(15)
وأخيرًَا … انتهي حفل الاستقبال
ساقوهم إلي السجن الكبير … دفعوهم داخل الزنازين … وأغلقوا الأبواب .
لا … لا لم ينتهي الحفل . العرض مستمر .
بدأ العساكر في لعبة جديدة … يهجم العسكري علي باب الزنزانة … أي باب … ويفتحه … ثم يهجم مقتحمًا خطوط العدو … المتحصن في الزنزانة … يطيح فيهم ضربًا … وهو يلقي بالتعليمات .
- عندما يفتح الباب … يقف الجميع انتباه … ثم يعظم … ارفع يدك بالتعظيم … يا ولد … يا ابن الكلب .
وأحيانًا يختار واحدًا منهم … ويدفعه خارج الزنزانة … إلي الحوش … وهو يلاحقه بالكرباج .
- اجري … يا ولد … اجري .
فتتلقفه الكلاب نهشًا … وتمزيقًا …
صفوت الروبي .
كائن … ذو هيكل بشري … يشبه الإنسان … بأطرافه … وجسمه … ورأسه … الخالق الناطق … كأنه آدمي … إلا أنه بلا قلب … هكذا يقول دائمًا … افتحوا صدري لتجدوه … بلا قلب … أيضًا … بلا ضمير … ولو عددنا … بلا … لاستمرينا إلي ما لا نهاية … لعبوا في مشاعره … عكسوا وضعها … الحب تحول إلي ضغن … والسماحة … إلي فجر وغل … والشفقة إلي غلظة وغباء … الشهامة … والصداقة … والإخوة … ومكارم الأخلاق … أزالوها … من الجينات … من الجذور .
الشيء الوحيد … الذي يملأ هذا الكيان … هو الشيطان ذلك هو حكمدار السجن … صفوت الروبي … الذي لم يترك أحدًا دخله دون أن يوقع – علي جسده – بالكرباج … وأحيانًا يكون التوقيع … علي القبر نفسه … ضنايعي في ضربة السوط … لا تخرج إلا بالدم … ونادرًا ما يخطيء الهدف .
ما الذي يدفع الإنسان إلي هذا الدرك ؟
ما هي القيمة التي تحركه … بعد أن فقد القيم ؟
- الإخلاص ؟؟ .. لمن ؟
- حب رؤساؤه ؟؟ .. أي لون من الحب بعد أن تنكر لكل أطيافه ؟
- الانضباط العسكري والأوامر ؟؟ .. العسكرية … نبل … وشجاعة … ومثل عليا الطموح … والرغبة في الترقي ؟؟
في نظام فاسد … نعم .
ولكن ماذا يتوقع الصول … وليس أمامه إلا سلم نقّالي … محدود الدرجات … أو حسبها صح … ولو لم يطمس الله علي آلته الحاسبة اللوامة … لوجد أنها ليست خسارة وحسب … وإنما … ندامة … وحسرة … و … في الدنيا … قبل الآخرة .
أما العساكر … علي الأسود … زغلول الشيطان … سامبو … الديزل … خروشوف … فتحي النملة … حسب استعدادهم الموروث من بيئتهم … فهم مجندون للشر … والقسوة … وأيضًا بلادة الحس … وكسل العقل … لا طموح … ولا أمل … والمطلوب … هو العمياني … الأوامر … ويفضل دائمًا العسكري الخام … سهل التشكيل … والبرمجة .
العسكري جودة … لم يخرج من قريته … طوال حياته … ولم يركب قطارًا إلي يوم تجنيده … أخذوه من قريته … إلي المركز … ثم إلي وحدته … أول مرة يحصل فيها علي إجازة … كانت مدتها ثلاثة أيام … بعد خروجه من الوحدة … تاه … وهو يبحث عن محطة القطار الذاهب إلي بلده … وأخيرًا … اهتدي إليها … ولكن بعد ثلاثة أيام … الإجازة ضاعت في البحث عن المحطة … أمسكته الشرطة العسكرية داخل المحطة … واقتادوه إلي مقر القيادة … فرصة عظيمة … عسكري أبيض … لقطة … نقلوه إلي السجن الحربي … هناك علموه … كلمتين اثنين … الإخوان يريدون قتل الريس … ونحن نأخذ ثأرنا منهم .. الثأر … وما أدراك ما الثأر ؟ .. كانت ضربته في الكرباج مشهورة … انتقام … وما كان يسمعه في التحقيق من أسأله عن قلب نظام الحكم … واغتيال الريس … يزيده اقتناعًا … الضرب مشروع … والفتك غاية مبررة … أولاد الكلب … يريدون قتل الريس … وأين نحن ؟؟ .. كل شيء مباح … ويستحقون أكثر من ذلك …
بدأت أفكار الانتقام والثأر … تهتز في نفس جودة … عندما شاهد أهل كرداسة … فهم فلاحون … تمامًا … مثل أهل قريته … حتى الأسماء تتشابه … رجالة … ونساءً … إلا أن الإهانات المتلاحقة علي العمدة … كانت الأكثر تأثيرًا … حلقوا له جانبًا من شاربه … وأزالوا حاجبًا … ممزق الثياب … أوشك جسمه أن ينحني … وهو يحاول السير جاهدًا … الجروح … بعد مرور يوم عليها … يتكون فوقها قشرة بنية اللون … وعند الحركة … أو الضرب عليها تتمزق القشرة … يتبعها ألام رهيب … العمدة يحاول أن يصمد … وأن يتحمل … أمام أهله … وأمام النساء … وأكثر ما يراه ألمًا … وعذابًا له … هو النيل من عزة نفسه … تركب زوجته ظهره … كالحمار … يضعونه … في مقدمة طابور الجري اليومي … يجري … أو … يحاول الجري … والكرابيج تطاردهم … النساء تولول والأطفال في رعب وهلع .
هل نساء كرداسة … يريدون قتل الريس ؟؟
هل المرأة الحامل … التي تسير – جريًا – برجلين متباعدتين … وهي تسند بطنها بيديها … هل هذه هي صورة التآمر لقلب نظام الحكم . والعروس … زوجة سيد نزيلي … رموها مقبورة في زنزانة حالكة الظلام … صائمة … تعاف الطعام … متكومة في أحد الأركان … تكاد أن يتلاشى جسدها … جف لونها … وبهت … وهي الوردة … في ريعان الشباب … وعِزُّه … ألا تشبه هذه البنت … خطيبته … بنت خالته ؟
جيش الانقلاب … الفلاحي … وزعيمته المرأة الحامل ! !
والأطفال … هم … الفدائيون لقتل الريس ! !
الدبور بدأ يزن في مخه … والأسئلة تنبش في دماغه … مهماز ينخس في فطرته … لتستيقظ … وتصحو … وتزيح غلافًا سميكًا … احكموه عليها … بالتلقين … والتلفيق … وتنفيذ الأوامر … والسجود … والركوع لها … وإشاعة الرعب … والخوف … من مخالفتها أو حتى التقصير في تنفيذها … إلا أنه مع هدير الموج في رأسه … وتصاعد الفوران في داخله … كانت قبضة علي الكرباج تتراخي … وهمته تفتر … وتتكاسل … وأصبح يبحث عن الهروب لأي مهمة أخري … نظافة … أو إحضار الطعام … تجهيز المهمات … وحتى إذا ضرب … هيَّفت ضرباته … وطاش تصويبه المشهور عنه … وأصبح كرباجه … يبحث عن … مكان حول الأجساد … في الفاضي …
مكتوب علي أهل كرداسة أن يجتمعوا يوميًا في طابور العذاب … والإهانة … يخرجون من الزنازين … حفاة الأقدام … جريًا في انطلاق القطيع من البقر … إذا انفك عقاله … وجبة الكرابيج … مستمرة … بسخاء … صياح العسكر … وسبابهم … يوميًا … كل صياح … عذاب متكرر … لا يبدو له آخر … إهانات يستمتع بها الروبي … ويتفنن في تجديدها … تبلغ ذروتها في وجود حمزة البسيوني … الجنرال راكب الحصان الأحمر … الأمل يقتله اليأس … والرجاء يجلد … ويداس بالنعال … إلا أن جرعة اليأس … كانت عند الشيخ صابر … أكبر … نفذت طاقته … واختنق … صبره … وانشرخت نفسه … ثم حدث الكسر .
الرجل الوقور … خلع سرواله … وهو ما بقي عليه من ملابس … فقد جرجروه … من منزله … بالفانلة والسروال … الفانلة تمزقت من الكربجة … الشيخ … أصبح عريانًا تمامًا … بلبوصًا … كما ولدته أمه … وانفلت يجري خارج الطابور … لم تفلح الكرابيج في إيقافه … وهو يصبح في هستريا …
تحيا الثورة … تحيا الثورة … يسقط جمال عبد الناصر … تسقط الثورة … يعيش صابر بن كرداسة … يا ولاد الكااااالب . قفز جودة خلف الرجل … وبمجرد أن حضنه من الخلف انهارت قوته … خر علي الأرض مستسلمًا .
الجنرال صفوت … لا يعرف إلا الأمر :
- مصروف له مائة كرباج .
لم يتحرك جودة .
