أرشيف الوسم : المغرب

مؤسسة السجون في التاريخ الإسلامي

زنازين تعذيب تحت الأرض وأنشطة تدريس وتأليف ونزلاؤها لصوص ونساء وعلماء وأمراء.. مؤسسة السجون في التاريخ الإسلامي

صور من التاريخ الإسلامي - الشطار والعيارون

السجن كلمة بغيضة تُنبئ بمعاني الألم والقيدِ وتقييد الحرية، وقسوة لا يكاد يُعرفُ لها آخر؛ إنها نظام عرَفته البشرية منذ أقدم عُصورها، وأُلقي فيه الناس بمختلف طبقاتهم ونحلِهم، كثير منهم كان ظالما فاستحق العقوبة، وأكثرهم كان بريئًا قبع بين جدرانه وعذاباته طويلا؛ وعلى رأس هؤلاء النبي يوسف -عليه السلام- الذي رأى في السجن ملجأ آمنًا من الفتنة والغَيّ: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} (سورة يوسف)؛ فلبث فيه بضع سنين؛ ومن بعده جاء موسى -عليه السلام- رسولا من عند الله فهدده فرعون قائلا: {قَاَلَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}؛ (سورة الشعراء)! ويبدو أن نظام السجون في مصر القديمة كان هو الأكثر تقدمًا وقِدمًا بين نظرائه؛ حتى إن القرآن الكريم لم يذكر لفظ “السجن” ومشتقاته إلا مرتبطا بمصر. وقد تأثرت الحضارات اللاحقة بميراث مصر وغيرها في مجال السجون وأوضاعها حتى أمست مؤسسة راسخة من جملة مؤسساتها؛ فكيف إذن كانت أوضاع السجون والسجناء في تاريخنا الإسلامي؟ وبأي نحو تطور مفهوم السجن وبنائه ونُظُمه؟ وكيف عانى الناس في تلك السجون والمعتقلات فسطّروا قصصًا من المآسي والآلام أو النجاحات والطموحات؟! وما معالم الرؤية التي قدمتها المدونة التشريعية الإسلامية لضبط هذه المؤسسة؟ وإلى أي حد انسجم الواقع مع المثال؟


مؤسسة جنينية

أدرك العربُ في جاهليتهم الحاجة للسجون فنقلوا نظامها عن الفرس والروم، وكان للمناذرة ملوك الحيرة بالعراق سجون عدّة، عرفنا منها سجنا ‘الصنين‘ و‘الثوية‘، وممن سُجنوا بـ‘الصنين‘ عدي بن زيد التميمي الشاعر النصراني (ت 35 ق.هـ). وكان للغساسنة -ملوك عرب الشام- سجن اعتُقل فيه سعيد بن العاص القُرشي الذي “قد قدم الشّام في تجارة…؛ فاجتمع رأي بني عبد شمس على أن يفتدوا سعيد بن العاص، فجمعوا مالا كثيرا فافتدوه به”؛ وفقا لابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في كتابه ‘الإصابة‘.

وحين جاء الإسلام؛ استندت منظومة العقوبات فيه على تعاليم القرآن والسنة النبوية، فكان القصاص تبعا لنوع الجرم المرتكب، بيد أن ثمة عقوبات وجنايات أخرى التُزم فيها بمبدأ “التعزيز” وهو التأديب على ذنوب لم تُشرّع فيها الحدود، فاستلزم التعزيز وجود سجون، وهذه التعازير كانت اجتهادية بقدر الفعل والفاعل ووجه الفعل؛ كما يذكر العلامة الونشريسي المالكي (ت 914هـ) في كتابه ‘المعيار‘.

أما السجن في التصور القانوني الإسلامي فليس هدفه الإذلال والتضييق على السجين، ولذلك عرّفَ الفقهاء الحبس القضائي بأنه “ليس السجن في مكان ضيّق، وإنما هو تعويق الشخص ومنعه من التصرف بنفسه، سواء كان في بيت أو مسجد”؛ حسبما يوضحه ابن تيمية (ت 728هـ) في ‘مجموع الفتاوى‘.

وقد رأينا هذا المغزى متحققًا منذ عصر النبوة؛ إذ “ما كان لرسول الله ﷺ سجنٌ قَطُّ”؛ كما يقول ابن حزم (ت 456هـ) في ‘المحلى‘. لكنه استعاض عنه بأماكن أخرى كلما دعته الحاجة؛ فقد أمسك المسلمون زعيم اليمامة المتحالف مع قريش فربطه النبي ﷺ في المسجد النبوي، وحبس ﷺ ابن شناف الحنفي وابن النواحة مبعوثيْ مُسيلمة الكذاب إليه -وكانا قد ارتدّا عن الإسلام- في بيوت بعض أصحابه ثم أطلقهما. غير أن فكرة إنشاء سجن مخصص لأرباب الجرائم بزغت في عصر عمر بن الخطاب (ض) لاتساع المجتمع الإسلامي وازدياد المجرمين؛ فاشترى دارا لصفوان بن أمية بمكة المكرمة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنًا.

ومن هنا اعتبره المؤرخون المؤسس الحقيقي لمصلحة السجون الإسلامية؛ فقد قال محمد بن الفرج الطلاعي القرطبي (ت 495هـ) في كتابه ‘أقضية رسول الله ﷺ‘: “ثبت عن عمر بن الخطاب.. أنه كان له سجن، وأنه سجن الحطيئة (الشاعر ت 57هـ) على الهجو، وسجن صُبيغا التميمي”. ولما تولى علي (ض) الخلافة أقام سجنا اسمه ‘نافع‘ و”كان.. من قَصَب [فـ]ـهرب منه طائفة من المحبسين”، فبنى سجنا آخر وسماه ‘المُخيّس‘؛ كما يقول مجد الدين ابن الأثير (ت 606هـ) في كتابه ‘النهاية في غريب الحديث والأثر‘.

المسلمون اقتبسوا نظام السجون من الحضارات الأخرى وفق نظرة قانونية مستلهمة من تعاليم دينهم لكن سرعان ما انحرفوا عنها (الجزيرة)

توسع ورسوخ
وفي عصر الأمويين (41 -132هـ) اتسعت دائرة السجون؛ حيث أمر معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) ببنائها بولايات الدولة، وقد سجن معاويةُ بعضَ أقاربه لما بدر منهم من مخالفات؛ مثل محمد بن حذيفة الذي كان شريكًا في فتنة مقتل عثمان فسجنه بسجن دمشق. وفي أيامه اتخذ “الدار الخضراء” قصرا للإمارة بدمشق وجعل “فيها الشرطة والحبوس”؛ كما يذكر المسعودي في ‘التنبيه والإشراف‘.
وتذكر مصادر تاريخ الأمويين سجونا بالولايات المختلفة؛ ففي المدينة المنورة اتخذ الوالي سعيد بن العاص الأموي (ت 59هـ) سجنًا كان من نزلائه الشاعر هدبة بن خشرم العامري بسبب قتله زيادة بن زيد الذبياني في سباق وتنافس بينهما؛ كما يروي أبو الفرج الأصفهاني (ت 356هـ) في ‘الأغاني‘.

وكان سجن الكوفة من أشهر السجون وعلى درجة عالية من الحصانة والقوة وبه ساحة خارجية. يقول الطبري (ت 310هـ) -في تاريخه- متحدثا عن إيداع أتباع الحسين بن علي رضي الله عنهما (ت 61هـ) -بعد استشهاده- في ذلك السجن: “فبينا القوم محتبَسون؛ إذ وقع حَجر في السجن معه كتاب مربوط، وفي الكتاب: خرج البريد بأمركم يوم كذا وكذا إلى يزيد بن معاوية [في الشام]، وهو سائر كذا وكذا يومًا، وراجع في كذا وكذا؛ فإن سمعتُم التكبير فأيقِنوا بالقتل، وإن لم تسمعوا تكبيرًا فهو الأمان”.

واتخذ الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) والي العراق وبلاد المشرق الإسلامي سجونا كان أشهرها ‘سجن الديماس‘ بمدينة واسط عاصمة ولايته. ويصف ابن الجوزي (ت 597هـ) -في ‘المنتظم‘- جانبا من فظاعة هذا السجن؛ فيقول إنه “حائط محوط، ليس فيه مآل (= مأوى) ولا ظلّ..، فإذا آوى المسجونون إلى الجدران يستظلون بها رمتهم الحرسُ بالحجارة، وكان يطعمهم خبز الشعير مخلوطا به الملح والرماد، فكان لا يلبث الرجل فيه إلا يسيرا حتى يسودّ فيصير كأنه زنجي”!!

ويحكي الراغب الأصفهاني (ت 502هـ) -في ‘محاضرات الأدباء‘- أن الحجّاج “خرج.. يوماً إلى الجامع فسمع ضجة عظيمة، فقال: ما هذا؟! قالوا: أهل السجن يضجون من الحر!! فقال: (اخْسَؤُوا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ)”!! وقال الحافظ الذهبي (ت 748هـ)  في ‘تاريخ الإسلام‘: “عُرضتْ السجون بعد موت الحجاج فوجدوا فيها ثلاثة وثلاثين ألفا، لم يجب على أحد منهم قطع ولا صلب! وقال الهيثم بن عدي (الطائي المؤرخ المتوفى 207هـ): مات الحجاج وفي سجنه ثمانون ألفا، منهم ثلاثون ألف امرأة”!!

وإذا كان عمر بن الخطاب أولَ مَن بنى سجنًا في الإسلام؛ فإن سبطه عمر بن العزيز (ت 101هـ) كان أول من نظّم أحوال السجون، وجعلها مؤسسة احترافية كاملة. فقد أفرد لها سجلًّا يضبط أسماء السجناء وأحوالهم، وجعل لهم مرتبات مالية حسبما رواه المؤرخ ابن سعد (ت 230هـ) في ‘الطبقات الكبرى‘ عن الواقدي (ت 207هـ): “عن أبي بكر بن حزم (ت 120هـ) قال: كنا نُخرج ‘ديوان أهل السجون‘ فيخرجون إلى أعطيتهم بكتاب عمر بن عبد العزيز”. وإن كان الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة (ت 182هـ) يرى –في كتابه ‘الخراج‘- أن تخصيص المرتبات كفكرة إجراء سنه قبله الخليفة علي (ض).

