الباحث أحمد إبراهيم الشريف يؤكد أن الأعمال المسرحية للكاتب علي أحمد باكثير تحفل بتقنيات جمالية وإقناعية سعى من خلالها لتقديم أفكاره مستخدما في ذلك بلاغة متنوعة.
التاريخ مادة مسرحية هامة
انطلاقا من فكرة أنه كي نفهم واقعنا المعاصر وجب علينا فهم الماضي القريب، وذلك عن طريق معرفة الأدبيات التي ناقشت أزمات وقضايا لا تزال مستمرة أو لا يزال صداها موجودا، وقع اختيار الباحث أحمد إبراهيم الشريف على الخطاب المسرحي في مسرح الكاتب والشاعر المصري علي أحمد باكثير ليكون محور أطروحته “بلاغة الخطاب في مسرح علي أحمد باكثير”.
في أطروحته لنيل الدكتوراه بعنوان “بلاغة الخطاب في مسرح علي أحمد باكثير”، يرى الباحث أحمد إبراهيم الشريف أن المطلع على الجانب الإبداعي عند باكثير سيجده واعيا تماما بما يقوله في خطابه محملا نصوصه رسائل ترصد الارتباك الذي أصاب الشخصية العربية في فترة خطيرة من تاريخ العالم عاصر فيها حربين عالميتين وسقطت فيها فلسطين في يد الصهاينة.
ويقول الشريف “كان خطاب باكثير مشغولا بما يحدث حوله في مجتمعه وفي العالم أيضا -انعكاس ما يحدث في العالم على مجتمعه الإسلامي والعربي- محاولا الإجابة عن أسئلة جوهرية تتعلق بالهوية والوضع الراهن لجمهوره وقرائه، وقد كشف عن رأيه من خلال أقنعة مسرحية ومن خلال الهدف الذي سعت إليه الأعمال المسرحية.
عرب أم فراعنة
يؤكد الشريف في أطروحته أن خطاب باكثير جاء متنوعا غنيا؛ فقد استمد مصادره من ثقافة عالمية وثقافة عربية؛ وظهر لديه التوظيف التاريخي والديني والاجتماعي والسياسي، وقرأنا في مسرحه نصوصا تراجيدية وأخرى كوميدية وبينهما الملهاة تسخر من الذات والآخر، وفهمنا معه الإسقاط السياسي والخطابات المضمرة والمعلنة وغير ذلك من التقنيات التي جعلت خطابه متسعا يتحدث عن الله والكون والإنسان، خاصة الإنسان العربي.
ويوضح أنه استعان لتحليل الخطاب عند باكثير بالمنهج الوصفي وأداتُه التحليل بما يطرحه من توقف عند جماليات العمل الفني ووسائل قوته وضعفه وما تبثه السيمولوجية من أيقونات وإشارات ورموز، في محاولة للتعرف على الرسائل التي يود النص أن يرسلها، على أن يضعها في سياقها التاريخي والاجتماعي، والتعرف على مرجعية الخطاب ومصادره، واستفاد مما تقول به “التداولية” ولم يستبعد آليات الدرس الحِجاجي أو النقد الثقافي.
ويضيف الشريف أن خطاب باكثير كشف أن جيله على كل المستويات، حتى على مستوى السرد متمثلا في نجيب محفوظ ، كان يعاني أزمة في أصل الهوية، فالاحتلال الذي كان يفرض كلمته على الجميع دفع المصريين ليتساءلوا هل نحن عرب أم فراعنة؟ ولأن باكثير عربي يمني عاش في مصر ومات فيها فقد انتسب إلى العروبة وحاول في خطابه أن يثبت ذلك.
وسعى الباحث إلى تحقيق عدد من الأهداف الفنية من خلال الدراسة التي جاءت في مقدمة وتمهيد تناول مسرح باكثير وعرج على المسرح العربي قبله وبعده، ثم ثلاثة أبواب هي “سياقات خطاب علي أحمد باكثير وأقنعته”، و”بلاغة الخطاب القيمي في مسرح علي أحمد باكثير”، و”بلاغة الخطاب الإقناعي في مسرح على أحمد باكثير”.
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف تعامل الباحث مع مسرحيات باكثير من زاويتين؛ الأولى باعتبارها خطابا جماليا، والثانية باعتبارها وثيقة.