شخط وقد نفرت عروق رقبته .
- يا عسكري جودة … نفذ الأمر .
الآن … الآن يا جودة … وإلا … فلا توهجت فطرته … وانزاح العطاء … وانكشفت عن أصلها .
- يا حضرة الصول … الرجل جن … والضرب في الميت حرام .
صرخ … وهو يقفز نحوه … ويهوي عليه بالكرباج :
- ماذا تقول … يا روح أمك
رفض الأوامر يا روبي … تمرد … ضاع الانضباط … ومن المتحدي … عسكري … أداة … مجرد أداة …
صاح في العساكر : أمسكوه .
صرف الطابور
ثم بدأ الاحتفال … هذه المرة … ضيف الشرف فيها … الدفعة جودة … زملاء الأمس … يجلدون رفيق الكرباج … الأوامر … أوامر يا جودة … أن تعرف أن دستورنا … هو قلة الأصل … أول مادة فيه … الذي يتزوج أمي … أقول له يا عمي … الموت لك يا صاحبي … هنا في السجن الحربي … لك أن تختار … إما خارج الزنزانة … وإما … داخلها …
ألقوه داخل أحد الزنازين … ثم أغلقوها .
قرية كرداسة الحزينة … تنام تحت وطأة الغزو … والاحتلال …
أخذوا العمدة … وأعيان البلد إلي السجن الحربي … شحنوا النساء مع الأطفال … مع الرجال عمال التراحيل … في سيارات مكشوفة … طافوا بها شوارع البلد … النساء الحرائر … سيدات القرية … والرجال … زينة الرجال … وأعيانها … وأهل الخير والنجدة … هل عادت أيام المماليك … أن تغير اسم كرداسة إلي دنشواى .
الجنود اقتحموا البيوت … وحطموا أثاثها … ومزقوا فرشها … وخلطوا الدقيق بروث البهائم … والسمن والزيت والسكر بالتراب … ومزقوا أجولة القمح … والأرز والفول … بعثروه … مخزون عام من القوت الرئيسي للفلاح … رغيف الخبز … وطبق الأرز … بددوه انتقامًا … لا رحمة … ولا عدل … ولا بشرية … حتى الزرايب … دخلوها … ومنعوا العلف … والماء عن البهائم … التي هزل لحمها … وجف ضرعها .
هؤلاء الجنود … يحملون وجوهًا مثلنا … ويتكلمون مثلنا … لم يستبدلوا اسم … محمد … ومصطفي … وسمير … بجون … ووليم … وجاكسون … ما الذي جري في الدنيا … أين الوطنية … أين المواطنة ؟؟
أيها المواطنون … تصفيق …
عبد الناصر بقامته … يجعر بصوته … هدير الآلاف … تصفق .
أيها المواطنون … أيها المواطنون …
أهل كرداسة … خونة … رجعيون … لقد أعطيت البطل شمس كارت بلانش لمحو كرداسة من الوجود … تصفيق … تصفيق … بالروح … بالدم … نفديك … يا جمال … أيها المواطنون … أيها المواطنون … الثورة مستمرة … وسندمر أي كرداسة أخري … من أجل عزة الشعب … ومن أجل عزة العرب … لا مكان للرجعية … الحرية … كل الحرية للشعب … ولا حرية … لأعداء الشعب … تصفيق … تصفيق … بالروح بالدم … نفديك … يا جمال .
الشيخ مصطفي … مؤذن المسجد الكبير … يسكن بجواره … رجل ضرير … من نتوءات … ومطبات … حتى موضع المخلفات … لم يعد بحاجة إلي دليل … سوي عصاه … التي تسبق خطوة رجله … تحسبًا للمفاجآت … يخرج من بيته يسير وفق البوصلة المزروعة في مخيلته … يدخل المسجد … يرقي إلي المئذة القصيرة … ثم يؤذن … ينزل … نفس الدرجات بعددها … يجلس بجوار المنبر حتى يتجمع الناس … ثم … يقيم الصلاة … و … يصلي إمامًا بهم … المسجد لم يعد مثل أيام مضت … كان يمتليء بالمصليين … خاصة عند صلاة الفجر … كان أكثرهم من شباب الإخوان … يمتلئون حيوية … يسعون إلي الصلاة في همة … بعدها يتحلقون في ركن يذكرون … ويدعون بالمأثور … ثم يخرجون قبل الشروق في طابور رياضة إلي الصحراء القريبة … نموذج … اختفي منذ سنوات … أصبحت صلاة الفجر صفًا واحدًا خلفه … يشعر بهم … ويعرفهم واحدًا … واحدًا … ولله الأمر من قبل … ومن بعد … هذا حال الدنيا … المهم هو الدوام … ويظل باب المسجد مفتوحًا … والأذان مرفوعًا بأعلام الهداية … والفلاح … ونعوذ بالله … من يوم ينقطع فيه .
يوم الشيخ مصطفي يوم نمطي … مطبوع بالكربون … لا يتغير … إلا في هذا اليوم المشئوم … الذي اقتحم أذنيه … الأمر يمنع التجول … الميكرفون نذير السوء … في هذه الليلة السوداء … يحذر كل من يخرج من باب بيته … كان لتوه عائدًا من صلاة العشاء عندما سمع صراخه . وضع جنبه كالمعتاد … وسرعان ما انفصل عن العالم كله … نام … مثلما ينام كل ليلة … ومع النجمة … في الوقت المعتاد أيقظته ساعة مضبوطة بين جنبيه … لا تؤخر … ولا تقدم … الآلة الداخلية … حركته إلي الوضوء … ثم لبس جلباب الخروج … ثم … قبل أن يصل إلي الباب … توقف مترددًا … إلا أنه هز رأسه متخطيًا العتبة … فليس من المعقول أن يمنعوا الصلاة … حظر التجول لا يسري علي الصلاة … سيصلي بالناس … ثم يعودون إلي بيوتهم … يقفلونها عليهم … كأمر الحكومة .
في خطوته المتحسسة سار حتى وصل إلي المسجد … صعد المئذنة … كالعادة … الله أكبر … الله أكبر … الأرجل التي يسمعها … واضحة – رغم صوت الأذان … أرجل ثقيلة … تدب قفزًا فوق درج المئذنة … تزداد وضوحًا … إنها تقترب منه … شعر بالكرباج يلفحه علي أذنه … وبدلاً من نداء التوحيد … خرج صوت الاستغاثة … يد غليظة جذبته من قفاه … ثم دفعته علي الدرج متدحرجًا … إلي داخل المسجد … انكسرت يده … ورجله … وانفلق دماغه … وأيضًا عموده الفقري .
غاب الرجل … عن بيته … لم يعد من صلاة الفجر … ظن أهله أنهم اعتقلوه … أخذوه مع من أخذوه من أهل البلد … بعد ثلاثة أيام رحل الغزاة .
دخلوا المسجد … كان الرجل الضرير … الشيخ مصطفي … ميتًا
وإنا لله … وإنا إليه راجعون .
أيها المواطنون … أيها المواطنون … لقد مات عدو الثورة .
تصفيق … تصفيق
بالروح بالدم … نفديك … يا أبا خالد .
(16)
كانت جالسة … تتناول طعام الغذاء … دخلت أم عبده منزعجة … تعلن وجود زوار … لم يكونوا في حاجة إلي استئذان … هذه هي المرة الثالثة … التي يحضرون فيها … مرتين ليلاً … وقبل الفجر … فتشوا الفيلا … ثم … لا مؤاخذة … خرجوا … هذه المرة يبدو أنه ليس فيها … لا مؤاخذة … شكلهم مختلف … وجوههم مستفزة … علامات الهياج المكتوم تشيع فيها … لم ينتظروا استئذانا … وجدتهم يحيطون بمائدة الطعام … كانت علي وشك دعوتهم إلي الطعام … عندما قال أحدهم … في حزم … ويبدو أنه الضابط .
- الحاجة زينب الغزالي .
قالت في هدوء :
- أهلاً … وسهلاً .
وأيضًا لم يكونوا … في حاجة … إلي أهلاً … وإلي سهلاً … ويبدو أنها قد أصبحت … لا أهلاً … و … صعبًا … وكدرًا .
انتشروا داخل الفيلا … لحقتهم أم عبده إلي غرفة النوم … وهي مع الآخرين إلي المكتبة … قبضوا علي الكتب كلها … واعتقلوا كافة الأوراق … والمجلدات الخاصة بما فيها من صور عائلية … حتى المجلات … حملوها كلها في سيارة نقل .
لم تعترض … نظر الضابط إلي الخزينة … وقال لها :
- المفتاح ؟
قالت : الخزينة خاصة بزوجي … هو رجل أعمال … وفيها مستندات خاصة … والمفتاح معه .
نادي : شخرم
تقدم منه … الوجه وجه إجرام … آثار ضربة سنجة أو مطواة في خده …
- نعم … يا باشا .
قال بلا مبالاة : شخرمها …
تقدم نحو الخزينة … نظر في ثقب المفتاح … ثم قال في ثقة :
- خزينة حريمي … ثواني يا باشا .