وكان يحرص على تطبيق ومتابعة وصاياه المتعلقة بالمساجين والتي كان يرسلها لولاته ورؤساء أجناده؛ ومما جاء فيها عند أبي يوسف في ‘الخراج‘: “أما بعد؛ فاستوصِ بمن في سجونك وأرضك حتى لا تصيبهم ضيعة، وأقم لهم ما يُصلحهم من الطعام والإدام”. وكتب إلى جميع أمراء أجناده قائلا: “انظروا مَن في السجون ممّن قام عليه الحقّ، فلا تحبسنّه حتى تقيمه عليه، ومن أُشكل أمره فاكتب إليّ فيه، واستوثق من أهل الدّعارات (= الفَسَقَة)..، ولا تعدّ في العقوبة، وتعاهد مريضهم ممّن لا أحد له ولا مال، وإذا حبستَ قوما في دَيْن فلا تجمع بينهم وبين أهل الدّعارات، واجعل للنساء حبسًا على حدة، وانظر مَن تجعل على حبسك ممّن تثق به ومن لا يرتشي، فإنّ من ارتشى صنع ما أُمر به”.

أحداث الفتن التي شهدها التاريخ الإسلامي في حقبته المبكرة أيام الأمويين والعباسيين زادت نظام السجون رسوخا بتزايد نزلائها (الجزيرة)

عصر المأسسة
أما الحقبة العباسية (132 – 656هـ) فشهدت توسّعا في إنشاء السجون بمختلف أنواعها وأنظمتها، وتباينت عندهم ما بين عامة وخاصة ومركزية وفرعية. ويُعتبر سجن ‘المُطبـِق‘ أول سجن مركزي في تاريخ الدولة العباسية ويعادل في فظاعته سجن ‘الديماس‘ الأموي.

فقد انتهى بناء هذا السجن سنة 146هـ أثناء تشييد بغداد التي اكتملت 149هـ أيام الخليفة المنصور (ت 158هـ)، وسُمي هذا السجن بـ‘المُطبـِق‘ لحصانته وظلمته؛ إذ أُنشئ قسم منه تحت الأرض فكان يُطبق على المسجونين ويُبقيهم في الظلام الدامس. ويذكر اليعقوبي (ت بعد 292هـ) -في كتابه ‘البلدان‘- سِكّة المطبِق ببغداد؛ فيقول: “وفيها الحبس الأعظم الذي يُسمَّى ‘المُطبِق‘، وثيق البناء مُحكَم السور”.

وفي ذلك السجن حُبس بعض أخطر السجناء، أو من أرادت السلطة أن تـُنزِل بهم أشد العقاب من السياسيين؛ مثل الوزير العباسي يعقوب بن داود الفارسي (ت 187هـ) الذي سجنه الخليفة المهدي (ت 169هـ) بسبب ميله للعلويين. وحسب الطبري في تاريخه؛ فإن ذلك الوزير يروي تجربته القاسية بالسجن تحت الأرض قائلا: “حُبستُ في ‘المُطبق‘ واتُّخِذ لي فيه بئر فدُليتُ فيها، فكنتُ كذلك أطول مدّة لا أعرف عدد الأيام، وأُصبتُ ببصري، وطال شعري حتى استرسل كهيئة شعور البهائم”!!

ومن أشهر سجون بغداد: ‘سجن بستان موسى‘ الذي بناه الخليفة المعتصم (ت 227هـ) قبل انتقاله إلى سامراء، ويصفه القاضي التنوخي (ت 384هـ) –في ‘الفرَج بعد الشدة‘ نقلا عمن دخله- بأنه “كان كالبئر العظيمة قد حُفرت إلى الماء أو قريب منه، ثم فيها بناء على هيئة المنارة مجوَّف من باطنه، وله من داخله مدرج قد جُعل في مواضع من التدريج مستراحات، وفي كل مستراح شبيه بالبيت يجلس فيه رجل واحد كأنه على مقداره، يكون فيه مكبوباً على وجهه ليس يمكنه أن يجلس ولا يمد رجله”.

وبلغ اعتناء الخلفاء العباسيين بالسجون أن بعضهم أشرف بنفسه على وضع تصاميم هندسية لها وتنفيذ بنائها، فقد أمر الخليفة المعتضد بالله (ت 289هـ) ببناء ‘سجن المطامير‘ داخل ‘دار الخلافة‘ وراعى في بنائها الدقة والحصانة، وسُميت ‘المطامير‘ لأنها طُمِرت تحت الأرض كلها، ولم يكن لها قسم أعلى الأرض مثل سجن ‘المُطبِق‘.

ويصف الخطيب البغدادي (ت 463هـ) واقعة بناء سجن المطامير بقوله: “وأمر ببناء مطامير القصر، رسمها هو (= المعتضد) للصُّنّاع، فبُنيت بناءً لم يُرَ مثله على غاية ما يكون من الإحكام والضيق، وجعلها محابس للأعداء”.

وشدد الفقهاء على وجوب “حبس النساء بموضع لا رجال فيه والأمين عليهن امرأةٌ مأمونة”؛ كما يقرر ابن المَوّاق المالكي (ت 897هـ) في ‘التاج والإكليل‘. ومنذ مرحلة مبكرة من التاريخ الإٍسلامي وُجدت سجون منفصلة للنساء، وتنوعَّت أسباب سجنهن ما بين الأسر والمغارم والتعدي على الحقوق الشرعية كالقتل والسرقة وغيرها؛ ففي زمن معاوية بن أبي سفيان (ت 60هـ) سُجنت آمنة بنت الشريد زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي أحد قتلة عثمان بن عفان، وتتضارب الأقوال في سبب سجنها.

وقد سبق ما ذكرناه من أمر عمر بن عبد العزيز بفصل السجينات عن السجناء الذكور، كما خصص العباسيون سجونًا للنساء منها ذاك الذي عُرف بـ”سجن الطرارات” (= المحتالات)، وذكره المؤرخ جمال الدين القِفْطي (ت 646هـ) في كتابه ‘إخبار العلماء بأخبار الحكماء‘. وبالنسبة للصبيان؛ فقد ذكر العلامة الونشريسي المالكي -في ‘المعيار‘- أن الغلمان القُصّر الذين يرتكبون مخالفات إنما يكون “حبسهم عند آبائهم لا في السجن”.

طالما كانت السجون المسكن الثاني لأعلام كبار بسبب مواقفهم ضد السلطة فاستغلوا عزلتها للدراسة والتأليف (الجزيرة)

أعلام النزلاء
امتدت ظاهرة السجون في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه، وحوت أصحاب الجرائم والمحكوم عليهم بالعقوبات المتنوعة طبقا لأحكام القُضاة ونوابهم وبعضها أحكام جائرة، ومنها ما خُصص للسلطات التنفيذية مثل مؤسسة الخلافة والسلطنة وغيرها، وكان يُزج فيها ظلمًا أصحاب الرأي المعارض، ومشاهير الأعلام من العلماء والأدباء والوزراء.

ولعل من أشهر سجناء الرأي والموقف في تاريخنا الإمام أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ)؛ فقد اتهمه العباسيون بأنه مؤيد لثورة العلويين -بقيادة محمد النفس الزكية (ت 145هـ)- بالعراق وغيرها، وتعززت التهمة برفضه تولي منصب القضاء لهم؛ فسجنوه خمس سنوات حتى مات في محبسه، بعد أن “ضُرب فِي السجن على رَأسه ضربًا شَدِيدًا، وكانُوا قد أمِروا بذلك”؛ كما يروي الصيمري الحنفي (ت 436هـ) في كتابه ‘أخبار أبي حنيفة وأصحابه‘.

كما أودع الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ) فترة في ‘سجن العامة‘ بدرب الموصلية -حسب الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘- وجُلد بالسياط حتى أُدمي جسده، بعد رفضه القول بعقيدة ‘خلق القرآن‘ التي روّجت لها السلطة حينها.

أما العلامة الحنفي شمس الأئمة السَّرْخَسي (ت 483هـ) فكان من أعجب المساجين العلماء في تاريخ الإسلام الوسيط؛ فقد أفتى بحرمة زواج أحد ملوك فرغانة (تقع اليوم بأوزبكستان) من جارية أعتقها ولم ينتظر عدّة إعتاقها؛ وحين سمع الملك الفتوى أمر فورا بإلقاء العلامة السَّرْخَسي في سجن تحت الأرض بمدينة أُوزْجَنْد (تقع اليوم بقرغيزستان)؛ حسبما أورده محمود الحنفي الكفوي (ت 990هـ) في كتابه ‘كتائب أعلام الأخيار‘.

مُنع السَّرْخَسي بسجنه –الذي لازمه أكثر من عشر سنوات- حتى من كتبه وأقلامه وأدواته، غير أن تلامذته كانوا يقفون أعلى فتحة بئر السجن فيستملونه علمه، “وكان يملي عليهم من الجُبّ” بأعلى صوته من حفظه؛ ومن ذلك الإملاء جاء كتابه الفقهي الكبير: ‘المبسوط‘ ذو المكانة العالية في الفقه الحنفي!!

ونحن نرى أثر السجن وقسوته في نفس السَّرْخَسي في نهايات بعض أبواب هذا الكتاب، ففي شرح كتاب “العبادات” مثلا يقول: “هذا آخر شرح كتاب العبادات بأوضح المعاني وأوجز العبارات، أملاه المحبوس عن الجُمعة والجماعات”.

أما الإمام ابن تيمية فقد سُجن مرات كثيرة في مصر والشام، وكان يجعل من سجنه فرصة للتأليف وكتابة الردود العلمية، وفي سجنه الذي مات فيه ظل يكتب “حتى أخرج [السلطان] ما كان عند[ه]… من الكتب والأوراق والدواة والقلم، ومُنع من الكتب والمطالعة، وحُملت كتبه.. إلى خزانة الكتب بالعادلية الكبيرة”؛ وفقا لابن كثير (ت 774هـ) في تاريخه.

وفي اليمن؛ ألّف السلطان والإمام المهدي لدين الله الزيدي (ت 840هـ) كتابه “الأزهار في فقه الأئمة الأخيار” في السجن، بعد الإطاحة به من الحكم سنة 801هـ. ولم تكن محمدة التأليف في السجن قاصرة على علماء الشرع؛ حيث صنّف الكاتب أبو إسحق الصابي في بغداد (ت 384هـ) كتابه ‘أخبار بني بويه‘ وهو في السجن.

وفي الجانب الغربي من العالم الإسلامي؛ طال الحبس أعلاما كبارا فكان أحمد بن محمد بن فرج الجيّاني الأندلسي (ت 366هـ) من علماء اللغة والشعر، وقد أُلقي به في سجن جيّان سبع سنين لكلمة بدرت منه وتم تأويلها على محمل سيئ، “وكان أهل الطلَبِ (= طلاب العلم) يدخلون إليه في السجن، ويقرؤون عليه اللغة وغيرها”؛ كما يذكر ابن بشكوال (ت 578هـ) في كتابه ‘الصلة‘.

