الكتابة أداة للمواجهة بين السجن والحرية، الكتابة كما هو الجسد: ( جسد الانسان صخرة طاقة لا تنضب ولا تعرف الانتهاء والإرادة رغم أنها تبدت وخبت. إلا أن ذلك الفتيل الباقي يجعل كل شيء قابلا للاشتعال من جديد)18 الكتابة متخيل لا تعكس، لا تمثل واقعا حقيقيا، ليست رؤية ثابتة خارج الزمن التاريخي. إنها لحظة في السيرورة، فعل له آلياته الخاصة. إذا كان الجلاد ينظر الى الذات في سقفها الجسدي فرؤيته ضيقة، وعاجزة عن كسر إرادة الانسان. ما أفهمه أن الكتابة أفق الذات، أو بتعبير آخر يمكن للكتابة أن تشتغل كممارسة لها منطقها الخاص، لا تستطيع أدوات الجلاد أن تقف في وجهها. “الان هنا”  تستحضر الواقع والقارئ من خلال منطق وآليات الكتابة في تمفصل رائع. الكتابة هي هذا العمق الذي يجعل من الذات قادرة على الصمود والاستمرار. إذا كان الجسد يخضع للقهر والتعذيب، للتهميش والالغاء من دائرة الحياة فإن للجسد منطقه الخاص، له آلياته وارتباطاته المتبادلة التأثير والتأثر، يعني يمتلك جدله المميز. إن ما يميز الجسد في الرواية هو المتخيل وليس الروح، أو النفس. هل أحسنت الفهم والتأويل. لم يكن ذلك ليهمني إلا بدرجة فهمي للرواية على أنها امتداد لتجربة السجن، وليست تصويرا أو توثيقا للتجربة. السجن كما تطرحه الرواية هو المتخيل الثقافي، أو شفرة اللاشعور الثقافي الاجتماعي الجمعي الذي يصوغ حياة الناس، ويحدد نمط إدراك الناس ومستوى وعيهم. يتحول الى قوة مادية متحكمة وضابطة للمعيش اليومي ونمط التفكير والسلوك. جسدان في حالة صراع الى حد الاستنزاف. الجلاد يصيبه التعب والارهاق والمرض، بينما جسد المعتقل يدخل في مرحلة أرقى مطورا آليات المقاومة متشبثا بالحياة رافضا للموت. الكتابة كمتخيل فني هي إحدى تجليات إرادة الحياة، هي جزء عضوي تتبلور  في صراع مع امتدادات تجربة القهر والتعذيب وزرع الخوف في الناس ليرضوا بالعيش في ذل السجن العام، الكتابة بهذا المعنى مرحلة متقدمة من السيرورة الاجتماعية الثقافية والإبداعية. لهذا يتضح لنا بأن الكتابة في الآن هنا قناعة متجذرة في عمق الذات ( يجب أن أتحول الى صخرة )19. لا مجال للتردد أمام ( معجزة الحياة أن تكون إنسانا ما هو إن لم يكن الشعور بهذه المعجزة الدفاع عن هذا النبض الذي يجعلنا نظراء متزامنين للبشرية جمعاء، رفض اختناق هذا النبض. الالتحاق بنبض العالم،  هذه المغامرة الفريدة للحياة التي تسري فيه)20.

 شيء ما كان في داخلي يتكسر يضعف ويتلاشى الى أن يمحي، في وقت كانت نواتي تتصلب تزداد قوة وثقة. ولكي أكون إنسانا كان علي أن أدفع من لحمي الحي. هل كنت أقرأ أم كنت طرفا في الصراع. الكتابة شكل آخر لهدم الدهليز، لانبعاث الانسان النائم والمخدر في عمق الجلاد( فالإنسان مخلوق جبار قوي وذكي لأنه قادر على تحمل المصاعب وتجاوزها)21. فكل شيء يتوقف على ( نقض منطق الجلاد وقلب معادلة قواميسه. الانسان معلق مند ساعات. يداه ورجلاه المقيدة قد تورمتا الآن بشكل كبير رأسه يتدلى في الفراغ، لقد بلغ الألم الذي يسحق جسده تلك الدرجة التي تتجاوز كل تصور أوإدراك. الصفراء تبقبق في فمه، يؤمر للمرة الألف بأن يتكلم، يفقد وعيه، يفيق من جديد. الضربات تنهال من جديد بلا هوادة. الحشد يواصل رقصته الوحشية )22 أية مقاربة نقدية تستطيع أن تموقعني خارج القيء والألم والضربات التي لا تهدأ؟ أية ادبية أو جمالية أكثر من حفلة التلقي هذه التي أنا في زحمتها؟ .شيء ما في داخلي يوترني ليس السبب في ذلك أنني تماهيت الى درجة الاختفاء أو أني لم أستطيع أن آخد موقعي النقدي. اختلفت مع طالع وعادل في أشياء كثيرة، لكن ( هدم السجون الداخلية التي نحملها في أعماقنا، وبالتالي هدم سجون كثيرة بما فيها العالية الأسوار والموجودة تحت الأرض لابد ان نهدمها بالكلام والجرأة في خرق الصمت )23 لا يدعي عبد الرحمن منيف، وكل أدب السجون عمل الانبياء لكن بإمكاننا أن نفعل الكثير دون أن نخلق أوثانا جديدة. هكذا اقتنعت( بأن الحياد في أي شيء أكذوبة كبيرة . فالإنسان يحب ويكره يفرح ويحزن ولأنه تعلم النظر الى الأشياء بطريقة معينة فإنه يقيم هذه الأشياء وفقا لتلك الطريقة والذين قضوا الشهور والسنين شهرا وراء آخر سنة بعد أخرى في ذلك المكان العاتي الرجيم في سجن العبيد ولا تزال على جدرانه بقع من دمائهم وأجزاء من لحومهم إضافة الى صرخات الألم وآهات الأحزان. إن هؤلاء الناس لا يمكن ان يكتبوا عن سجن العبيد بحياد أو بدم بارد ) 24.