أخرج مجموعة مفاتيح … اختار واحدًا في عناية … وضعه في الثقب … ثم وضع أذنه بجواره … وبدأ يدير القرص … يمينًا وشمالاً … وفعلاً … ما هي إلا ثواني … حتى انفتحت … نظر إلي الضابط مزهواً … وقال :
- فرقعتها … يا باشا .
قال الضابط باسمًا .
- هذا أشهر لص خزائن في مصر … الحاجة ستقدم بلاغ ضدك بأنك فتحت خزينتها … وبأمر مني … أنا وأنت … سنذهب إلي النيابة .
رد في جدعنة : يا باشا أنا فداك … أروح تأبيدة من أجلك .
انتهي التفتيش
قالت الحاجة زينب : المجوهرات … والذهب … والنقود … والمستندات … أرجو تسجيلها … وإعطائي إيصال بها .
رد … متجاهلاً : حضري نفسك .
قالت : إلي أين ؟
قال لها : إتمام الإجراءات … خمس دقائق معنا .
الحاجة زينب … حتى هذه اللحظة … كانت تظن أنها لازالت … بنت الأصول … الهانم … وأن مركزها الاجتماعي يشكل سورًا … وعائقًا … أي نعم … يمكن القفز عليه في حالات محدودة … مثلما فعلوا في قرار حل جماعة السيدات المسلمات … وتعطيل المجلة … ولا مانع عندهم … من مصادرة ممتلكات المركز العامة وتشريد اليتامى … ولو زادوها فغاية ما يصل إليه الأمر … هو تحديد إقامتها … مثلما فعلوا مع النحاس باشا .
أما أن يصل الأمر إلي إجراءات … وخمس دقائق … فهي تعرف معناها الحقيقي … ولا تفسير غيره … أنه الاعتقال … وهي تعرف أيضًا … أن كل من أخذوه … يبدأ بالخمس دقائق … أو دقيقتين … أو عشر دقائق … التسعيرة معروفة … الدقيقة بسنة … قد تزيد – ولا تنقص . وقفًا لاعتبارات التضخم … أما تسعيرة ” مشوار بسيط معنا ” … فإنها تعني … اتجاهًا … بلا عودة .
الاعتقال ؟ .. يا حاجة .. لم يحدث في أي عهد أن اعتقلوا واحدة ست … لقد كان الحاج محمد زوجها أبعد نظرًا … عندما حذرها من هؤلاء الجبابرة … ليس عندهم كبير … لا اعتبار … ولا حرمة … ولا خط أحمر … ولا أزرق … ولا فرامل … الرب … والإله … والخوف منه … اصطلاحات لا يصلح لها إلا الدراويش … والعجائز … وأصحاب الطواقي … واللبد . القوة … الضابط والحراسة … شقوا طريقهم … السيارة تضرب صفير الطواريء … فتتفتح الإشارات … وتتنحي السيارات جانبًا … لم تتوقف إلا داخل السجن الحربي رغم أن كل الأخبار … كانت تشير إلي وقوع حدث ما … إلا أنها لازالت في حالة من التوهان … منفصلة عن الواقع … تكذب عينيها … العيون مفتوحة … ولكن الكابوس مستمر .
قال لها شمس : أهلاً …
الإفاقة حدثت فجأة … ولكن إحساس سيدة المجتمع لازال يسيطر عليها .
قالت في حدة … وهي تشير إلي الضابط :
- لقد أخذوا مجوهراتي والذهب والنقود … ومستندات زوجي … أريد إيصالاً بها من خلال ضحكة فاجرة :
- تعالي يا حمزة … شوف طلبات بنت الـ … الـ … الـ … فاكرة نفسها ستخرج من هنا علي رجليها … سندفنك هنا يا بنت الـ ..
ثم صاح :
- صفوت … ما هو قانون السجن الحربي .
رفع الكرباج … وهوي علي ظهرها … غاص طرفه في الجسد اللين … نبع الدم :
- هذا هو القانون … يا باشا .
قال … وهو يصفعها علي أذنها بكفه :
- حاضر … يا باشا .
أدار ظهره ليدخل إلي المكتب .
- الشاي … والقهوة … ولا تنسي العصير … للهانم … بنت الـ … الـ …
هل زال التوهان ؟؟ .. هل انتهي الكابوس … أم بدأ … هذا هو السجن الحربي … كل ما سمعت عنه … سترينه … لا … ستعيشينه … وجودًا … وألمًا … عذابًا … ومشاعر … ليس من سمع … كمن رأي … وليس من رأي … كمن قعد علي نارها .
قتل أصحاب الأخدود … النار ذات الوقود … إذ هم عليها قعود .
الجسم لامرأة … واللحم لسيدة … لم تعرف إلا لعز … وطيب المقام … الكرباج يشق جلدًا ناعمًا … ولحمًا لينًا بلا عضل … ولا ألياف … لحمًا رخوًا … يجرحه النسيم … والكرباج عاصفة يشعل فيه النار … تهتك اللحم … وانكشف العظم … وتمزقت الأعصاب .
سقطت مغشيًا عليها … قبل أن ينتهي حفل الاستقبال …
وقبل أن يقدموا كل ما لديهم حسب البرنامج … لم تحتمل .
أفاقت لتجد نفسها … ممزقة الثياب … كل جسدها ينزف … كل خلية تئن … الوجع في كل وجهها … عين متورمة … والأذن كأنما وضعوا داخلها محرك نفاث .
أين النوم ؟
شعاع من مصباح علي بعد … يتسلل من نافذة ضيقة … قريبة من السقف … يحاول فاشلاً أن يخترق طبقات الظلام … الصمت متراكم … كئيب كئيب … شقة فجأة صراخ … يعبر النافذة :
- الرحمة … يا رب .
صوت الكرابيج كأسياخ النار .
- حرام عليكم … ليس عندي ما أقوله .
الصراخ تحول إلي عويل :
- يا كفرة … يا فجار .
- يا رب … يا رب .
سكت فجأة … اختفي الصوت … زحف الصمت من جديد .
(17)
هل كان عبد الفتاح إسماعيل … يعلم أن نهاية نشاطه وسعيه في تجميع الجماعة … هو الاعتقال ؟
الاحتمال … كان قائمًا … وكانت قناعته … أنه يفر من قدر الله … إلي قدر الله .
وما الذي كان يفكر فيه عندما اعتقلوه ؟؟
مصير الشباب الغض … الذي يواجه الابتلاء لأول مرة … أكثرهم كان إلحاحًا علي خاطره … هو إسماعيل الفيومي … حارس جمال عبد الناصر … الشخصي
الآن أصبح أكثر إدراكًا … بما يحدث … فقد تم اعتقال العديد من الإخوان … وتعرضوا للتعذيب … وبالتأكيد بعضهم تحمل فوق طاقة البشر … فاعترف … وتسلسلت الاعترافات … إلي أي مدي ؟ .. قد يكشفون هيكل التنظيم بالكامل … وقد يفلت البعض إذا استطاع الإخوان الصمود … فينقطع التسلسل … أو تكون الاعترافات ناقصة … وعلي القدر اللازم للنجاة من التعذيب .
وعلي هذا فالتنظيم سيتم اكتشافه … كليًا أو جزئيًا … لأن غالبية أفراده معروفون لبعضهم البعض … أما إسماعيل الفيومي … فلا يعرفه إلا عدد قليل … منهم علي عشماوي … والقبض علي إسماعيل … معناه … قتله لا محالة … وسيعطي فرصة لإطلاق الدعايات عن الإخوان الإرهابيين … القتلة … وهو تزوير فاضح …
قلبي معك يا إسماعيل … وحفظك الله … يا أخي … ذكري آخر لقاء معه … لازال حيًا في خياله … كان في بيت عبد الحميد عفيفي … بلدياته … منذ شهر تقريبًا .
عندما فتح الباب … اعتنق الشيخ عبد الفتاح … قال عبد الحميد مرحبًا :
- مر زمن طويل … علي آخر لقاء .
انحط علي الكنبة بثقله … استمر عبد الحميد : أنت مرهق .
تراجع بظهره إلي مسند الحائط … قال عبد الفتاح :
- نحن جند الله … لا نعترف بالإرهاق والتعب … ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ … ولا نصب … ولا مخمصة … في سبيل الله … ولا يطأون موطئًا يغيظ الكفار … ولا ينالون من عدو نيلاً … إلا كتب لهم عمل صالح .
سكت قليلاً استأنف حديثه : ما هي أخبار إسماعيل الفيومي ؟
- آخر مرة … كان عند من يومين … طلب مني أن أحضر له حاجات من البلد … وقد أحضرتها … وأتوقع حضوره لأخذها … أنت تعرف أن مواعيده غير منتظمة … بسبب سفرياته مع عبد الناصر .
قال الشيخ عبد الفتاح بارتياح :
- كنت علي وشك أن أطلب ترتيب لقاء … معه … إذا علي الانتظار .
قال عبد الحميد :
- فرصة نحضر لقمة نأكلها سويًا … ما رأيك – أنت ابن حلال – لقد أحضرت معي من البلد للتو ذكر من البط … لن يستغرق طهيه أكثر من ساعة .