بعض السلاطين المسلمين تولى بنفسه وضع تصاميم إنشائية مخيفة للسجون التي يريدها في دولته (مواقع التواصل الاجتماعي)

أدباء وساسة
سجّل تاريخنا أيضًا طائفة كبيرة من الشعراء والخطباء من أهل الأدب كان جزاؤهم السجن؛ إما لقضايا استحقوا فيها السجن تعزيرًا وإما لموقف السلطة منهم. فإضافة للحطيئة الذي سبق ذكر خبر سجنه؛ سُجن الكُميت بن زيد الأسدي (ت 126هـ) لهجائه والي العراق الشهير خالد بن عبد الله القسري (ت 126هـ). كما سَجنَ الحجّاجُ الخطيبَ المفوّهَ الغضبانَ بن القبعثري مدة طويلة، “فدعا به يوما، فلما رآه قال: إنّك لسمين! قال: القيد والرتعَة (= الراحة والطعام الوفير)، ومَن يكُن ضيفًا للأمير يسمن”؛ كما يرويه الجاحظ (ت 255هـ) في ‘البيان والتبيين‘.

وذكر ظهير الدين البيهقي (ت 565هـ) -في ‘لباب الأنساب والألقاب‘- أديبا اسمه “أبو محمد العلوي الفارسي الواعظ، كان علويا محدثا صالحا، وقد رأى المتنبي (ت 354هـ) وقرأ عليه بعض ديوانه، قـُتل بنيسابور في ذي الحجة سنة أربع وثمانين وثلاثمئة، وأخرج من سجن في سكة الباغ”.

لم تترك ألاعيب السياسة ومؤامرات القصور والغرف المغلقة ولا تبدّل الدول والقوى لرجال الحكم والسياسة ركنًا يحتمون به، فعانى كثير منهم مرارة الحبس والقيد؛ ولعل في طليعة هؤلاء الخليفة العباسي المستكفي بالله (ت 338هـ) الذي قرر معز الدولة البويهي (ت 356هـ) الخلاص منه، فيروي ابن كثير أن البويهيين حين دخلوا بغداد “سيق الخليفة ماشيًا إلى دار معز الدولة فاعتُقل بها…، فلم يزل به مسجونًا حتى كانت وفاته”.

وإذا اتجهنا للغرب الإسلامي؛ فسنجد أن أشهر سجناء السياسة كان أمير إشبيلية الشاعر المعتمد بن عبّاد (ت 488هـ) الذي تبدل حاله من الإمارة والغنى إلى السجن والأسر والفقر في منفاه بمدينة أغمات المغربية، إثر تقويض المرابطين لإمارته. كما دخل الإمام ابن حزم السجن سنة 412هـ أيام انخراطه في سياسة قرطبة، إبان فتنتهاّ الكبرى أوائل القرن الخامس الهجري.

ولئن حوت سجون العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل عِلّية المجتمع من كبار الخلفاء والأمراء والفقهاء والمحدّثين والأدباء والعسكريين وغيرهم؛ فإن أغلب نزلائها كانوا من العامة والمهمّشين الذين قلّما وقفت مصادر التاريخ السياسي والاجتماعي مع معاناتهم. وقد تنوعت أسباب سجنهم، فكانت جرائم المال -وخاصة السرقة- والقتل في صدارة التجاوزات التي ألقَت بأصحابها في السجون.

فقد ضجت سجون العباسيين بـ”العيارين”، وهم نوع من اللصوص كانوا على قدر عالٍ من المهارات القتالية، مما جعل السيطرة الأمنية عليهم صعبة أحيانا كثيرة، فاستباحوا المدن نهبا وسلبا. وكانت السلطات تضيف لهم فئة ‘المُكْدِيّين‘ وهم المتسولون؛ وقد أورد لنا الجاحظ وصفًا لأحد هؤلاء هو خالد بن يزيد الشهير بـ”خالويه المكدي”، ناقلا وصيته لابنه التي يُعدّد فيها “مآثره” وماضيه في التسوُّل، فقال: “إني قد لابستُ السلاطين والمساكين، وخدمتُ الخلفاء والمكديين، وخالطتُ النُّسّاك والفُتّاك، وعمّرتُ السجونَ كما عمّرتُ مجالسَ الذكر”!!

وبين جدران هذه السجون وجدنا كذلك أشهر اللصوص وأكثرهم نفوذًا وخبرة، وهو أبو بكر النقاش البصْري. يروي التنوخي (ت 384هـ) -في ‘نشوار المحاضرة‘- أن رجلا من أهل البصرة سُرق ماله، ونُصح بأن يزور سجن البصرة الذي كان يقبع فيه النقاش زعيم اللصوص؛ ليستفسره عن ماله وكيفية استرجاعه، في مقابل هدية قيمة من الطعام والشراب والحلوى، وقد آتت التجربة ثمرتها؛ إذ دلّ النقاش ذلك الرجل على ماله وأخبره كيف يسترده.

الظلام شبه المطبق والبرد القارس والعزلة وقساوة السجانين عوامل زادت معاناة نزلاء السجون (الجزيرة)

حياة الزنازين
وكان السجناء الجنائيون يحصلون على طعامهم من أهاليهم، وعرفنا كيف كان بعضهم يقضون أيامهم وليالهم بين جدران السجون من سيرة علي ابن الحريري الدمشقي (ت 645هـ) الذي دخل السجن بسبب دَين بدراهم لم يستطع قضاءه، وحُبس في قسم أصحاب المغارم. يقول ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ) -في ‘شذرات الذهب‘- حاكيا قصة الحريري هذا، بما تتضمنه من روح تكافل يمكن أن تسود السجون إن وجدت من يحسن سياسة النفوس في أوقات الشدة ويلهمها الحلول لأزماتها:

“بات [الحريري].. في الحبس بلا عشاء، فلما أصبحَ صلّى بالمحتبسين صلاة الصبح، وجعل يذكر بهم إلى ضحوة، وأمر كُلّ من جاءه شيء من المأكول من أهله أن يشيله (= يخزّنه)، فلما كان وقت الظهر أمرهم أن يمدّوا الأكل سماطا (= مائدة)، فأكل كل مَن في الحبس وفضل شيء كثير، فأمرهم بشيله. وصلّى بهم الظهر وأمرهم أن يناموا ويستريحوا، ثم صلّى بهم العصر وجعل يذكر بهم إلى المغرب، ثم صلّى بهم المغرب وقدّم ما حضر؛ وبقي على هذا الحال. فلما كان في اليوم الثالث أمرهم أن ينظروا في حال المحتبَسين، وكلّ من كان محبوسا على دون المئة يَجبُون له مِن بينهم ويُرضون غريمه ويخُرجونه، فخرج جماعة، وشرع الذين خرجوا يسعَون في خلاص مَن بقي، وأقام ستة أشهر محبوسا، وجبوا له وأخرجوه”.

وقد وقفَ بعض الملوك والأمراء وأهل الخير أوقافًا وصداقات للإنفاق على المساجين، مثل مؤسس الدولة الطولونية بمصر أحمد بن طولون (ت 270هـ) الذي كان “يُجري على المسجونين خمسمئة دينار في كل شهر”؛ كما يذكر ابن خلدون في تاريخه. وحين ولي الظاهر بالله العباسي (ت 623هـ) عرش الخلافة ببغداد سنة 622هـ “أعطى القاضي عشرة آلاف دينار لوفاء ديون من في السجون من الفقراء”؛ كما يخبرنا المؤرخ ابن تغري بردي (ت 874هـ) في ‘مورد اللطافة‘.

وذكر ابن تغري بردي أيضا –في ‘المنهل الصافي‘- أن السلطان المملوكي الظاهر برقوق (ت 801هـ) “كان يذبح دائما في أيام سلطنته في كل يوم من أيام شهر رمضان خمسا وعشرين بقرة، تطبخ ويتصدق بها مع الخبز النقي الأبيض على… أهل السجون، لكل إنسان رطل لحم (= 450 غراما) مطبوخ وثلاثة أرغفة”. ومن هؤلاء المحسنين ناظر الجيش المملوكي في حلب عبد الله بن مشكور الحلبي (ت 778هـ)؛ فقد قال عنه ابن حجر –في ‘الدرر الكامنة‘- إنه “وقفَ [مالا] على المحبوسين من الشّرع (= سجناء الحق الخاص) وكانوا قبلُ في سجن أهل الجرائم”.

غير أن المقريزي (ت 845هـ) يصف –في ‘المواعظ والاعتبار‘- مشهدًا مغايرًا لهذه الأريحية لأوضاع المساجين المزرية وامتهان كرامتهم؛ فيقول: “وأمّا ‘سجون الولاة‘ فلا يوصف ما يحلّ بأهلها من البلاء، واشتهر أمرهم أنهم يخرجون مع الأعوان في الحديد حتى يشحذوا (= يتسوّلوا) وهم يصرخون في الطرقات: الجوع! فما تصدّق به عليهم لا ينالهم منه إلّا ما يدخل بطونهم، وجميع ما يجتمع لهم من صدقات الناس يأخذه السجان وأعوان الوالي، ومن لم يرضهم بالغوا في عقوبته، وهم مع ذلك يُستعمَلون في الحفر وفي [بناء] العمائر ونحو ذلك من الأعمال الشاقة، والأعوان تستحثهم، فإذا انقضى عملهم رُدّوا إلى السجن في حديدهم من غير أن يطعموا شيئا”.

وقد كان السجناء ببعض المناطق مطالَبين بدفع إتاوة يومية أو شهرية ولو حصّلوها بالتسوّل، وهو ما سُمي بـ‘مقرر السجون‘ أو ‘ضمان السجون‘، وهو أن يطلب مسؤول توليته إدارة السجون مقابل مبلغ كبير يدفعه للسلطة، على أن يسترده مضاعفا بضرائب يفرضها هو على السجناء فيجبيها منهم بكل قسوة!! ويقول ابن تغري بردي –في ‘النجوم الزاهرة‘- إن السلطان الناصر محمـد بن قلاوون (ت 741هـ) “أبطل.. ما كان مقرّرا على السجون، وهو [أنه] على كلّ من سُجن -ولو لحظة واحدة- مئة درهم سوى ما يغرّمه. وكان.. لها ضامن يجبي ذلك من سائر السجون”. هذا رغم أن الفقهاء قالوا إن “أجرة الحبّاس (= السجّان)… -كأجرة أعوان القاضي- تكون من بيت المال”؛ كما قرره الحطاب المالكي (ت 954هـ) في ‘مواهب الجليل‘.