لا أستطيع أن أمزق صرخات وأحزان الناس، وأنا المعني بسجون شرق المتوسط ، لا يمكن أن أتحول الى بائع كلمات، ولست واحدا من تجار الصمت ( إنني بمجرد الاقتراب من هذا الجو استعادته أشعر أن كل شيء داخلي يتغير يتوتر جسدي وأصاب بحالة من الشراسة قد أرتكب معها الحماقات كلها، بل وأصبح مستعدا للحرب حتى ولو كنت وحدي)25. أستحضر تلك الليالي العنيفة وأنا أقرأ الرواية، ( وأتذكر تلك الليالي الطويلة كنت أحشد إرادتي وأنا أرى عيونهم المحتقنة تطل مثل فوهات النار وأسمع أصواتهم تهدر من كل مكان، يجب أن تعترف فأقول لنفسي الفرق بين الحياة والموت لحظة والفرق بين الصمود والسقوط لحظة)26. سر الصمود هو تلك الاشياء الجميلة الغامضة، إنها أشبه بنداء قوي يشبه الطوفان( أنت الآن في مواجهة التحدي الكبير إما أن تصمد أو أن تسقط ويشمخ في داخلي نداء عات. صوت كانه الطوفان الإنسان لحظة قوة وقفة عز فاحذر. تتقوى ثقة الانسان بنفسه بقواه الظاهرة والكامنة التي يعرفها أو التي يدركها في لحظة المواجهة. يكتشفها بفرح عارم الله .. كم في الانسان من قوى غير قابلة للكسر والالغاء)27. خلال لحظات التعذيب التي أنا في مرجلها بين صفحة وأخرى تتشكل الكتابة كآلية إنسانية، تتحرك تلك الأشياء الغامضة التي تجعل الانسان صامدا ( كنت أمتلئ بشيء غامض لكن طاغ وكثيف وقد افترضت أن أية تضحية في سبيل هذا الشيء ليست مقبولة فقط بل وضرورية الى أقصى الحدود)28.  الانسان لا يستطيع أن يحدد حقيقة هذه الاشياء التي تجعله صلبا كالصخرة أثناء لحظة التعذيب لكنه لا يملك  موقفا آخر غير مواصلة الصمود والعناد.( الى وقت متأخر، وربما الى الآن لم أستطع أن أحدد طبيعة هذا الشيء الذي أدافع عنه هل هو الكرامة الشخصية الإنسانية، هل هو اليأس أو الاستقالة الكاملة من الحياة )29 إن هذه الاشياء التي كانت غامضة ومتمثلة في العناد سرعان ما يتضح أنها قناعة قوية بحق الانسان في الحياة والحرية، و لا مساومة في ذلك، خصوص بعد هذا الخراب الذي نشرته آلة التعذيب والقمع الرهيبة .( من العار بعد هذا الإذلال والعذاب، أن أقدم لهم لحمي عشاء شهيا يتمتعون به. ثم إني أدافع عن قضية عادلة وبسيطة. حقي وحق الآخرين في الحياة والحرية، وهم يدافعون عن امتيازاتهم وعن السلاطين والشيوخ الفاسدين ولذلك يجب أن أكون أقوى منهم، لأن قضيتي هي المشروعة)30. تلك الأشياء الغامضة والإرادة الصلبة والقناعة بحق الحرية والحياة، هي التي تواصل فعلها من خلال الكتابة كشكل من أشكال الصمود. الكتابة تضعني عند لمسها والحفر فيها وجها لوجه مع الجلاد، مع السجن في حقيقته السياسية الاجتماعية والثقافية. تقحمني الكتابة في عالم الكتابة الذي هو عالمي المعيش. تصبح الكتابة مرجعا واقعيا، يتحول الوقائعي الواقعي فآخذ موقعي الذي هو موقع الرفض والفضح والتعرية. ما أبشعنا ونحن ننام على إيقاع صرخات المعذبين. متى تأتي الرياح التي تخرج القلوب من أقفاصها. تصير قراءتي كتابة. أحاور، أبحث أحتج( وجدت نفسي أغرق في تلك الأوراق، كنت وأنا أتوغل في ذلك العالم المجنون أزداد مرارة وحقدا وأزداد اقتناعا أيضا أن هذا العار الذي حملناه معنا فترة طويلة. يجب أن ينتهي وأن يزول)31. أهدأ وأفكر بجدية وأقول مع نفسي كيف يمكن أن يزول السجن؟ أبحث وجهة نظر عادل حول أهمية الكلمة كسلاح شجاع. أتأمل حالة الانهيار الشامل التي أصابت المجتمع، خصوص بعد التحولات العربية والعالمية الأخيرة. أنظر لمحاولة الدولة التقليدية معاودة انتاج الاشكال السياسية لمعاودة إنتاج نفسها كاستبداد مستحدث، وهي تغرق الصراع السياسي في الصراع ضد الإرهاب والأسلمة، مما يحررها من طرح المشكلة الحقيقية على أنها مشكلة سياسية.