بادره بسرعة : يا أخ عبد الحميد … الوقت أثمن من أن نضيعه في مثل هذه المتع . يكفيني لقيمات يقمن صلبي … وتعينني علي أداء الطاعات .
قال عبد الحميد : يا شيخ … لا تقسو علي نفسك … قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده … والطيبات من الرزق .
قال منهيًا هذا الجدل :
- أنا أخذ نفسي بالعزيمة … ولا ألزم غيري … المهم … هات الجبن القديم … وأعواد الفجل .
ما أن انتهوا من طعامهم … وإلا وإسماعيل يدخل عليهم .
اعتنقه الشيخ طويلاً … في حنان وشوق … قال عبد الحميد وهو يهم بالمغادرة :
- البيت بيتكم … خذوا راحتكم .
استوقفه الشيخ عبد الفتاح :
- بل ابقي … فليس هناك أسرار عليك .
التفت إلي إسماعيل … وقال له : اعلم أنك … غير مستريح … واشتد قلقك أكثر هذه الأيام .
لم يستطع حبس دموعه … قال :
- لم أكن أعلم أن الوضع بهذا السوء … كنت جنديًا … في أقسام الشرطة فلم أتحمل الفساد والرشاوى … وسعيت إلي مكان أفضل … فكان حظي أن أنتقل إلي الحرس الجمهوري … اختاروني عندما تخطيت اختبار الرماية ، وكنت أول المتسابقين … وأستطيع أن أصيب ذبابة وأنا معصوب العينين … وكنت أتصور أن عملي – كما أخبروني حينئذ – سيقتصر علي التدريب … ولكنني وجدت نفسي في النهاية … حارسًا خاصًا … أحمل الطبنجة … وأقف علي بعد خطوات منه … وعندي أوامر بإطلاق النار علي أي شخص … مهما علا شأنه … عند أي بادرة … هل تتصور أنني أستطيع تنفيذ هذا الأمر … أقتل إنسانًا … يحاول قتله … أنا الأخ المسلم … أحمي هذا الطاغية من القتل .
اشتد بكاؤه … فقام الشيخ واحتضنه … حتى هدأ …
استمر في الكلام : هل تتصور مقدار ألمي … وأنا أرفع يدي بالتحية العسكرية عند الحضور وعند الانصراف .
قال الشيخ عبد الفتاح مهدئًا :
- نحن نعيش وسط أوضاع جاهلية … نتعامل معها … إلا أن قلوبنا معلقة بديننا … شعورنا … ووجداننا منفصل … يعيش الطاعات … في ارتباط دائم مع الله .
قال في حماس :
- طلقة واحدة … وأثأر لدم الشهداء … أريد إذنًا بقتله وأخلصكم منه … تأكد أنني لن أعترف … ولو مزقوني أوصالاً … يا شيخ عبد الفتاح أنتم تحرمونني من شهادة في سبيل الله … أتمناها .
رد الشيخ في هدوء : لست وحدك الذي يتمني الشهادة … ونحن أيضًا لا نخاف من عواقب أمر كهذا … ولكنه موقف … وسأقول لك ما سمعته من الأستاذ سيد قطب … أن عملية الانتقام … عملية تافهة بالنسبة لمستقبل الإسلام … إن إقامة النظام الإسلامي … تستدعي جهودًا طويلة في التربية والإعداد … إنها لا تجيئ عن طريق إحداث انقلاب من القمة … إن قلب نظام الحكم القائم لا يأتي بالإسلام … ولا يقيم نظامًا إسلاميًا … العقبات في وجه النظام الإسلامي أكبر بكثير من نظام الحكم المحلي … نحن في حاجة إلي زمن طويل … وتمهيد أطول … وتربية أجيال …
- إذا دعوني … أنهي هذا الوضع … فأترك الخدمة … بأي عذر كراهيتي لهذا الوجه تزداد يومًا بعد يوم … أشعر بأنني في سجن … لا أستطيع الانضمام إلي أسرة … ولا اجتماع إخواني محروم من حضور دروسكم … مقابلاتي مقيدة … ولولا أن عبد الحميد بلدياتي ما استطعت زيارته … وحتى عبد الحميد حركته محدودة خوفًا علي … أنا … أشاهد كل يوم … ما لا يراه الناس … عدوانيته … جبروته … سخريته من نوابه … وكبار أعوانه … دائم الحط من شأنهم … كل ذلك يستفز وجداني حيث أن الإعلام يصوره … وكأنه مارد عملاق … فوق … فوق … هل يعلم الشعب أن رئيسه الذي يكاد البعض أن يعبده من دون الله … قام بضرب الرائد قائدة وحدة الحرس … بالشلوت … وسب أمه … وسب أبيه … من أجل الخطأ … غاية في التفاهة .
سكت الشيخ … ثم قال مبتسمًا في ود : من أجل ذلك … نحن نرفض أن نترك الخدمة .
قال إسماعيل : ماذا تقصد ؟؟
- أقصد أنك مصدر مهم للأخبار عن تحركاته … وأفعاله … وإذا احتسبت ما تلاقيه في سبيل هذه الغاية فستشعر بالراحة .
لازالت البسمة تضئ وجهه … سأل : وبالمناسبة ما هي آخر أخباره ؟
قال إسماعيل : سمعت الدكتور يحذره – كان في غاية الانزعاج – من وحشية مرض السكري … الذي بدأ يتسلل إلي جهازه العصبي … فأصبح لا يحتمل الوقوف علي رجله … ويعيش علي المسكنات … التي أحيانًا تفقد مفعولها … لدرجة أنني سمعته في مرة – كنت خارج غرفته – وهو يصرخ من الألم … كما انتشرت البثور في أنحاء جسمه …
الدكتور – يعرفه … ويخشى غدره … كان ينصحه – وهو يحاول التحكم في انزعاجه – بعدم التوتر … لأنه لا يستطيع … فهو لا يأمن لأحد … ولا يستطيع أن يتنازل عن أي جزء من سلطانه …
استمر الشيخ عبد الفتاح : يعني … قربت … خلاص .
قال إسماعيل … وهو يبادله الابتسام : لو حدث … ومات فجأة … سأكون أول من يحزن … لأنني أتمني أن يكون ذلك بيدي .
قال الشيخ عبد الفتاح : لن نعود لهذا الموضوع ثانية … واطمئن … فلكل أجل كتاب … وسيأخذه الله أخذ عزيز مقتدر … وسيعلم الذين ظلموا … أي منقلب … ينقلبون .
الآن يا عبد الفتاح … أنت ترقد في زنزانة … السجن الحربي ليس جديدًا عليك … أنت تعرف ما سيحدث لك … لم يبدأوا بعد … حتى الاستقبال المعتاد … كان فاترًا … بعض الكرابيج … وسريعًا مارش … إلي الزنزانة … احتجزوا علي عبد الفتاح … يبدأون به … هل هي فراسة من شمس ؟؟ .. حين اختاره أولاً … وتركوك أنت … ومبارك عبد العظيم مؤقتًا … أم أن لديهم أسباب أخري … لا يهم … فسيأتي دورك … ليس آجلاً … وإنما … عاجلاً … أسأل الله الثبات … وأن ينجيني … من فتنة الابتلاء .
ولكن – يا عبد الفتاح – هل انتهي التنظيم ؟؟ .. هل انكسر عموده الفقري … وهل انتهي الأمل في أن تقوم الإخوان مرة أخري … سبق أن سألت نفسك هذا السؤال … منذ عشر سنوات … وفي نفس هذا المكان … في السجن الحربي … يومها كنت ممتلئًا عزمًا … وإصرارًا … أخذت علي نفسك كل العهود … والمواثيق علي العمل … ولم شمل الإخوان مرة أخري … فهل وفيت بالعهد … والميثاق … يعلم الله أنك وهبت نفسك للدعوة … وسعيت في طول البلاد وعرضها … ولم تغرك دنيا … وكنت وفيًا لدعوتك … أعطيتها كل ما تملك … من وقت – ونصب … وظمأ … ومخمصة … وأخذت نفسك بالعزيمة … ولم تترخص في كبيرة ولا صغيرة … فهل تهدم كل ما بنيت … وهل كتب علي الجماعة أ ، تدخل نفقًا مظلمًا … قد يكون قبرها الأخير … لا … لا أظن .
فالله أرحم بعباده … والله رءوف بدعاته … والله حنان ومنان يفرح بالساعين إليه … ولا يرضي بالظلم … ولا يمكن لظالم … فستعود الجماعة … يومًا ما … وقطعًا … ستعود … عظمة هذا الدين … أنه لا يأمر أتباعه إلا … بالعمل … والسعي … والجهاد … وليس عليهم إدراك النتائج … عليهم فقط أن ينصروا الله … أما النصر نفسه … فهو من عند الله … إن شاء عجل به … وإن شاء أخره … ولكنه آت لا ريب فيه … لذا … فإن الدين في حالة من التجديد دائمة … إذا سقط فرد … قام مكانه آخر … وإذا تداعي حائط في البناء … تصدي له عشرات البنائين … أمة خالدة … أما الطغاة … فمكانهم – مهما علا شأنهم – مزبلة التاريخ .