شهدت حقب عديدة من التاريخ الإسلامي استيراد تقنيات تعذيب وحشي في السجون من مختلف الحضارات (مواقع التواصل الاجتماعي)

صندوق الأحزان
لم تتوقف معاناة السجناء عند التضييق عليهم في الإطعام والإنفاق، بل وفرض الغرامات عليهم وهم مسجونون وتشغيلهم في الأعمال الشاقة، بل فوق ذلك كانت وبالا عليهم حين تتكدس فيها أعدادهم؛ فقد روى أحمد بن المدبر الكاتب (ت 270هـ) أنه ألقي به في سجن أحمد بن طولون بمصر، وكان سجنا شديد الضيق “وفيه خلق وبعضنا على بعض، فحُبس معنا أعرابي فلم يجد مكاناً يقعد فيه، فقال: يا قوم! لقد خفتُ من كل شيء إلا أني ما خفتُ قط ألا يكون لي موضع في الأرض في الحبس أقعد فيه! ولا خطر ذلك ببال، فاستعيذوا بالله من حالنا”!!

وقد تنوعت أساليب تعذيب المساجين ما بين الضرب والجلد وكسر الأسنان والأطراف والتعليق وغيرها. وعرفت العصور المتأخرة أنواعًا جديدة ومهولة من تعذيب السجناء مثل التسمير؛ إذ كان يتم وضع الشخص المراد تعذيبه على لوح من الخشب أُعدّ على شكل صليب، وكان يُسمى تهكما ‘اللعبة‘، وتُدق فيه أطراف الشخص بالمسامير وغالبا ما كانت تنتهي حياة المسمَّر بالموت!!

وقد أورد ابن منظور –في ‘لسان العرب‘- أسماء بعض آلات التعذيب في السجن، فذكر منها أداة تسمى “المِقْطَرَة: الفْلْقُ؛ وهي خشبة فيها خروق، كل خرق على قدر سعة الساق، يُدخل فيها أرجلُ المحبوسين. [وهو] مشتق من ‘قطار الإبل‘ لأن المحبوسين فيها على قِطار واحد، مضموم بعضهم إلى بعض، أرجلهم في خروقِ خشبةٍ مفلوقة على قدر سعة سوقهم”.

وبسبب هذه الأوضاع البائسة؛ كان السجناءُ في أوقاتٍ كثيرة يضجّون بآلامهم فيثورون على حياتهم التعيسة، ثم تتطور الأمور إلى مقاومة السجّان ومحاولة الهرب طلبا للحرية. وكثيرا ما كانت تفشل تلك المحاولات؛ فابن الجوزي يروي -في ‘المنتظم‘- أنه في سنة 306هـ “شغَب أهل السجن الجديد [ببغداد] وصعدوا السُّور، فركب.. صاحب الشرطة وحاربهم”.

كما كان السجناء يستغلون حالات الانهيار الأمني داخل المدن للفرار والهرب كمثل ما رأيناه في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 بمصر وغيرها؛ فحين حوصرت القاهرة سنة 791هـ من الأمراء المناوئين للسلطان المملوكي الظاهر برقوق، وأيقن الجميع أنه مهزوم “خاف والي القاهرة حسام الدين بن الكوراني على نفسه.. واختفى وبقي الناس غوغاء، وقطعَ المسجونون قيودهم بـ‘خزانة شمائل‘ وكسروا باب الحبس وخرجوا..، فلم يردُّهم أحد بشغل كلّ واحد بنفسه، وكذلك فعل أهل حبس الدّيلم، وأهل سجن الرّحبة”.

بل استطاعت الجماهير في لحظات غضبها وثورتها أن تهزم السلطات المحلية وتكسر أبواب السجون وتُفرج عن السجناء، كما فعل أهل بغداد سنة 309هـ حين نقموا على الوزير العباسي حامد بن العباس الخراساني (ت 311هـ) “بسبب غلاء الأسعار..، وحاربهم السلطان عند باب الطاق… بعد أن فتحت العامة السجون”.

ولئن بقي الناس بمختلف طبقاتهم يعانون ذل السجن وضيقه وأيامه ولياليه الطويلة؛ فإن لحظات الإفراج كانت أسمى أمانيهم؛ وقد تنوعت أسباب الإفراج عن المساجين تبعا للظروف السياسية والاقتصادية والدينية، فمنهم من كان يُفرج عنه مكرمة من رأس السلطة وكبار موظفيها لا سيما بمناسبة اعتلاء مناصبهم. فالذهبي يقول -في ‘تاريخ الإسلام‘- إن الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك (ت 99هـ) افتتح خلافته بـ”بخير وختم بخير؛ لأنه ردّ المظالم إلى أهلها…، وأخرج المسجونين الذين كانوا بالبصرة”.

كما كان هؤلاء الأمراء يرون في الإفراج عن المساجين قربة إلى الله يُبغى من ورائها الثواب والتنفيس عن مصائبهم في لحظات كربهم بمرض ونحوه؛ فقد “مَرض الملك المعظّم (الأيوبي المتوفى 624هـ) فتصدّق وأخرج المسجونين” بدمشق؛ كما يذكر الذهبي. وحين تعافى أقرب مماليك السلطان الناصر قلاوون وهو الأمير يَلْبُغَا اليحياوي (ت 748هـ) من مرض “عمل السلطان لعافيته سماطا (= وليمة) عظيما هائلا بالميدان…، وأخرج من الخزائن السلطانية نحو ثلاثين ألف درهم أفرج بها عن المسجونين على دَيْن”.

كتاب 

رؤية تشريعية
وبسبب اتساع هذه الظاهرة ورسوخها مؤسسيا ومجتمعيا؛ رأينا تنوعًا في الكتب التي خصَّصت بعض جوانبها لموضوع السجن، كما في ‘الخراج‘ لقاضي القضاة أبي يوسف، وبعض كتب الأدب العامة. وقد يكون كتاب ‘أُنس المسجون وراحة المحزون‘ لصفي الدين الحلبي (ت بعد 625هـ) أول كتاب يُفرد عنوانه وموضوعه للسجن، بسبب المحن التي تعرض لها أقرب الناس إليه بالسجن وهو سيده و”مخدومه”؛ كما يصفه.

وقدم الفقهاء وعلماء الشريعة عموما رؤية تشريعية -بالغة الإتقان والروعة- للسجون وأحوالها وأنواع مسجونيها وحقوقهم العقوبات الواقعة عليهم؛ وتجلى ذلك في أبواب القضاء والمعاملات والحدود، وفي مصنفات “النوازل” التي كانت تقدم الأحكام الشرعية لما يطرأ في المجتمع من قضايا جديدة في كل عصر ومصر، وقد يكون السجن علاجا اضطراريا لبعضها.

فقد استدل العلماء على مشروعية السجن من القرآن ومن فعل النبي ﷺ والخلفاء الراشدين؛ وذكر جمهرة الفقهاء أن مقصد السجن هو التوبة والزجر، وتحقيق التعزير والردع والتأديب، وذكروا مواضع محددة -معظمها يدخل في إطار “الحق الخاص” للأفراد- هي التي يُشرع الحبس فيها، وإن ظلت هذه المواضع تتوسع بتزايد الجرائم وتنوعها عبر القرون. وأكد الإمام القرافي المالكي (ت 684هـ) -في كتابه ‘الفروق‘- أن القاعدة العامة هي أنه “لا يجوز الحبس [للإنسان] في الحقّ إذا تملّك (= تمكّن) الحاكمُ من استيفائه…، لأن في حبسه استمرار ظُلمه”.

ونظرًا لارتفاع أعداد المساجين وكثرة السجون منذ أواخر عصر الأمويين وبدايات عصر العباسيين؛ فقد طلب الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ) من قاضي قضاة زمنه أبي يوسف أن يُحدّد الأُسس التي ينبغي أن تقوم عليها معاملة المسجونين، فأعدّ له دستورًا محكمًا سبق به دُعاة الإحسان إلى السجناء في العصر الحديث بألف سنة، كما هو موضّح في كتابه ‘الخراج‘.

وكان مما جاء في هذا الكتاب مما يتعلق بالإنفاق على المسجونين -لا سيما فقراءهم- قوله: “أحبّ إليّ أن يجري من بيت المال على كلّ واحدٍ منهم ما يقوته؛ فإنه لا يحلّ ولا يسعُ إلا ذلك…، والأسير من أسرى المشركين لابدّ أن يُطعم ويُحسن إليه حتى يُحكم فيه، فكيف برجل مسلم قد أخطأ أو أذنب يموت جوعًا؟!”.

بل إن أبا يوسف بيّنَ الطريقة المثلى للإنفاق على المساجين؛ وذلك بإيصال الأموال إليهم بصورة مباشرة خوفا من أن تقع في أيدي السجانين فلا تصلُ إليهم فتزداد معاناتهم. قال مخاطبا الخليفة الرشيد: “مُـرْ بالتقدير لهم ما يقوتُهم في طعامهم وأدمهم وصيّر ذلك دراهم تجري عليهم في كل شهر بدفع ذلك إليهم، فإنك إن أجريت عليها الخُبز ذهبَ به ولاة السجن.. والجلاوزة (= حراس السجون)، وولِّ ذلك رجلاً من أهل الخير والصلاح يُثبتُ أسماء مَن في السجن ممّن تجري عليهم الصدقة، وتكون الأسماء عنده ويدفع ذلك إليهم شهرًا بشهر”.

أما زميله الإمام محمـد بن الحسن الشيباني (ت 189هـ) فقد ذكر أنه “لا ينبغي أن يُمنع المسجون من دخول أهله وإخوانه عليه”. كما حرّم الفقهاء التعدي جسديا ونفسيا على السجناء، وتعذيبهم بالضرب أو بمنع الطعام والشراب؛ فإن حصل ذلك ومات السجين بسببه عدّوا ذلك قتل عمد يوجب القصاص من مرتكبه. ونستفيد من الحافظ ابن حجر أنه كان ثمة تفتيش قضائي دوري للسجون؛ فقد قال -في ‘رفع الإصر‘- إن القاضي القيسراني الشافعي (ت 531هـ) “فُوض إليه النظر في المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعا كثيرا كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم في السجن، فطالع بأمرهم الخليفة [الفاطمي]، وسأل في الإفراج عنهم فأذن له في ذلك”.

وقد رأينا المؤرخ المقريزي (ت 845هـ) –وهو فقيه أيضا- ينعى تدهور أحوال السجون في عصره؛ رافضًا ما يقع فيها من مظالم قائلا: “وأمّا الحبس الذي هو [حاصل] الآن فإنه لا يجوز عند أحد من المسلمين، وذلك أنه يجمع الجمْعَ الكثير في مَوضِع يضيقُ عنهم، غير متمكّنين من الوضوء والصلاة، وقد يَرى بعضُهم عورةَ بعض، ويؤذيهم الحرّ في الصيف والبرد في الشتاء، وربما يُحبس أحدهم السَّنة وأكثر ولا جِدَة (= قدرة مالية) له، وأنّ أصل حبسه على ضمان” مسؤول السجن بغرامة ظالمة.