كتابة لا تتركني ألتقط أنفاسي، لا تمنحني لحظة راحة. أقرأ الأوراق وأعيد قراءتها. كتبتني بقدر ما قرأتها( كانت أوراق طالع موجعة، نازفة، قلت لنفسي لا بد من نشرها)32. لو لا قناعة عادل بقوة الكلمة لما عرفت أوراق طالع طريقها الى النشر. أنه يرفض استمرار تجارب الناس وفق أسلوب الذاكرة الشفوية التي أنتجها الخوف والصمت ( ألا تعتقد أن الجبن يكتسي كل يوم وجها جديدا، قناعا جديدا وإلا كيف نفسر هذا الفرق الهائل بين ما يقع كل يوم وعلى مرأى من الآلاف ولا نجد ما وازيه من وقائع مكتوبة ؟ ولماذا يكتفي الناس في بلدي بهذه الذاكرة الشفوية وحدها طريقة للتعلم والتواصل ثم التاريخ؟)33. كانت الأسئلة تتلاحق ، أو بالأحرى تطاردني كما لو أني في حالة طوارئ قصوى. تستفزني بقدر ما تكشف عن حقيقة السجن ( ما أفكر فيه السجن الداخلي وهو أن يرضى جميع الناس بالبقاء في هذا السجن، عدا مجموعة صغيرة للحراسة، وهذه المجموعة ذاتها دائمة الخوف لأنها لا تعرف متى ستلتحق بالآخرين وتدخل السجن أيضا. لو كان شعور الناس بالحرية حقيقيا لتقلص السجن الى حدوده الجغرافية وربما انتهى. لكن مادام الناس هكذا فإن السجن لن يبقى أحد خارجه)34.

تبدو لي الكتابة في الآن هنا كصمت الذات أمام المحقق والجلاد، لها المفعول نفسه، تعمل على كسر الخوف والرعب الذب لوى اللسان وغلف القلب بالصمت. كتابة تحررني من الصمت وتهزم الخوف، تولد الغضب وتعري ليل الصمت ونهاره الذي يسربل الانسان في شرق المتوسط بكفن خوف الموت قبل أن يأتي الردى. هاجس الكتابة هو الكتابة التي تحث على خلق ذاكرة إضافية لدى الناس، أي على الأقل ما يمكن اعتباره مساميرا للذاكرة. وحدها الكتابة تفضحني، إذ تفضح واقع الصمت وتضع حدا لأوثاني، وللغة السرية التي تجثم على صدري. لا أحد يستطيع أن يصرخ بالحقيقة في بلديغير المجنون. إني أبارك وأعتز بهذا الجنون الذي ولدته سرديات أدب السجون. ( اللغة السرية في بلادنا وحدها اللغة المتداولة، وهي نتيجة السجن الطويل، سجن الآباء والأديان والأقوياء. ولا أحد يعرف متى يمكن أن تترجم هذه اللغة الى كلمات فوقائع يقرأها جميع الناس ويعرفون في أي مستنقع يعيشون)35

“الآن.. هنا”  ليست رواية عادية، أقذف بها الى متحف الذاكرة. كلما أغلقت الرواية أجد سعد الله ونوس يعيد على مسمعي كلامه الشفاف الجميل النافذ، وهو يحثني كالعادة على أن رحلة الألف ميل تبدأ بالخطوة الأولى( إنها تتعمد أن تظل قولا ناقصا، قولا لا يكتمل إلا إذا أضاف القارئ عليه موقفا أو فعلا)36.

الهوامش

اعتمدنا في كتابة هذا النص على الروايات التالية وهي تندرج الى حدما فيما يعرف بأدب السجون

المصدر الرّأي اليوم

  • عبد الرحمن منيف الآن هنا أو شرق المتوسط مرة أخرى
  • عبد اللطيف اللعبي مجنون الأمل
  • عبد اللطيف اللعبي تجاعيد الأسد
  • عبد القادر الشاوي كان وأخواتها