فهل نصرت الله … يا عبد الفتاح ؟؟
النهاية هي التي ستجيب … فإن كانت التي طلبتها … وإن كانت التي تمنيتها … وهي الشهادة … فإن الفوز هو النهاية … فوز يضعك في طابور طويل … من الشهداء القائد هو سيدهم – حمزة بن عبد المطلب … الشهادة هي سر النور … وهي مشعل الهداية … الذي أضاء هذه الدنيا … وينتشر بشهداء الفتوحات … ويتحول إلي جذوة عندما يعم الظلام … فيجد من يحملها في قلبه … حملها عبد القادر عودة وفرغلي والطيب ويوسف طلعت … وآخرين دفنوهم في الصحاري … خلف السجون …
هل يكتبها لك الله … ويكتب لك النجاة من البلاء … هل ستصمد … كما صمد ابن أم عمارة … عندما أرسله النبي صلي الله عليه وسلم … إلي مسيلمة الكذاب يدعوه إلي الرجوع عن كفره … وادعاء النبوة … فقبض عليه الكذاب … وعرض عليه أن يفتدى نفسه لو آمن بأنه نبي … فرفض … فجعل يقطع أعضاءه عضوًا … عضوًا … وهو يردد … لا أسمع …لا أسمع … لا أسمع … لا أسمع .
ادعو … يا عبد الفتاح … ادعو بإلحاح … تضرع … توسل … ابتهل … فلا حول … ولا قوة … إلا به …
فأنت الآن … في مقام … ابن عمارة .
وليس أمام كذاب واحد …
وإنما أمام العشرات من الفساق الفاجرين .
(18)
دارت ماكينات الفرم
امتلأت ساحة التحقيق أو الاستنطاق … أمام مكاتب الإدارة في السجن الحربي .
الساحة تنتشر فيها الجثث الآدمية … وبقايا الحياة – فيها – تصرخ … مستنجدة باللطيف … في قدره – ليعينها علي تحمل كافة آلات العذاب … تطلب من ربها المدد … بعد أن انقطع عنها نصرة الناس … ومدد البشر … تدعو دعاء المظلوم … والمضطر … الواثق من الإجابة … أن يكشف البلاء … وأن يكون صبرها هو الثمن المطلوب لجنة عرضها السماوات والأرض … ضريبة مستحقة وواجبة … يدفعها كل صاحب دعوة … ابتلاء … ابتلاء … تعرض له كل أنبياء الله … مع كل من آمن وصدق .
العقيد شمس … يجلس متربعًا مكتب حمزة البسيوني المقر الرئيسي للمسالخ الوطنية … مستكبرًا … متألهًا … ممتلئًا بالشر … منتفخًا بالسلطان غرورًا … وتجبرًا … ساعده الأيمن العميد سعد … وساعده الأيسر كفافي … و … رجله اليمني رياض … واليسرى الديب … أما الباقي فيمثلون الأحذية … فردة يمين … وفردة شمال … يبدلها في قدميه حسب الأحوال .
مال العقيد … علي العميد وهمس :
- ما رأيك يا أبو السعود … نخلع الليلة .
نظر إليه مندهشًا … فالمجزرة … في عزها … شغالة … الكرابيج … والكلاب … ورائحة الدم … والجروح التي تعفنت تنزف صديدًا … أو يسرح فيها الدود … والمعلقون من أقدامهم بين السماء والأرض … والمشدودون في الفلقة … والجالسون علي الخازوق … ودخان يتصاعد من جلد محترق بفعل السجائر … وكلابات تنزع الأظافر … أو تنتف اللحى … والكلاب تعوي … وتنهش … كلاب … كل الكلاب … حيوانية في شكل ذئاب … وأخرّي … علي هيئة بشر .
رد العقيد مطمئنًا :
- لا … لن يتوقف الشغل … الضباط الصغار موجودين … يكملوا … نخلع أنا وأنت … وهات الطقم معك .
غمز بعينه :
- شقة الزمالك ؟
- لا … عند نجوى … في المحل … فريد قام بترتيب كل شيء .
حبكت القفشة … قال سعد ضاحكًا :
- فريد … أبو قرنين .
دخلوا الصالة الملحقة بالكباريه … والمخصصة للشخصيات المهمة … وأيضًا للضيوف ( الأجانب ) … خاصة ( المناضلون ) العرب … الأمر الذي يستدعي تجهيزات إضافية … ميكروفونات سرية … كاميرات مدفونة … لزوم التسجيل … والتنصت … ومن بعد … الابتزاز … والتهديد … و … كله بثمنه … والذي يريد الدح … لا يقول ( …. ) … نحن الثوار … والرواد … لا نلعب … وإذا لعبنا … فلا لوم … ولا عتاب – لعبنا هبش … وطحن … وسحق … والويل … لمن يقع …
الصالة مجهزة بكل لوازم الانبساط … وأقص درجاته من الانشكاح … البار … الجوزة … أرقي أنواع الصنف … من الهبو … وألف ليلة … في الأركان قعدات … أو منامات … أرضي … عربي … أو ( قومي ) لا فرق … ولمن يريد نصبت الستائر تحدد خلوات الفجور … تفضح … أكثر مما تستر …
في الاستقبال … كانت الراقصة نجوى … وبالتحية التقليدية … اليد مرفوعة … والكعب يدق :
- أهلاً … يا قمر .
ضحك … وقال :
- أخطأت … أنا شمس .
نظرت إلي العميد سعد بلونه الداكن … وطوله وعرضه .
يبقي هذا هو المريخ .
رد بسرعة :
- المريخ … نجم معتم … ولكنه في السما … في العلالى .
انفجروا في الضحك … استطردت :
- البنات جاهزين … وكله … كله … تمام … و … ممنوع الكلام في السياسة . نظر إليها العقيد … نظرة لها … ألف معني … وقال :
- نحن هنا … مشتاقون … نريد أن نشعشع … نفرفش … نضربها ألف صرمة … ليلة من ليالي الأنس … أريد أن أنسي نفسي … اليوم احتفال … بالنصر .
الراقصة لها تجربة مع العقيد … تجربة مرة … تذكرها دائمًا … فهي في موقع … ينفرط فيه اللسان … وتنحل عقدة العقول … تحت تأثير السطل … والخمور … موقع تسمع فيه ما خفي … وما خفي دائمًا … يكون أعظم … وأدهى … وأمر … ونقل الكلام … وترديده … يؤدي إلي جب ليس له قرار … درس تعلمته … وكادت أن تدفع ثمنه … فقد حاولت – مره – أن تسوق الظرف … أو الهبالة علي الشيطنة … مرة حاولت أن تشاركهم بنكتة تناولت المشير … فلم تشعر إلا به … يلطمها … لطمة كسرت أحد أسنانها … ورغم أنه استرضاها بعد ذلك … وركب لها بدلاً منها سنة من البلاتين … إلا أنها وعت الدرس … وأصبحت تستخدم سدادات الأذن … واحد بالطين … والأخرى بالعجين … وعل الفم … حارس … وقفل مسوجر … لا يفتح إلا لكلام المسخرة !! .
هي تدرك – تمامًا – حدود عملها … وتتفنن في أداء المطلوب … وهو … إرضاء الحيوان المتوحش … داخل السترات المستوردة … ليست مكلفة بالترويض … والاستئناس … و … كله بالثمن … ذهبًا … وهدايا … والأهم هو النفوذ … والحماية التي توفر لها اختراق السدود … وعبور الحواجز والمتاريس … عقد الصفقات … والإرهاب … إرهاب كل من يدوس لها علي طرف . مع دوران الكئوس … وتصاعد الأنفاس … استفزت الراقصة نجوى جلال بيه … وكالعادة … ربط حول وسطه منديلها … وأمسك بيدها … وبدأ يتمايل معها علي دق الطبلة … و … أنغام الموسيقي … أو ( المسيئة ) .
قال كفافي معلقًا …
- ليتك … يا باشا … رأيته عندما شتمه المعتقل .
نظر إليه العقيد مستفسرًا :
- أثناء تعليقه في الفلقة … كان المعتقل يستغيث … فلما اشتد عليه الكرباج … قال ربنا ينتقم منكم … قال له جلال … ممن يا ولد … رد المعتقل … منك … يا كلب
رد الديب … وهو يلهث مع الهز .
- لكنه يا باشا … دفع الثمن … مزقناه بالكرباج … لكن يا فندم … الصراحة … أنا أعجبت بهذا المعتقل … رفض توقيع الإقرار … رغم أن زميله اعترف عليه … ولكن لنا عودة … لن يفلت يا باشا … أنت تعرف أبو الديابة .
قال العقيد … مازحًا :
- لعل إعجابك كان أشد … عندما وصفك بالكلب .
قال العميد سعد … مشاركًا بضحكته :
- المثل يقول … الجالس علي الخازوق … يشتم السلطان … كلب … كلب … المهم يعيش و … يترقى .
تردد قليلاً … وهو يخشى رد فعل ما سيقوله … إلا أن الخمر أطلقت لسانه :
- واحد منهم … أثناء ضربه … بصق علي … وقال لي … يا كافر .