ويؤكد الشريف أن الأعمال المسرحية لباكثير بصفتها نصا أدبيا تحفل بتقنيات جمالية وإقناعية لا ينقص منها عدم تقديم بعضها على خشبة المسرح ـالذي كان سيضيف إليها بالتأكيدـ لكن باكثير كان حريصا على اكتمال النص كتابيا ـمن وجهة نظرهـ وعدم المراهنة على العروض.
ويقول إنه تبين بالدراسة أن خطاب باكثير كان مدركا أن المسرح هو فن المواجهة، وأنه في حالة عرضه على الخشبة يصبح تأثيره في الجمهور كبيرا، لذا أنتج نحو أربعين عملا مسرحيا، وسعى من خلالها لتقديم أفكاره ثم عمل على إقناع الجمهور بما جاء في هذه المسرحيات من أفكار مستخدما في ذلك بلاغة متنوعة. وقد غلب على خطاب باكثير توظيف التراث وإعادة إنتاجه مرة ثانية ـمتجاوزا فكرة السرد أو الحكيـ بوصفه استعارة كبرى لها دور جديد في الظروف الراهنة، ومانحا لنا فرصة جديدة لمساءلة هذه الشخصيات أو للتعلم منها.
إبداع الضرورة
يلفت الشريف إلى أن خطاب باكثير في مسرحه تحرك من فكرة أن غرضه الأساسي هو التواصل، لذا فهم قيمة الحوار في المسرحيات، الذي جاء في أوقات كثيرة مؤديا لهدفه ومقدما للشخصيات وصانعا للصراع، كما حرص باكثير في مواضع كثيرة أن يكون حواره جماليا فيحمل قيمة فنية لا تقلل من كونه حاملا رسائل ما.
ونظرا إلى طبيعة المسرح التي تمنع ظهوره بشكل شخصي على الخشبة أو أن يكتب شيئا مباشرا على لسانه، لجأ باكثير إلى حيلة القناع الفنية؛ حيث اختار من خلال شخصيات أعماله المسرحية بعض الشخصيات وحمَّلها رسائله، وجعل بعضها حججا تدافع عما يريد باكثير قوله، ومن هنا تعاملنا مع باكثير بصفته بطلا مضمرا في النصوص واستطعنا التعرف على أفكاره وشكلنا منها خطابه وحددنا قيمه التي يدافع عنها.
ويشير الباحث إلى أن خطاب باكثير استعان بحجج مرجعية جاء على رأسها القرآن الكريم والكتب المقدسة، وصنع من هذه الحجج إطارا من القداسة أحاطت بالنصوص المسرحية وأفكارها، وأضفت الكثير من المصداقية على الرسائل الظاهرة والمضمرة في الأعمال المسرحية.
ويلاحظ الشريف في دراسته أن خطاب باكثير اهتم باللغة العربية الفصحى وسيطرت على أعماله جميعا، لكننا في الوقت نفسه لم نعدم وجود ألفاظ من اللهجة العامية، خاصة في المسرحيات الاجتماعية وفي المسرحيات المتأخرة بعد ممارسة طويلة مع المسرح فلم يعد يخشى أن يُتهم بأنه “يقلل” من الفصحى أو غير ذلك، لكن هذه الخروجات عن الفصحى كانت قليلة وجاءت معظمها على ألسنة النساء كما ذكرنا، كذلك ظهرت بعض الألفاظ التراثية الصعبة غير المناسبة للشخصيات ولا لطبيعتها، لكنها كانت قليلة.
وقد عمل الخطاب على حماية نصِّه من الملل بطرق شتى منها صناعة الإيقاع عن طريق الإنشاد، فبث في مسرحياته أغنيات وصاغ هتافات وضعها على ألسنة المجاميع كي يعلو صوتها فتثير الحماس في قاعة العرض.
ويشدد الشريف على أن البلاغة في خطاب باكثير حجة في حد ذاتها، يستخدمها مؤكدا بها الهوية العربية والخصوصية الشرقية، لذا كان للمجاز بأشكاله المتنوعة دور كبير في تشكيل خطابه معتمدا على استعارات كبرى مثل استعادة الأحداث والشخصيات التاريخية وقيامها بأدوار جديدة -فيها وعي مختلف عن زمنها- كذلك الاستعارة الجزئية داخل العمل بما يضفي حركة إضافية على الشخصيات والجمادات داخل العمل المسرحي، إضافة إلى أن طبيعة المسرح اقتضت وجود أنواع مختلفة من البلاغة منها “بلاغة الجسد” وحركته من خلال الإشارات المسرحية.