تلك كانت جولة في التاريخ والتشريع، رأينا فيها -من زوايا متنوعّة- قصة السجون والسجناء في تاريخنا، بعضها التزم بما أقرته الشريعة في معاملة السجناء ورعايتهم، وبعضها تعدى الحدود والأعراف والأخلاق، وألقى بالأبرياء من أبناء الأمة علماء وأعيانا في زنازين ضيقة، قضى بعضهم أجله فيها فعلم لمكانته، وبعضهم ظل ذكره طي النسيان؛ وتلك قصة مليئة بمشاهد الآلام والكُربات لا نزال نراها في عصرنا هذا رغم كل ما يقال عن المدنية والحقوق الإنسانية! المصدر : الجزيرة

زنزانة بلا جدران لطفي حداد

زنزانة بلا جدران .. لطفي حداد

هذا الكتاب هو ثمرة علاقات طيبة وجميلة مع بعض الأدباء الذين تعرضوا للسجن، لكن الزنزانة، رغم برودتها وظلامها ووحشتها، لم تستطع أن تحبس شوقهم إلى الحياة، أو توقهم إلى النور، أو رغبتهم في الحب، وإصرارهم على الفرح ورؤيا الخلاص. وهكذا صارت قصائد “فرج بيرقدار” التي هربها من السجن على لفائف السجائر “حمامة مطلقة الجناحين”، وتحولت كلمات “علي الدميني” إلى “نعم في الزنزانة لحن”، وتغير مدار السجن عند “منصور راجح” إلى “مدار الحب”. إن ما يجمع هؤلاء الشعراء الثلاثة هو السجن، والكتابة فيه وعنه، كم مؤلم أن تضيع سنوات من عمرهم داخل زنزانة ربطة خانقة معزولة، لأنهم قالوا آراءهم، فصاروا سجناء رأي. لم يدعوا إلى العنف، لكن العنف لم يرحم إنسانيتهم وإيمانهم بالحق والحرية. قرأت أعمال هؤلاء الشعراء وشعرت أنني مطالب بأن أوصل رسالتهم إلى الجميع، فوضعت مقدمة عن كل منهم، مع نماذج شعرية ونثرية. أفردت للشعراء: منصور راجح، علي الدميني، وفرج بيرقدار، قسماً كبيراً من الكتاب كي يقرأ ضمير ما فعله بأبنائه، وكي يكون نتائجهم الأدبي شهادة على الظلم وانتهاك حقوق الإنسان في البلاد العربية، ساعياً لتعرية الجرح النازف كي لا يعود الزمن الأسود إلينا. ازداد اهتمامي بهذا الموضوع مع الزمن فرحت أقرأ عن الأدباء العرب الذين تعرضوا للاضطهاد عبر التاريخ. اكتشفت الكثير من الشعراء والروائيين الذين سجنوا وعذبوا وقتلوا وصلبوا مسجلين خبراتهم وكلماتهم في أدب رفيع مجيد صادق يستحق أن نقرأه بإعجاب وتقدير كبيرين. بدأت من الجاهلية حتى اليوم فقرأت في العصور القديمة عن سجن الحطيئة، على بن الجهم، أبي فراس الحمداني، المعتمد بن عباد، ابن زيدون. كذلك سجن الحلاج ومقتله. أما في العصر الحديث فقد أدرجت نفي البارودي، وأدب المقاومة الفلسطينية ممثلاً بغسان كنفاني، توفيق زياد، سميح القاسم، ومحمود درويش، كذلك وضعت بعض النماذج الأدبية لبدر السياب، محمد الماغوط، عبد اللطيف اللعبي، مظفر النواب، ونوال السعداوي، بعدها ذكرت نبذات عن أدباء آخرين تعرضوا للأذى والسجن. كذلك توسع المشروع حين تعرفت على الروائي العراقي المقيم في شيكاغو “محمود سعيد”، فطلبت منه أن يكتب عما عاش شخصياً ليختصر بذلك ألم الأدباء العراقيين -رغم أن أي اختصار لذلك الألم الصارخ مجحف بحقهم- فقدم لي قصة عن مخطوطة روايته “أنا الذي رأى”، وكنت قد قرأتها بالعربية والإنكليزية، فأضاءت تلك القصة -التي عانى بشكل مشابه بها كل الكتاب الصادقين في البلاد العربية- معنى أن تكتب عن السجن والحرية في الوطن/السجن،

أدب السجون والنقد المفتقد

عبدالرحمن مطر
كاتب وروائي، شاعر من سوريا

أضحى أدب السجون – أو أدب المعتقلات – موضوعاً أثيراً اليوم، بصورة تُلفتُ الإنتباه إليه، وتدعوا إلى الاهتمام به، بصورة جدية، وليس كظاهرة عابرة في الكتابة العربية، يمكن أن تطويها رياح الزمن. لكنها تستدعي التوقف حيالها، والبحث في فضاءاتها وآفاقها، التي تبشر – إذا جاز التعبير – بالمزيد من العطاء الإبداعي، الذي يرفد الحركة الثقافية العربية، بما هو جديد، ويشكل إضافة مهمة، من حيث القيمة، أولاً والكمّ، ثانياً، وفي تأصيل هذا النوع من تيارات الكتابة الجديدة ثالثاً.
يتجلى الاهتمام بأدب السجون، في الحياة الثقافية السورية، من خلال اتجاهات رئيسة ثلاث، تتمثل بصدور مؤلفات جديدة، وظهور أسماء جديدة، واهتمام وسائل الإعلام ومراكز البحوث، ومؤسسات العمل الثقافي، بإبراز أهمية وقيمة أدب السجون، خاصة خلال الأشهر الأربعة الأخيرة. ليصبح الحديث عنه أشبه بأمر شائع، يتناول جوانب متعددة، ويغفل بالطبع جوانب أخرى، وهذا طبيعي في ظل تسليط وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي على مسألة كهذه، تحتمل التناول على أكثر من وجهة باعتبارها، أولاً ظاهرة أدبية، وثانية قضية اجتماعية، وسياسية، تتصل بالمجتمع، ومعاناته. وقد حظيت ” الظاهرة ” بعناية لافتة، غلبت فيها وجهات النظر في تناولها العام، بعيداُ عن التعمق في دراستها، كشكل تعبيري يفرض وجوده، ضمن الأجناس الادبية السائدة، في حياتنا المعاصرة.
في سوريا، وفي العالم العربي، شهدت العشريتين الأخيرتين، تطوراً ملحوظاً، في أدب السجون، تشير إليه معظم الكتابات التي تناولت ذلك، ناجماً عن الدور الكبير الذي لعبه انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والنشر الالكتروني، والإنفراج المحدود الذي أتاح حرية تعبير محدودة، قياساً لما شهدته المنطقة من مصادرة للحريات، طوال ما يقرب من اربعين عاماً من القهر والاستبداد، كما أن انفتاح الناشرين على هذا النوع من الأدب، وظهور ناشرين جدد، أيضاً أتاح مجالاً رحبة للكتاب، خاصة اولئك الذين عايشوا تجارب مريرة في المعتقلات والسجون، كي يقدموا تجاربهم، عبر نصوص أدبية، الى القارئ العربي. وكانت الرواية – ولا تزال- هي الملاذ الأكثر انتشاراً وبروزاً، ضمن الأجناس الادبية التي لجأ إليها الكتاب للتعبير عن أفكارهم وانشغالاتهم، ويلاحظ، أن عدداً منهم، لم يكتب الرواية سابقاً، بل إنهم عرفوا كشعراء، أو قصاصين، أو صحافيين. لكنهم وجدوا في الرواية ضالتهم. فيما ظهرت أعمال لمؤلفين للمرة الأولى، لينضموا إلى عالم الكتابة، عبر عمل يتناول أدب السجون.


غير أن معظم تلك الأعمال، اتسمت – مشتركة في الغالب – بأنها أعمال روائية، يدون فيها الكاتب ما يمكن اعتباره شبه سيرة ذاتية، خاصة لمن تناول فيها تجربته السجنية. أما السمة الأخرى فهي أن تلك المؤلفات هي بمثابة شهادة على ماجرى ومايحدث في المعتقلات من قهر وتعذيب، وانتهاك لآدمية الإنسان، وتصفية وقتل تحت التعذيب، ومصادرة لجميع حقوقه، بما فيها الحق في الحياة. أما السمة الثالثة في تتجلى بالبوح بما جرى، أو الاعتراف، بما عاشه المؤلف / شخوص الرواية، في ظلال العتمة البغيضة.
ولعل هذه السمات الجامعة، لمعظم ما قُدِّم حتى الآن من أعمال أدبية، يجعل الإقبال على قراءة أدب السجون، والاهتمام به، من باب مشاركة الكاتب، في مشاعره، والتعبير عن الإحساس المجتمعي المتنامي، بقضية المعتقلين، الذين ظلت الكتابة عنهم مرتبطة بالخوف إلى وقت وقت قريب. لكن ذلك في اعتقادي، لم يتخط العتبة الأولى لإعطاء أدب السجون حقه من الإهتمام به كما يتوجب، من حيث قيمته الفنية، بشكل أساسي، خاصة في ظل انكفاء دور الرقابة، الى درجة الصفر، في كثير من الأحيان، وهذا تطور مهم جداً.
وتبدو ظاهرة النشر الميسر، والانتشار السريع، للمؤلفات الصادرة خلال السنوات العشر الأخيرة، بلا حدود، عاملاً مشجعاً لدخول عالم الكتابة، وهذا أمرٌ إيجابي جداً – في اعتقادي – على الرغم من أنه يثير قلقاً وحفيظة لدى شريحة غير قليلة من المشتغلين في الآداب والفنون. أهمية ذلك، انها تفتح المجال واسعاً أمام ممارسة حرية التعبير، وأمام ظهور كتابات جديدة، ومؤلفين جدد، ترفد عالم الكتابة الإبداعية، بما هو مختلف، ومغاير – ربما – خاصة في ظل الظروف التي تعيشها بلداننا، من ثورات وحروب، وتدمير وتهجير لم يسبق له مثيل، مترافقاً مع تبدلات وتغيرات اجتماعية على قدر كبير، من الأهمية الإحاطة بها، وأن يكون الكتّاب والكتابة، جزءاً فاعلاً ومؤثراً في سياقاتها.