توقفت نجوى عن الرقص عندما جذب يدها جلال بطريقة لا إرادية … سحابة ما تزحف علي الجو … الحديث أخذ مجرى … لا يركب عليه صوت الموسيقي … والرقص .
نظر العقيد إلي العميد سعد … الذي عبرت وجهه – سريعًا – مسحة وجوم … لقد تعرض هو نفسه لهذا الموقف … إلا أنه لا يريد أن تهتز هيبته أمامهم … قال مظهرًا عدم الاهتمام .
- هذا فكرهم … جماعة رجعية … تريد العودة بنا إلي الوراء … هؤلاء لو تمكنوا من البلد … لكان أول ما يفعلوه … هو ذبحنا مثل الخرفان .
رد العميد سعد … مؤيدًا حتى يعبر المطب الذي صنعه :
- طبعًا … طبعًا … ولكننا سنقضي عليهم … أما هم … وأما … نحن .
عبرت السحابة … عاد الجو إلي الروقان … رجعت نجوى إلي الرقص مع جلال … قال … في تهريج …
- وأنت يا نجوى … كافرة .
كادت أن تتوقف … إلا أنه استدرك قائلاً :
- حسب رأي هؤلاء الرجعيين .
تقصعت في حركة لولبية … ورفعت إصبعًا فوق حاجبها وقالت :
- فشر … يا عمر … أنا مؤمنة … وموحدة بالله … يا جلال بيه … أنا … قبل أن أرقص … لابد من قراءة قل أعوذ برب الفلق … خوفًا من الحسد .
قال يسترضيها … مستمرًا في التهريج :
- طبعًا … طبعًا … يا حلو … ربنا رب قلوب … وساعة لقلبك وساعة لربك .
ردت بسرعة … بنفس التهريج :
- بل ساعة لقلبك … وساعة لحل شعرك .
جاء إلي هنا … ليقضي ساعات من المتعة … سكر … وسطل … وشيء لزوم الشيء … إلا أن موضوع الساعة إلا أن يفرض نفسه عليهم … هه .. لا بأس … وليكن .
قال العقيد :
- ما رأيك … يا أبو السعود … هل نستطيع أن نقول أننا قبضنا علي التنظيم … ولم نترك وراءنا أي ذيول .
- نقول تسعين في المائة .
- ولكن علي عشماوي … اعترف علي كل صغيرة … وكبيرة … وأدق التفاصيل … والقبض جاري علي كل من ورد اسمه … من أعضاء الجماعة … وكل الذين كانوا يتعاملون معهم … ويقابلونهم … من غير الإخوان … حتى ولو صدفة … ولا يتبقى إلا الاعترافات … والإقرارات … ونضبط المحاضر … لتقديمهم إلي النيابة … ثم المحاكمة …
- هذا كله معروف … وبفضل ذكاء سيادتك … ولكن بقية نقطتين … لم يتم تغطيتهما … تهمة اغتيال الريس … والثانية قلب نظام الحكم … فالجميع اعترفوا بوجود التنظيم … وبأن الغرض منه … هو التربية … والدراسات الدينية … لابد من وجود تنظيم مسلح .
- عندك حق … تهمة قلب نظام الحكم … تحتاج إلي شغل …
ولازال الأمل عندي في تغطيتها … ولدي خطة لذلك … أما عملية الاغتيال … فقد ضاعت منا فرصة إثباتها … بموت إسماعيل الفيومي أثناء تعذيبه … وقد حذرت كفافي … وطلبت منه أن يكون الضرب بحساب .
قال كفافي مدافعًا عن نفسه :
- يا فندم … ولد دماغه ناشفة … جربنا معه كل الأساليب … الفلقة … علي الرجلين … حرق السجاير … خلع الأظافر بالكلابة … وعلي مدار يومين … بلا نتيجة … رفض الكلام …
قال العقيد في حسرة :
- هذا الولد … أنا خطفته من الشارع … قبل أن تنتبه له مخابرات الرياسة … وكنت سألعب به … لعبة كبيرة … لأنهم كانوا نائمين وحياة الرئيس كانت في خطر داهم … مصيبة تطير لها رءوس كثيرة .
استطرد في غيظ :
- تعرف يا سعد … عندما أخبرت الريس … ماذا قالوا … ماذا كان دفاعهم ؟؟ .. قالوا أن شمس لفق هذه التهمة … ليصفي حسابات قديمة معنا .
- وهل صدقهم الريس .
- نحن لم نقدم أي دليل … لا اعتراف … ولا إقرار … ولكن الريس – من ناحية الأمن – اهتز … وطلب تغيير الحراسة كلها … ثلاثمائة واحد … لقد ضاعت منى الفرصة .
قال كفافي … مدافعًا … ليطرد عن نفسه الاتهام :
- العميد سعد كان معي مشرفًا علي التحقيق … وكان الهدف هو الاعتراف بنيته اغتيال الريس … وعن أعوانه في طقم الحراسة … إلا أنه امتنع عن الكلام تمامًا و … و … نظر إلي العميد سعد وقال :
- هل أكمل ؟؟
هز رأسه موافقًا :
- ولكن آخر كلام قاله … كان غريبًا :
انتبه العقيد … واعتدل في جلسته … استمر كفافي :
- قال أنه لو كان في نيته قتل الريس … لقتل معه سيادتك … وعندما سأله العميد سعد عن قصده … أفاد بأن قتل الريس سيفتح أمام المشير لتولي الحكم … وبالتالي فإن السلطة الفعلية ستكون بيدك … وأن سيادتك أسوأ من عبد الناصر .
قال العميد سعد مؤيدًا :
- وهذا كلام … لا يمكن ذكره في التحقيق … فاتفقت مع كفافي علي نسيانه .
سكت العقيد … متفكرًا … أكمل كفافي :
- الولد … يرفض الاعتراف … ويتحدانا أيضًا … وبكلام يمس سيادتك … فأمرت صفوت أن يجرب معه عملية الفسق … ربطوا رجليه بالحبال … وبدأ الشد من الناحيتين … إلا أنه استمر في عناده … ويبدو أن الفسخ كان شديدًا … انكسر الحوض … وكانت نهايته …
سكت العقيد … وطال صمته … إلا أنه لم يبد أي نوع من الانزعاج … صب له العميد كأسًا … ثم قدم له الجوزة … ومال علي أذنه هامسًا :
- لو كان الأمر بيدي … لتركت الفيومي … حرًا … طليقًا .
المراد … واضح … هل كانت فرصة … وضاعت ؟؟
أم أن الأفضل … هو قطع الطريق … خطوة … خطوة … و … سيصل .
نظر إلي العميد سعد طويلاً … ثم استمر في ضرب الأنفاس .
(19)
زكريا سالم
من شباب الإخوان الذين اعتقلوا عام 1955 … في آخر تنظيم … كان الغرض منه هو جمع التبرعات لإعانة أسر آلاف المعتقلين … وهو من المحرمات الغليظة … فالثورة التي اعتقلت الرجال والشباب … باعتبارهم رجعية … معوقة لتقدمها … انتصرت عليهم … وخلاص … أما الأطفال والزوجات ومن يعولون … فهم خارج منهجها … وتفكيرها …
زكريا … طالب في السنة الأولي من عامه الجامعي … لم يتم العشرين … عندما اقتحموا غرفة نومه ليستيقظ علي مدفع رشاش يحمله أحد الجنود … مصوب إلي رأسه … بعدها اقتادوه إلي السجن الحربي … لم يضربوه كثيرًا … سوي علقة التحية … والشاي ، المعتادة عند الاستقبال … و … عشرات الكرابيج عند التحقيق معه … لأنه وجد كل شيء قد تم كشفه … فكان – بلا فائدة – أن يستمر في إنكار دوره المتواضع في نشاط التنظيم … قدم للمحاكمة … حكم عليه بالسجن عشر سنوات … كان من الممكن أ ، يحكم عليه بخمس … أو حتى بالسجن مع إيقاف التنفيذ … حسب تسعيرة الأحكام حينئذ … لولا أنه استفز رئيس المحكمة – اللواء حتاتة – فلم يعترف بأنه مذنب … بل ارتكب أكبر الجرائم … عندما قال بأنه يحاكم ظلمًا … ثم كانت أم الجرائم عندما قال بأن كل هذا البطش لن يقضي علي الإخوان … المحكمة لم يكن بها إلا هيئة المحكمة من العسكريين … والحراسة … والمعتقلين الماثلين أمامها … يعني كلام في الهواء … لا صحافة … ولا تلفزيون … ولا حضور … القاعة … جدران … وكراسي فاضية … طيب لمن الكلام … يا زكريا … قال أنه سجل موقفًا … لن يضيع … ولكن الثمن الذي دفعه يومها … كاد أن يودي بحياته … ما فعله زكريا كان تجديفًا في زبانية السجن الحربي الذين لقنوه ما يجب قوله في المحكمة … كلمتين و … تقطع … أنا مذنب يا فندم … ولو أراد الزيادة … فليقل … يا فندم أنا طالب … الإخوان ضيعوا مستقبلي … غرروا بي … يا فندم … هذا هو المسموح به … وغير ذلك … ثمنه ما حدث له في تلك الليلة … حيث سقاه العساكر هو ومن كان يحاكم معه – طوال الليل … جميع صنوف العذاب المعروفة … إلي أن فقد الرؤيا … وأصبح جسده قطعة واحدة من اللحم المدمم … كان الضرب … غلاً … وحقدًا … وانتقامًا … وعبرة لكل من تسول له نفسه … بالخروج عن النص … وبعد عشر سنوات … لازالت آثار الجراح التي اندملت ظاهرة في ظهره وعلي بطنه … وفي أطرافه … وكأنها آثار لعشرات العمليات الجراحية … !!