ويتابع “كان لتقنية الاستفهام دور في تقديم خطاب علي أحمد باكثير، فالسؤال يعمل على اتساع دائرة التأثير لأنه عادة يتجاوز النص الأدبي أو العرض المسرحي إلى جمهور القراء والمشاهدين، كما أنه ـعلى مستوى الكتابةـ يكشف عما في داخل النفوس من شغف بالمعرفة أو مشاعر غضب”.
ويبين الباحث أن خطاب باكثير قدّم صورة مختلفة لشخصية “جحا” التراثية، وبعيدا عن كون باكثير أول من قدمه في المسرح، فهو أيضا قدمه مغايرا للصورة الذهنية التي شكلتها الحكايات الشعبية، فجعل منه رجل ثورة يقود الشعب ضد المحتل الأجنبي، وجعله يعاني في سبيل قضيته الكثير ومن ذلك أنه أدخله السجن، لكنه لم يفقده حسه الساخر أبدا. بل إن باكثير حرص على تقديم نص فني مثقف، وقد حقق له كل من الشعر والقصص التراثية والأمثال الشعبية ذلك، ومقصده من ذلك إظهار شخصيته في العمل الأدبي، إضافة إلى تأكيد الهوية العربية.
أحمد إبراهيم الشريف تعامل مع مسرحيات باكثير من زاويتين؛ الأولى باعتبارها خطابا جماليا، والثانية باعتبارها وثيقة
ويلفت إلى أن باكثير حاول إعادة تفسير النبوءات وفعل ذلك في مسرحية “مأساة أوديب” فجعلها “مؤامرة” من المعبد ضد بيت الحاكم، وهذا التفكير العقلاني يحسب للخطاب، لأنه سيبعث رسالة لجمهوره أن بعض ما يوحى إليه بأنه غيبيات ليس كذلك بل هناك يد تديره وعقل يدبره. كما أن خطابه تحرك في رصده لقيمه التي يدافع عنها، والتي أطلق عليها الباحث دائرة الذات من باب الدفاع عن الهوية، ومن ذلك مفهوم الشعب الذي تتطور صورته من الشعب المقهور إلى الشعب المتحقق، ولا يخفى لدارس الخطاب التنبه إلى تأثير الظروف الخارجية “ثورة 1952” على هذا التصور الفني، فما قبل هذا التاريخ كان الشعب في معاناة كبرى، كان مجرد “كورس” يردد ما يقال أمامه، وبعد هذا التاريخ نجد شعبا واعيا بدوره وبأهميته.
ويكشف الشريف أن خطاب باكثير كان أول من أشار إلى أزمة فلسطين في مسرحية كبرى، وذلك في مسرحيته “شيلوك الجديد ـ 1944”، وقد تطورت طريقة تعامل باكثير مع العدو الصهيوني في هذه المسألة؛ في البداية كان يرى جيش الاحتلال مجرد عصابات قادمة من مجاهل أوروبا، وكان لديه إحساس بأنه يمكن القضاء عليها بسهولة، لكن بعد ذلك اختلفت اللهجة وصار يطالب العرب بالتضامن، واضطر في معالجاته المسرحية أن يعترف بوجود إسرائيل -بالطبع لم يخرجها من دائرة العدو- وأن يبحث عن حلول أخرى للقضاء عليها بعيدا عن إلقائها في البحر.
ويخلص الشريف إلى القول إنه “يمكن في النهاية وصف ما قدمه علي أحمد باكثير بأنه إبداع الضرورة؛ بمعنى أن المجتمعين العربي والمصري كانا في حاجة حقيقية لكاتب يخوض في هذه القضايا ويناقش هذه الأفكار ويستعيد التاريخ والتراث ويبحث عن الهوية والخصوصية، فقد كانت الأوضاع في العالم مرتبكة أكثر مما يجب، فهناك دول تصعد وأخرى تسقط، ودول تتحرر وأخرى تدخل في العبودية من جديد، وهناك فلسطين تخسر كل شيء، وهنا كان يجب لكاتب ما أن يرفض كل ذلك وأن يصرخ ـ حتى لو كان الصوت مرتفعا قليلاـ في وجه الصامتين طالبا منهم أن يتنبهوا أكثر وأن يقبضوا على قيمهم في ذلك الزمن المتحول.
محمد الحمامصي
العرب