الكتابة فعل حياة، مثلما هو بوحٌ، شهادة، أو اعتراف. ليكتب كل من يستطع إلى ذلك سبيلا، وليس معنى ذلك أننا ندعوا الى انتشار الأعمال الادبية التي يعوزها المستوى الفني، والقيمة الإبداعية، التي يجب أن تكون شرطاً أساسياً في أي عمل أدبي، أو فني يُقدم. ولسنا ندعوا الى الكثرة في ذلك، وإنما نشجع على الكتابة، وأن تصبح شئناً شائعاً خاصة لدى جيل الشباب، الذي يواجه تحديات ثقافية – اجتماعية فريدة اليوم، وفي مقدمها التحديات المتصلة بالهوية الثقافية، تكوينها، و/ أو إعادة صياغتها، في ظل سياسات إعادة الإندماج، والتهميش، وغير ذلك.
من ذلك، نود أن نخلص للقول، أن أشدّ ما أحوجنا إليه، هو الحركة النقدية، التي تدرس أدب السجون والمعتقلات، بوصفها أعمالاً ادبية، كما يخضع أي عمل أدبي للنقد، من حيث التفسير والتحليل والمقارنة والتقييم الأدبي والفني، عبر الجوانب المختلفة، للعمل الأدبي. وهذا ما يقدم لأدب السجون، ولغيره من الفنون والآداب الأخرى، فرصة ضرورية، لا غنى عنها، لتطوير الكتابة، ورفع مستوى الإبداع والرقي بقيمته الفنية، بعيداً عن التناول الإنطباعي الذي ينحو لإبراز موضوع الكتابة، وظروفها، وهو ما يجري اليوم على نطاق واسع. وعلى أهمية تلك القراءات الانطباعية، نحن بحاجة إلى نقد يشير الى مواطن الضعف والخلل، في النص الأدبي، والى مكامن قوته.
وعبر النقد الأدبي، يمكن تقديم الأعمال الأدبية الى الجمهور، ليساهم في تعزيز المعرفة، ورفع سوية الذائقة الفنية لديه، وبذلك تتعزز مكانة أدب السجون، وترتقي فيه الكتابة لملامسة حدود العمل الإبداعي الذي يطرح قضيته، بقيمة فنية عالية، يصبح فيها البقاء للأفضل، للنص الإبداعي الأصيل، ويختفي ما هو إنشائي، وطارئ، مع مرور الوقت، ونضوج التجربة الإبداعية، مترافقة مع نهوض المارسة النقدية الغائبة بشكل مؤثر حتى اليوم.
ككاتب صدرت لي رواية في أدب السجون، أشعر بأهمية أن يتناول النقد وبقسوة إن صح التعبير، أعمالنا الأدبية، ومنها بالطبع روايتي سراب بري، بعيداً عن الحذر والمجاملة، نتيجة الانحياز لموضوع ” تجربة السجن المريرة “. وقد آن الآوان لأن يستعيد النقد الأدبي دوره الضروري المفتقد.

حول الأوضاع الكارثية والانتهاكات الحقوقية التي يكابدها السجناء داخل معتقلات المغرب

بعد إجراء لعملية تحقيق دقيق وميداني دام 6 شهور حول وضعية السجناء داخل المؤسسات السجنية  الوطنية.. استخلصنا هذا التقرير المفصل والحامل للأرقام والمعطيات التي كان بعضها صادما والبعض الآخر كارثي..

يبلغ عدد المعتقلين داخل المؤسسات السجنية بالمغرب 84.990 الف سجين  بزيادة 7.97% منذ 2016 من بينهم 38 الف سجين في الاعتقال الاحتياطي ويمثلون  45% من العدد الإجمالي دون إصدار حكم وبدون مراعاة لمبدأ قرينة البراءة!!! حيث تساهم هذه النسبة في ارتفاع نسبة الاكتظاظ التي تتراوح حسب الجهات بين 124% و216%…

تبلغ نسبة السجناء الذكور  97.52 % في الإناث 2.48%

الفئة العمرية التي تشكل أكبر نسبة السجناء تتراوح ما بين 20 سنة إلى 30 سنة يعني الفئة النشطة

السجون المغربية مقسمة بين المركزي والمحلي والإصلاحي…

78 مؤسسة سجنية منها 66 سجنا محليا و 3 سجون مركزية 7 سجون فلاحية و 3 مراكز للإصلاح والتهذيب…

يعاني نزلاء هذه المؤسسات من مجموعة من الانتهاكات الحقوقية حيث يكابدون العناء والمشقات خلال يومياتهم والتي لا تحترم المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب فيما يخص حقوق السجين فما بالك بحقوق الإنسان..

حسب مجموعة من الشهادات الحية والشكايات العديدة التي تسلمناها من النزلاء القابعين داخل مجموع المؤسسات السجنية سجلنا ما يلي :

🔸اكتظاظ الزنازن بنسب تتراوح ما بين 124% و 216%

🔸انعدام التهوية وتفشي الرطوبة المسببة للعديد من الأمراض!

🔸انعدام النظافة داخل الفضاء السجني بما في ذلك المرافق الصحية من حمامات ومراحض

🔸تواجد صادم للكثير من الحشرات كالصراصير والذباب والبعوض أما الفئران والجرذان فقد صاروا هم كذلك نزلاء رسميون داخل تلك الجغرافيا البئيسة.. حيث أن أعدادهم تفوق عدد السجناء!!!!

🔸تغذية سيئة ومضرة بالصحة مع ارتفاع مهول في أسعار المواد الإستهلاكية المعروضة للبيع!!!!!

🔸بطاقات التعبئة للمكالمات يتم السمسرة فيها على شكل صفقة تجارية مبرمة بين إحدى شركات الاتصالات وإدارة السجون!!! حيث أن بطاقة 20 درهم تحتوي على نصف ساعة مكالمات فقط مما يضر بجيوب السجناء!!!!!

🔸انعدام النشاطات والترفيه داخل أغلبية المؤسسات السجنية!!!!

🔸حرمان السجناء من الاستفادة من التطبيب حيث أن هناك الكثير من ضحايا الإهمال الطبي!!!

🔸تواجد 4593 معتقلا يعانون من أمراض نفسية وعقلية لا يستفيذون من المتابعة الطبية!!!!

🔸حرمان بعض السجناء من استكمال الدراسة!!!!

🔸الزبونية والمحسوبية والانتقائية في المعاملة بين السجناء!!!!

عدم احترام تصنيف السجناء وذلك بوضع القاتل والمغتصب وسط سجناء قضايا بسيطة!!!

🔸المعاملة السيئة والاإنسانية التي يتعرض لها بعض السجناء!!!

🔸هناك 700 شكوى عن سوء المعاملة!!!

🔸التعذيب الجسدي والنفسي والحبس الانفرادي!!!

🔸حالات وفاة غامضة!!!

🔸تفشي تجارة الممنوعات والمخدرات!!!!

وعليه فهناك مسؤولية تقصيرية ومسؤولية عقدية تتحملها المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج. ..

🔺سأقوم غذا إنشاءالله بتوجيه رسالة مفتوحة إلى السيد محمد صالح التامك مدير المندوبية العامة للسجون..

ملحوظة :  يجب مراجعة المسطرة الجنائية والسياسة العقابية عن طريق إجراء عقوبات بديلة غير سالبة للحرية.. أضف إلى أن الاعتقال الاحتياطي يظل خرقا سافرا للمعاهدات والمواثيق الحقوقية الدولية.

                      ✍️ سعيدة العلمي

هذا ما حدث لي بسجن تولال 2

#تولال_2

عندما وصلت أول مرة لسجن تولال2 استقبلني مدير السجن مصطفى حمري بالتهديد بحلق لحيتي.. تعجبت وقتها من هذا التهديد!! وأخبرته أن هذه اللحية لها أكثر من خمس عشرة سنة وكل وثائقي بها.. وأني مررت من ثلاثة سجون ولم تزعج لحيتي أحدا!! بعد يومين كتبت طلبا للمدير من أجل السماح لي بالاتصال بعائلتي من أجل إخبارهم بترحيلي لهذا السجن لكن بدل السماح لي بالاتصال بهم أرسل لي زبانيته من أجل حلق لحيتي!! وكان هذا أصعب موقف مر بي في فترة سجني.. حيث أحسست بالمعنى الحقيقي للحكرة والاستضعاف وقلة الحيلة.. عدد كبير من السجانين كل يصرخ ويهدد على طريقته، وفي الأخير تم حلق لحيتي للأسف.. أقسى إحساس شعرت به في حياتي.. لمدة أيام وأنا أبكي في عزلتي، ولا أعرف نفسي في ظلي، وعندما أتوضأ لا أجد لحيتي التي تعودت على تخليلها لعدة سنوات… فلماذا هذا السجن يفعل به المدير وزبانيته ما يحلوا لهم ويخالفون كل أعراف السجون التابعة للمندوبية العامة لإدارة السجون وكأن هذا السجن غير تابع لها، وهذا في عدة أمور، سجن تولال2 حقيقة سجن خارج التراب الوطني وقوانينه.. دعوت في صلاتي وقيامي على المدير وزبانيته ولازلت أدعوا عليهم.. اللهم انتقم من كل جبار متكبر وكل من يستضعف المستضعفين من عبادك.

#عبدالله_الحمزاوي

ذكريات الإعتقال في سجون المغرب

ذكريات الإعتقال في سجون المغرب

  الإستقبال

بعد اعتقالي وإدخالي سجن الزاكي بسلا، جاءني عباس مدير السجن وأنا في صف “الباجدا” سألني عن اسمي، ظننته “بلانطو” ولم ألتفت إليه، حتى قال لي الموظف الذي يأخذ معلوماتك عند الدخول: معك السيد المدير صراحة لم أصدقه، فلا تظهر عليه أي علامة على أنه مدير أو في مقامه، لا هندام، ولا مظهر، حتى حذاؤه يظهر عليه أنه لرجل قطع كلمترات وسط الغبار.

)

المهم أخذني من وسط الصف وأكمل معي كل الإجراءات من بصمات وصور دون انتظار دوري في الطابور، وبعدها سلمني إلى موظف التفتيش وقال له “دير خدمتك”، ففتشني بطريقة مهينة، ومستفزة حيث جردني من كل ملابسي حتى الداخلية، وأمرني بالجلوس والوقوف، وبعد إكمال التفتيش، أخذني المدير عباس، وقال لموظفيه: “جيبو ليه مزافيل من دوك جداد، وديوه لبيتو”، ثم أخدوني لعزلة بحي (ب) يسكنها أكثر من ألف “سراق الزيت” لا أبالغ في العدد، لكن لم أر في حياتي مثل ذلك العدد من الصراصير في مكان واحد، منهم الميت والحي وحتى بقاياهم المتناثرة هنا وهناك.. وأدخلت لتلك الزنزانة التي تتوسطها بركة مائية نتنة اختلطت رائحتها مع رائحة مجاري المرحاض التي بقيت مدة طويلة لم يهرق فيها ماء.. وكذلك رائحة المزافيل التي أكرمني بها عباس وهي كاشة “بيدونسية كارمة”.