صدر الحكم … وتم ترحيله إلي السجون المدنية … للتنفيذ .
في أول زيارة له في السجن … حضرت أمه … ومن خلال شهقاتها ودموعها … قالت :
- بنت خالتك …
قاطعها :
- لا تكملي حديثك … لقد قرر أن أعطها حريتها .
عز عليها … فالأم … أم … وهي خالة البنت ..ز أحلامها كانت بلا حدود … كانت تقول … دائمًا … فولة وانقسمت نصفين … زكريا … وهالة … خطبتها له خوفًا من أن يخطفها – غراب البين – … واحد غريب … مع أن مشوار زكريا في التعليم كان قد بدأ للتو ولكن … آه … وآه من تصاريف القدر … أختها … بنت أمها … شقيقتها … التي اقتسمت معها اللقمة … والهدمة … غدرت بها … حسبتها بسرعة … حتى ولو تم الإفراج عنه … فلا أمان مع من سلك الطريق ضد الحكومة … هل نحن قدها ؟ .. لا يا أختي كل واحد عقله في رأسه … يعرف خلاصه … نحن من سكة … وأنتم من سكة … لا زعل من الحق … أنت لا ترضين … ولا يخلصك يضيع مستقبل البنت …
الكلام كان جارحًا … و … يعني أن مستقبل زكريا … في الضياع … لماذا يا أختي تخلعين بهذه السرعة … حكم بالبتر … والقطع … رحمة الله واسعة يا أختي … أمره بين الكاف والنون … منذ أن مات زوجي … وأنا أرعي الأولاد … نشأ زكريا … قرة عين أمه … بارًا بها … معترفًا بكفاحها … تنظر إليه كأمل يكبر ويترعرع … وعندما دخل الجامعة بدأت في العد التنازلي … منتظرة يوم تجني الثمرة … يوم الحصول علي الشهادة الكبيرة … ليحمل عنها العبء … آه … ما أقسي الابتلاء يا ربي .
أما هو فقد كانت صدمة … كان عقله يقول له أنه من الظلم أن تربط البنت مصيرها به … بعد أن أصبح مستقبله … وطريقه كله مخاطر … وكان في نيته أن يبدأ الخطوة الأولي … كان الأمل المتلاعب بقلبه … يرتفع … ثم يخبو … لعل … وعسي … و … لربما … وأخيرًا … هذا هو القرار … رده إلي الواقع بلا رحمة … ما أقسي أن يكون السجن قيدًا علي البدن … وثقلاً يجثم فوق القلب … والوجدان .
السنين مرت … يا زكريا … أحلي أيام العمر … بين العشرين والثلاثين … سني النضج … والتفتح والفوران … تمضي بك … قاعدًا … نائمًا … وخطوات محدودة بين الزنزانة … ودورة المياه … و … طابور للمشي دقائق معدودة … ساعة العمر تدور … بطيئة … ثقيلة … رتيبة … ورغم ما في السجن من قيد وأحزان … إلا أنهم – وهم الظلمة المتحكمون – كانوا يقطعون انتظام عتمتها … بعتمة أشد … عقابًا … وتكديرًا … وحرمانًا من وسائل التخفيف – وهي قليلة ونادرة – هدفهم إطفاء مصدر النور في قلوبكم … و … إقلاق صبركم … كانت تقتلهم غيظًا ابتسامة رضا … رغم وجع القلوب … ومرح مبعثه استسلام لقضاء … وتفريغ مؤقت يعين علي محنة الابتلاء … وإحياء للأمل في فرج … مقدر … برحمة منه .
الإخوان … معك … غالبيتهم في نفس سنك يا زكريا … تتشابه النشأة وإن اختلفت التفاصيل … كلهم ود … وتراحم … يجمعهم … مركب واحد … وعقيدة واحدة … وإن تباينت الأمزجة … والميول … شريط طويل … من الذكريات … أغلبها مر … وإن صبر عليه … ومعظمها بلاء … وإن تخفف بأنه قدر … وفي سبيل الله … وكلها توتر … وانقباض … يبسطه ذكر رب لا ينام … ولجوء إلي رحاب تتسع بالرحمة … ونور الأمل . ولأن لكل أجل كتاب … فقد جاءت النهاية … تم الإفراج عنه … بعد عشر سنوات كاملة … وربما زادت بضع ساعات .
مع أول خطواته في الدنيا … أدرك أنه لم يفرج عنه … فقد خرج من السجن الصغير … إلي السجن الكبير … فقد كان عليه أن يواجه حالة أسرة متردية … وأن يرفع ما بقي من أمه … بعد ما مر بها من أزمات … ومجاهدة في تربية أولادها … فأصبحت هيكلاً ينخر في داخله مرض القلب … والسكري … لم يكن من سبيل أمامه إلا أن يقتل الأمل في استكمال تعليمه الجامعي … وأن يبدأ – علي الفور – في البحث عن باب الرزق … كان في سباق مع الزمن الذي اغتال عشر سنين من عمره …
وأثناء سعيه … التقي الشيخ عبد الفتاح إسماعيل .
رفيق زنزانة السجن الحربي … الذي افترق عنه بعد ترحيله … ظل الشيخ في الحربي معتقلاً بعد أن أفلت بأعجوبة من التحقيق معه … والمحاكمة … وبحيلة قد تكون ذكية … ولكنها في النهاية كانت قدرًا مكتوبًا … فقد كانت اعتقالات 1954 … عملية هوجاء … كان التركيز فيها علي سرعة اعتقال القيادات البارزة … وبالذات أعضاء النظام الخاص … أو ما كانوا يسمونه بالتنظيم السري … كانوا في سباق مع الزمن … يريدون ضرب الهيكل … وتمزيقه حتى يضمنوا عدم وجود رد فعل عنيف … قبضوا علي الخطرين في الأيام الأولي ووضعوهم في السجون الصغيرة بنظام يضمن استدعاؤهم عند التحقيق … أما الآلاف … من بقية الإخوان فكانوا يدفعون بهم إلي زنازين السجن الكبير … في أحيان كثيرة … بدون أتباع النظام المعتاد في تسجيل الأسماء مع أرقام الزنازين … هوجة … فرضتها ظروف الاعتقال الشعوائي … وقفًا لنظام الاشتباه … أحياناً بتقارير وتحريات … وأحيانًا أكثر ببلاغ من موتور … وجد الفرصة … أو شيخ الحارة … أراد التزلف إلي السلطة … كانت المهمة الأولي … عند زبانية السجن الحربي … هي الاستقبال للجميع … لأنها العين الحمراء أول ما يقابله المعتقل … ليكون كل ما بعدها علي بينة … ثم … يصبح التعذيب بعد ذلك عملاً روتينيًا … أو كما كانوا يقولون … ربكم عمل جهنم فوق … ونحن عملناها تحت … ولكن العذاب الشنيع … متعدد المراحل … كان يتم في الساحة الرئيسية أمام المكاتب … لكل من يرد ذكره في التحقيقات …
وكان الاستدعاء يتم بالنداء علي الاسم – ليلاً … يكرره العساكر عدة مرات :
- اخبط … علي الباب … يا ولد .
الأوامر عند النداء … فورًا يقف المعتقل … ويضرب بقبضته علي الباب إلي أن يهتدوا إليه … فيسحبونه حافي القدمين … يسوقونه بالكرابيج أمامهم إلي الساحة … والويل … كل الويل … لمن يسمع النداء … ثم يتأخر في قرع الباب …
نودي علي اسم الشيخ عبد الفتاح … في أحد الليالي وعندما هم بالوقوف … جذبه أحد الإخوة … فأجلسه … ووضع إصبعه علي فمه … إشارة إلي السكون … خاطر ما ألهمه … أن يستجيب … رباط علي عنقه … كرروا النداء … وهو يدعوا الله … النجاة … والثبات … وفي الليلة التالية أعادوا تكرار النداء … إلا أنه لم يتحرك … ولحكمة لا يعلمها إلا الله … أفلت … من التحقيق … والمحاكمة … بعد عامين من الاعتقال في السجن الحربي … أفرجوا عنه .
كان لقاؤه بالشيخ عبد الفتاح … مجرد صدفة … هكذا بدا الأمر لزكريا … ولكن الأمر كان مختلفاً بالنسبة للشيخ الذي كان يسعى في طول البلاد وعرضها لتجميع الإخوان … وإعادة ربطهم بحبل العقيدة … خوفًا من ضياع أصل الشجرة وسط عواصف إلحاد الشيوعيون … وعلمانية القوميين … الذين تسللوا إلي وسائل الإعلام وسيطروا عليها … وحولوها إلي خلايا تزن دبابيرها … ليل نهار في الآذان … وتذهب بالأبصار … أملاً في ألا يرون … ويريدون … وتحول التلفزيون إلي كباريه مجاني … يفرض نفسه علي البيوت والشباب … مع خمود كل نوع من الاعتراض … فلا صوت … ولا مقاومة … ولا بم … الظلام حالك … مدلهم … والخوف زرع الجبن … والصمت هو الفضيلة المفضلة … أصبح شعارًا للنجاة … والسلامة … والناس تتناقل النكتة مثل المخدرات … رعبًا من صديق يحمل جهاز تسجيل … أو ابن يتجسس علي أبيه … وأخيه …
الشيخ عبد الفتاح … الذي تلقي الدعوة من نبعها الصافي … كان يدرك بأن أرض الكنانة حبلي بأشبال ورجال من الإخوان … تتوهج فطرتهم بنور الإيمان … يرفضون الخضوع … والاستسلام لحكم الطاغوت … يملأهم العزم … والرغبة في التحدي … وعلي استعداد للتضحية … إذا وجدت الفرصة … كان يدرك أن عليه السعي … أما التوفيق … فهو من عند الله … وكان عليه – أيضًا – أن يكون سعيه حسيسًُا … وسط حقول الألغام … يعتمد علي بصيرة المؤمن … وروحًا مجندة … ستلتقي وتتآلف معه أرواحًا … تضع يدها في يده بيعة في سبيل الله .
من شمال البلاد … إلي جنوبها … ومن شرقها … إلي غربها … إذا صلي الصبح في مكان … صلي الظهر في آخر … لا يحمل هم قدوم الليل … ولا أين يبيت … اللهم إلا مكان يضمن فيه قيام ليله … ساجدًا … قائمًا …
لم يكن لقاؤه مع زكريا … إلا من تدبيره … فقد سعي لتقديم العزاء في قريب له مات … وكان متأكدًا من وجوده … فكان اللقاء …
مال عليه وقال :
- كيف حالك … وما فعل الله بك ؟
قال في هم :
- مواجهة الحياة خارج السجن … أصعب منها داخله .
أطرق الشيخ … ومن أدري منه بذلك ؟ .. فهو يعلم أن المسجون الذي لا حول له ولا قوة … يعيش – خارج دنيا الناس – ميتًا مجردًا … مقيد الإرادة مشلول الحركة … غير مطالب بأي التزام … أما خارج السجن … فالحياة فاتحة فاهًا … طالبة المئونة … والزاد قال له الشيخ … مستدرجًا :
- وما الذي يدور في رأسك ؟
قال في فتور :
- سأفتح دكان للبقالة تحت منزلنا .
سكت الشيخ قليلاً :
- البقالة ربحها قليل … ونموها بطئ … وستربطك بالمكان … والرزق يحب الخفية .
انتظر وقع كلماته … فلما رآه ساكنًا … استمر :
- ما رأيك في التجارة … إن فيها تسعة أعشار الرزق كما يقول نبينا عليه الصلاة والسلام .
- ولكن التجارة … في حاجة إلي رأس مال … ولست غريبًا … فالعين بصيرة … واليد قصيرة .
رد الشيخ مطمئنًا :
- لا تهتم … سندبر لك كل شيء .
الشيخ كان يعمل في تجارة الحبوب … وكان يدرك بأن الإخوان الخارجون من السجون … يواجهون مشاكل الحياة … تراكمت مع السنين … وأغلبهم بلا معين … ولا سند … فكان يسارع بمد العون لهم … معتبرًا ذلك جزءً من سعيه في إحياء الجماعة … وخطوة – لابد منها – قبل أن يفاتحهم الانضمام إلي التنظيم .
كان عرضه الذي قدمه لزكريا … هو … أنه سيمده بالبضاعة من الحبوب أرزًا … أو قمحًا … أو فول … أو حتى علف الحيوان … وعندما يتم بيعها … كلها … أو جزء منها … يرد له ما تيسر من النقدية … وبالتالي يمده غيرها … وهكذا دارت الحركة … و … انتظمت … وكانت المعاملة تتم بينهما باللقاء المباشر أول الأمر … ثم بعد – اتساعها – وسرعة تنقل الشيخ عبد الفتاح … أصبح التواصل عن طريق خطابات يحملها ابن عمة زكريا سيد رجب ليس فيها أكثر … من بيان البضاعة … وحساب النقدية … الأحوال بدأت في التحسن يا زكريا … ويبدو أن الدنيا بدأت تبتسم لك … وأبواب الرزق انفرجت … بعد إغلاق … وصدود … إلا أن أخبار الاعتقالات … بدأت هي الأخرى تعكر الصفو … وتسوق غيومها … وتدق بالمطارق علي الأبواب صخيًا … مثيرًا للقلق … ومهيجة شجونًا لزمن ظننا أنه مضي … وانقضي … ولن يعود … ومما زاد الحيرة … والبلبلة … عدم وجود سبب واضح … لهذه الحملة … التي تركزت في المقام الأول علي المجموعة التي قضت مدة سجنها بالكامل … وخرجت منذ شهور … وهو بالطبع … واحد منهم … وظروفهم جميعًا متشابهة … الباحث عن حل مشاكله المادية … والغارق لأذنيه في ترميم بيت الزوجية والأولاد … والطالب الذي تخلف عن كليته عشر سنين … راجع … ليجد زميل الدراسة … قد أصبح أستاذًا عليه … والذي فقد أمه … وأبيه … وأصبح وحيدًا … قد أكل إخوته ميراثه … ونفضوا أيديهم منه …
الاعتقالات التي بدأت … هادئة … انتقائية … ارتفع إيقاعها … وبدأ التوجس يأخذ بأنفاسه … في كل ساعة ترقب … كل طارق يثير هواجسه … كوابيس في الليل … ومسامير القلق تدق رأسه نهارًا … يا رب … ماذا فعلنا ؟؟ .. يا رب حكمتك … إنك لطيف لما تشاء .
وجاءوا … كالعادة … قبل الفجر .
طرقوا الباب … دخلوا … رجال المباحث … لا يحملون المدافع – هذه المرة – يتحركون في هدوء … استيقظت الوالدة فزعة … ما الذي يجري … أخبرها أحدهم … وهو يأخذ بيدها … ويغلق عليها باب حجرتها … لا تقلقي … شيء بسيط … ما هو هذا البسيط ؟ .. ولماذا هذا البسيط دائمًا من نصيبهم … ومادام هو بسيط … فلماذا لا يتركونهم في حالهم … سجن وسجنونا … وخراب … ودمرونا … ومرض … هد … حيلنا … تكومت … في جانب سريرها … فلم تسفها عافية متداعية علي فتح الباب … ومتابعة ما يجري … تجول الضابط في البيت … فليس فيه ما يدعو إلي التفتيش … والتنقيب … أثاث بسيط … ولا شيء مغلق … توقف أمام مكتبة بالية بها بعض الكتب الدينية … استلفت نظره خطاب حديث … فتحه … وما أن قرأ سطوره … حتى تغير لونه … ودبت في أوصاله المتكاسلة … حماسًا ألهبها .
نادي علي زكريا … في عصبية :
- أين مخزن الحبوب ؟
رد في هدوء … قلق :
- تحت .
استمر في عصبيته :
- افتحه فورًا .
جمع القوة … ثم نزل مسرعًا … اقتحم المخزن … هجموا علي جوالات الحبوب تقطيعًا بالسكاكين … أفرغوها أكوامًا … حتى امتلأ المكان بها … الأرز علي الفول … علي القمح … لم يتركوا جوالاً واحدًا . العصبية لازالت تسيطر علي الضابط … عندما خرج إلي الشارع وهو يتحدث مع قيادته بجهاز الاتصال … زكريا في حالة من عدم الاتزان … مروحة تأز وتدور داخل رأسه … علمته المحن والتجارب السوداء … أن يتماسك … و … المهم … ألا يسأل … لأن الإجابة لن تكون أبدًا شافية … ولا في مصلحته … جذبه الضابط بعنف … وقال :
- من هو الشيخ عبد الفتاح … هذا ؟
قال زكريا … في هدوئه المصطنع :
- عبد الفتاح عبد إسماعيل .
رد الضابط بسرعة :
- الشيخ عبد الفتاح … من كفر البطيخ ؟
- نعم … هو .
زادت عصبيته … أوشكت أن تصل إلي الهياج :
- ومن هو سيد … هذا ؟
- سيد رجب … جارنا … وابن عمتي .
مع إشارته نحو المنزل … اندفعت القوة مسرعة … وما هي إلا دقائق حتى كانت تدفع سيد رجب بملابسه الداخلية … بعد أن انتزعوه من سرير نومه … وتلقي به إلي داخل السيارة … وفي السيارة الأخرى دفعوا زكريا في داخلها … في الشباك كانت أمه قد أسندت ذقنها علي حافته … تشاهد ما يجري في الشارع … التقت عينها … بعينيه وهم يدفعونه للركوب … وكان آخر ما وقعت عليه عيناها … وداعًا … يا زكريا … وداعًا يا بني …
سقطت فاقدة النطق .