قضيت أيامي الأولى في السجن بتلك الزنزانة التي لا تتوفر فيها أدنى شروط الاعتقال الإنساني، كنت أقضي في تلك الغرفة 23 ساعة وحتى ساعة الفسحة كنت أخرج فيها لساحة أكبر من الزنزانة بقليل..

هذا التضييق كله كان بسبب أنني كنت أوصل رسائل المعتقلين المقهورين من طرف عباس ومن على شاكلته.

عبد الله الحمزاوي

معتقل اسلامي سابق

سجن سلا

“كان وأخواتها”.. رواية مهربة من داخل السجون المغربية

حسن العدم

“كان وأخواتها” رواية مغربية كتب فصولها عبد القادر الشاوي، وتأتي أهميتها من كونها كتبت في السجن، وحكت عن معاناة اليساريين الماركسيين في المغرب في فترة السبعينيات.

وقد أفردت لها قناة الجزيرة حلقة من برنامج “خارج النص”، واستضافت فيها الكاتب نفسه، إضافة إلى ثلة من (الرفاق) الذين شاركوا الشاوي في زنزانته، وشهدوا لحظات تهريب الرواية خارج السجن، إلى أن وصلت إلى آلاف القراء حول العالم.

ثورة الماركسية المغربية.. استعجال القطاف

ارتبط اسم القنيطرة بفترة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر، فقد انطلقت من قاعدتها العسكرية عملية الهجوم التي استهدفت الطائرة الملكية في أغسطس 1972، في ثاني محاولة انقلابية تلت محاولة الصخيرات الفاشلة قبل ذلك بعام.

وخلف أسوار السجن بالمدينة جُمع المعارضون المدنيون من مختلف الأطياف السياسية على خلفية المحاولتين الانقلابيتين، وكانت على رأسهم منظمة “23 مارس” اليسارية المحظورة.

الكاتب عبد القادر الشاوي واحد من أُطُر هذه المنظمة، وقد عاش تفاصيل تلك المرحلة ووثَّق لها من خلال نصّ يقول عنه: هو متن محبوك يحكي تجربة فريدة ارتبطت في تاريخ المغرب الحديث بحركة سياسية ناشئة، أرادت أن تكون من الحلم إلى الحلم جذرية وحاسمة في كل شيء، ولكنها أجهضت بسبب القمع الشرس والنواقص الجذرية، قبل الأوان الثوري المحلوم به.

وعن هذه المرحلة يحكي عبد الله الحرّيف -وهو معتقل سياسي سابق- قائلا: هذه المرحلة شهدت تناقضات كبيرة داخل النظام، خلقت أجواء بأنه يمكن تغيير النظام بسرعة، حتى أنه كان يقال إن الثورة على الأبواب، وربما يكون هذا تقييما غير دقيق من قبل المعارضة، فالثورة تحتاج إلى جهد وتخطيط طويل.

ويضيف أحمد آيت بناصر، وهو أيضا معتقل سياسي سابق: في نهاية السبعينيات انطلق نقاش واسع وسط المعتقلين السياسيين بالسجن المركزي في القنيطرة، وهذا النقاش اتخذ أبعادا ليست متعلقة بالاعتقال السياسي أو بالتجربة الماركسية المغربية فقط، بل اتخذ أبعادا نقدية على الصعيد القومي والعالمي.

أدب السجون.. صناعة فنية تلتحف بالواقعية

في هذه البيئة الجيوسياسية جاءت رواية “كان وأخواتها” كأول عمل أدبي تناول تجربة اليسار المغربي بالنقد والتجريح من داخل صفوفه، وهي أيضا رواية تحكي تفاصيل محاكمة مؤلفها عبد القادر الشاوي، إلى جانب قيادات منظمة “إلى الأمام” الماركسية التي تأثرت في أدبياتها السياسية والأيديولوجية بأفكار ونظريات فلسفية رافضة لكل ما هو مؤسساتي ورسمي.

يقول في الرواية: بدا لي عندما قررت الكتابة أنني ربما أكون واحدا من الشهود المفترضين، على غرار ما شهد به -مع الفارق- كتاب “الأقدام العارية” على التجربة الناصرية، ولعلي كنت يائسا أو ناقما أو محايدا أو ما لست أدريه الآن، عندما عصفت النقاشات الأيديولوجية والسياسية بالجميع، فظهر المنشقون والمنسحبون والمجمدون والمطرودون والحائرون والصامدون والخائنون وأنصاف الخائنين وكاتبو العفو والمشنعون عليهم وتيار العزة النفسية الشامخة، وما لا قبل لمعتقل في تلك التجربة الصامدة الحائرة القلقة على تذكّره بشيء من الحياد والموضوعية أو الجرأة كذلك.

وعن المعوقات التي واجهت الحركة اليسارية يقول علّال الأزهر -وهو معتقل سياسي سابق-: حركة “إلى الأمام” تشكّل فيها -تجاوزا- أئمة الأيديولوجية الدغمائية مع الأسف الشديد، وكانت تحلم بثورة كنا نحلم بها جميعا، ولكن فيما بعد بدا بأنها تكاد تكون مستحيلة، لِتمكّن السلطة من الحيازة على الشرعية الوطنية داخل المجتمع.

كان تحديد موعد محاكمة للمعتقلين السياسيين في يناير 1977 بمثابة انتصار لهؤلاء المعتقلين، وتتويجا لمعركة الإضراب المفتوح عن الطعام التي خاضوها منذ نوفمبر1976، وكانت مطالبهم محددة بالمحاكمة أو إطلاق سراحهم، وبعد 19 يوما من إعلان الإضراب أفرجت السلطات عن أكثر من 100 منهم، وقدمت الباقي للمحاكمة.

حرب الأمعاء الخاوية.. صاحب الحق ينتصر

من النصوص التي أثارت الرفاق على الرواية وكاتبها قوله إنه اعترف بعضويته في المنظمة، ويعلن الآن أنه يستقيل منها ويطلب العفو، وأنه تراجع عن أفكاره، وقال إنه خلال ندوة نوقشت قضية النظام كان خلاف بين المؤتمرين، الشيء الذي جعل النقاش يتأجل، وأنه لم يسبق له أن وافق على سقوط النظام القائم.

وفي هذا يقول عبد الله الحرّيف: هذه الرواية بيَّنت على الخصوص الجوانب السلبية للحركة، ولم تبيّن الجوانب الإيجابية داخل هذه التجربة وهي كثيرة، وعلى رأسها تلك المحاكمة التي كانت بمثابة انتصار. فأن أختلف في الرأي فهذا من حقي، أما أن أمنع من خالفني من التعبير عن رأيه فهذا لا يمكن أن أقبله كديموقراطي.

في رواية “كان وأخواتها” وجّه الشاوي انتقاده لقرار الإضراب عن الطعام، وسمّاه إضراب اليأس، وأنه وسيلة تؤدي إلى الفناء، ولكن كثيرا من رفاقه عارضه في ذلك، فهذا عبد الله الحريف يقول: لم يكن إضراب اليأس، لقد كانت حقوقا مشروعة، وكان تعبيرا عن عزة وكرامة المعتقلين السياسيين.

أما علال الأزهر فقال: كان الإضراب اتجاها مغامرا لا غير، تحول من كونه مطالبة بتحسين أوضاع السجناء إلى موقف سياسي من النظام، أي أن “حركة إلى الأمام” كانت تخوض نضالا سياسيا من داخل السجن.

وبعد أسبوع من صدورها قوبلت الرواية بالمصادرة والمنع من طرف السلطات المغربية، وما كان لهذه الرواية أن تتخطى أسوار السجن لولا وجود أشخاص آمنوا بالوجود الإنساني، ورفعوا قفاز التحدي في وجه المصادرة والمنع، وقد قامت آسيا -وهي امرأة كانت على علاقة بالمعتقلين وتزورهم بين حين وآخر- بتهريب مخطوط الرواية، ودفعت به إلى محمد الوديع صاحب الدار المغربية للنشر.

مقص الرقابة.. رب ضارة نافعة

كان إعلان منع الرواية أكثر فائدة من السماح بها، على أن منعها لم يكن مفاجئا، فقد تطرقت إلى المحاكمة وشروطها والاختطاف والقتل والتعذيب الذي تعرض له المعتقلون في سجن “دار مولاي الشريف” ومعاناة عائلاتهم، وتعرضت كذلك للإضرابات وظروف الاعتقال غير الإنسانية.

تقول ليلى الشافعي زوجة الشاوي السابقة: لو لم تمنع الرواية فمن كان سيقرأها؟ قلة قليلة من القراء السياسيين معدودون على الأصابع، ولكن منعها هو الذي مكّنها من الانتشار، أما عبد القادر فقد كان لديه تخوف كبير، ليس من النظام بل من الرفاق، فكان يقول لي: “لا أدري كيف سيكون وضعي في السجن عندما تصدر هذه الرواية”، لقد تحدث عن بعض الرفاق بتلقائية، ولكن كانت كل كلمة تحسب عليه.

وعن الرواية يقول مؤلفها الشاوي: اخترت طريقة خاصة في الكتابة بين الخوف والجرأة وبين الاحتشام والتعرية، اخترت هذا الـ”ما بين” لأحتفظ لشخصيتي بكرامتها ومكانتها بين الرفاق، ولأحفظ أواصر الصداقة مع الذين حولي، ولكنني مع كل هذه التحفظات لم أنجح في أن أتقي نقدهم وهجومهم. لقد غامرت عندما كتبتها داخل السجن، وغامرت عندما نشرتها من داخل السجن، وغامرت ثالثة عندما عانيت من نشرها وأنا داخل السجن في إطار العلاقات العامة.

وقد كثر نقاد الرواية، فمنهم من قال إن عنوان الرواية فيه تناقض واضح، فـ”كان” توحي بالماضي، أي أنها تجربة وانفضت، وكأن في ذلك تبخيسا للتجربة، ثم فيها شخصنة أو تشخيص لبعض الرفاق الذين كان يُرمز لهم بحروف في الرواية. وآخر يقول: كان يمكنه أن يكون أكثر إنصافا لهذه التجربة. بينما يقول البعض: الرواية بقيت لها قيمتها الأدبية، أما قيمتها السياسية فمحل نقاش.

“يصدق علي كما يصدق على الرفاق”.. ما للرواية وما عليها

يحاول صلاح الوديع -وهو معتقل سياسي وابن صاحب دار النشر التي طبعت الرواية- أن ينصف الرواية بقوله: إن التجربة لم تخرج عن سياقها الإنساني بكل ما فيه من النقص والتناقض وعدم الكمال، فهو لم يقصد أن يسيء عن قصد لرفاقه، كما أنه لم يشأ أن يضفي على التجربة القداسة، وأنا أعرف عبد القادر، فهو يؤثر النقد ولو كان مخطئا، على الإطراء حتى وإن كان صادقا.

ويرد الشاوي: قد أكون عظّمتُ السلبيّ، وقد تكون قراءتي غير موضوعية في نظر الآخرين، ولكنني حاولت جهدي أن أنظر للأمور نظرة فاحصة، وما انتقدته يصدق عليّ كما يصدق على الرفاق، وقد كتبت فصولها في السجن، وكنت أستكتب بعض الرفاق لبعض الفصول (من قبيل توريطهم)، ومن حسن حظي أن الذين استكتبتهم قرأوها وأثنوا عليها، فتشجعت لنشرها.

الشاوي وبعض رفاقة في السجن المركزي

الطبعة الثانية.. من ظلمات الحظر إلى نور المصالحة

في عام 2010 كان قد مرّ عقدان ونيف على إصدار “كان وأخواتها”، وبين التاريخين عرف المغرب طفرات هامة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة، وقد تُوّجت بإنشاء هيئة الإنصاف والمصالحة برئاسة أحد رفاق الكاتب في تجربة الاعتقال، وهو المناضل إدريس بن زكري، وعلى وقع تلك المستجدات سيعيد عبد القادر الشاوي نشر الرواية دون أن يغير فيها حرفا واحدا.

وقد قال الكاتب في تصديرها: لم أبدل حرفا في هذا الكتاب، وقد يقول قارئ عند الفراغ منه، إنه لم يعد يشبه صاحبه، وقد أقول بدوري -إذا ما دريت طراوته وحرارته وقوته المعنوية المندفعة في القول- إنني لم أعد أجد بعد أن غيرتني السنون نفسي فيه، ولكنني أفهم أن كلينا- القارئ والكاتب معا- لا نملك أي حق لمصادرة أي من المكونات الثلاثة: التجربة السياسية، والماضي التاريخي، واللغة الأدبية التي اصطنعتها لسرد الوقائع.

حفريات من جدارات السجن المركزي القنيطرة

من سنوات كتبت على جدار زنزانتي هذه الكلمات.. ذات يوم دخل مدير السجن ليتفقد زنزانتي فأجال بنظره فيها ثم توقف عند الجدار الصمت كنت اكتب فيه حفريات السجون . مكث يقرأ يصوت عال وزبانيته يبحلقون عندما انتهى استدار نحوي وقال لي{{ ولازلت تكتب؟؟}} قلت { { اجل ما دام في صدري ارادة …}} ثم انصرف نقلتها من جدار الزنزانة الى هامش في كتاب صيد الخاطر لابن الجوزي ثم خرجت بين جوانح الكتاب في عز التضييق.. ظل الكتاب يتنقل من يد الى يد الى ان عاد لصاحبه بعد فقدان طويل..

تضيق العتمات من حولنا

ويشتد الحصار الطويل

ومن حولنا بحر عميق

وغرقى كثير

وناس سكارى

وليل العبيد

يبسط القهر علينا ذراعيه

كأنما هو قاعد لنا بالوصيد

يحيك بمكر الخفاء كل الشرور

فكيد وحقد

ومؤامرات الجنون

فيا ليل السجون طل

ومهما تطول

ففي الأفق فجر – علينا- يطل

نرى مبسمه من بعيد

نراه بعين اليقين

مهما امتد بنا سنوات كنود

وليالي كؤود

السجن المركزي القنيطرة 2005

°°°°°°

الوَصِيدُ :بيت كالحظيرة من الحجارة في الجبال للغنم وغيرهاوالسجون اسوء بكثير من الحظائر

القراءة في أدب السجون داخل السجون السياسية الحلقة الأولى -زكرياء بوغرارة

في مرحلة ما من السجن ونحن نتجرع غصص ليالينا المقفرة في سجن القنيطرة وبعد نضالات كثيرة تحقق  لنا نزر يسير من مطالبنا وكان يومها انتصارا هائلا بالنسبة لنا..                          في  السجن كل الانتصارات تافهة ..  لكنها  تكون في حس  المعتقل   هائلة غاية في الضخامة ….

   هي تافهة لأنها    كذلك .. لكن الجلاوزة  بطريقتهم في  صناعة القهر يحولونها الى شيء  هائل  غاية في  الهول…..

وهكذا أصبح من حقنا أن نستفيد مرة كل شهر من المكتبة..

في ذلك الزمن الآسن كانت في السجن المركزي القنيطرة مكتبة كبيرة تضم بين جوانحها مئات الكتب…. لكنها ظلت تعاني من الإهمال فترات طويلة ..

لم يسمحوا لنا بالوصول للمكتبة بحجة  أن أعدادنا كبيرة   لايستوعبها  المكان …

لكن إدراة السجن   حولت كل مكتسب ولو كان لعاعة   الى ورقة للضغط  وقد  احترفت  فن    تقطير   كل مننها  لتكون قطرة فقطرة

  هي وحدها تتحكم في الصنبور …  كلما تلبدت سماء السجون اغلقته باحكام  وعادت بنا للمربع الأول ..   كانما لتلقي في روعنا     ان {هنا عتمة}

    وقتذاك  قررت أن ترسل لنا المشرف عن مكتبة السجن… ليبشرنا بمنة مدير السجن علينا… وقد كان  المدير  مستكبرا  فيه كبر   يكفي  لعشرات السنين

 كبر معجون بصلف وغرور

{أخيرا أصبح بإمكانكم أن تستفيدوا من المكتبة هكذا امر السيد المدير}

 كان القيّم على المكتبة رجلا في عقده السادس لم يتبقى له إلا نزر يسير ليتم حلقته السادسة كان طيبا متفانيا في عمله  وعالمه المكتبة   وكفى كانت مهمته  تتلخص في تنفيذ  تعلمات السيد المدير

  لكنه كان محبا للكتب عاشقا للقراءة..  يؤحلو له ان يصف نفسه بالأديب

 إتفقنا بعد طول جدال  معه ..على أن يأتينا بلائحة الكتب المسموح بها ثم نطلب منها ما نريد على أن يأتي  ببالكتب المنتقاة لاحقا..  

فقد  كان المعتقلون في الملفات الخاصة يومها  قرابة ال{200} معتقل موزعين على  ثلاثة احياء

  حي جيم  ويضم المعتقلين من ذوي المحكوميات ما بين 30  سنة والعشرة سنوات

  حي ألف 1  وكان يضم   المعتقلين من  الاحكام الثقيلة مؤبدات و  قلة  من المحكومين ما بين 30  وعشرة سنوات

  حي الف 2  وكان مخصصا لأصحاب الاحكام النهائية   الإعدام  وكنا نسميه حي الإعدام………

  وكان عليه أن يمر على الأحياء الثلاثة  كلها ويوزع  وقته  بينهم   طوال أيام الأسبوع

فيما بعد  كان يستعين ببعض المعتقلين منا لحمل الكتب… من المكتبة الى عنابرنا السجنية في حي ألف 1   وألف 2  وحي جيم

  ثم بعد ان كثرت زيارات المشرف على المكتبة لنا حدثت بيننا  وبينه ألفة وكان يسعد كثيرا بالضجيج الذي يصاحب مجيئه محملا بكرتونه الكتب….

ذات يوم قال لي بوجه عجنته سنوات السجون

-لم يتبقى لي إلا القليل ثم اتقاعد عن العمل ……

 يسكت للحظات ثم يردف قائلا بطريقة مضحكة

– ثم يعفو علي الله من هذا السجن

بعد أيام من الغياب جاء بلائحة الكتب المسموح بها كنا نختار منها ما نريد ثم يذهب للمكتبة ليعد الكتب المطلوبة ويعود بها لتوزع ويتم تسليم كل كتاب للمعتقل الذي طلب الحصول عليه ثم يقوم القيّم على المكتبة بتسجيل اسماء الكتب و أسماء  المعتقلين الذين إستعاروها مرفوقة برقم الاعتقال

 في السجن يجرد الانسان من إسمه ثم يصبح مجرد رقم اعتقال

الطريف أن كثيرا من تلك الكتب إعتبرت عارية لاتسترد ….

 وهكذا رويدا رويدا خفت الطلب على الكتب وغاب الموظف الذي كان يحلو له ان يجزي الوقت  معنا كلما جاء محملا بكتبه القديمة المتهالكة…   

عن   قصصه وحكاويه  .. فقد  كان ميّالا للثرثرة…

 من  أهم ما أذكره وعلق بمخيالي  من ذلك  الزمن.. المعتم  لحظة وصول الدفعة الأولى من الكتب…  وكانت  المفاجأة بالنسبة لي  عندما  وجدت بين يدي احد المعتقلين  رواية   شرق المتوسط لعبد الرحمان  منيف  …  وكتت قد  قرأتها من سنوات سحيقة في طبعتها  الأولى….

  تفضل هذا المعتقل  بمنحي الرواية لقراءتها  وكان زاهدا فيها…..

  امسكت بها  بيدي وكنت أروم احتضانها بقلبي ….    كان منتهى غايتي     زمنذاك  ان  أقرأ رواية   من ادب السجون  اصل بها ما أنقطع   من هذا الأدب وكنت به شغوفا قبل اعتقالي بسنوات….

  لذت لمنفردتي .. أخلو  بها وحدي   مع رجب  هذه المرة  بطل رواية   شرق المتوسط  والمبدع عبد  الرحمان منيف….

  الأغا…  كان جلاد  رجب ورفاقه  في شرق المتوسط…

  وكان عندنا  جلادون  مهرة في الجلد  والقهر

  جلاوزة مماثلون  لكنهم لم  يكونوا   آغاوات…

 إختلفت  أسماء الجلاوزة…

  لكن المهمة واحدة ….

  كان عندنا  الحجاج  والمكاويون والعلويون ……………………..

أكتشفت مصر   وأنا اتابع   ما تلفظه سجونها من حكايات الرعب ان الأغا ى في الشاام اوالحاج عندنا  أصبح  عوف  في عندهم

كل الجلاوزة   في عتمة  السر  المصرية   باسم عوف …

هزتني مشاعر  كثيرة    وانا أتلقف رواية شرق المتوسط ..

  لذكرى أخرى     قبل اعتقالي تركت على طاولتي  رواية الآن هنا    .. او شرق المتوسط  مرة أخرى

    في الصفحة 111  كانت   بالقرب من  قهوتي السوداء التي لم أخذ معي للعتمة الا حكلتها……..

  يتبع في الحلقة القادمة