أرشيف الوسم : المغرب

عشيرة الزنزانة-حسن برما

وسط الجبال .. أسوار المدينة تسلب عقل الوافد الجديد ، أسطورة محكومة بسلطة المنحدرات الخطيرة والمرتفعات المرعبة ، سكانها أقنعة عابسة ، شوارعها عش عنكبوت متربص ، وفي قلب اللغط الأبدي ، بالدرب المقفل على الأسرار والأحزان ، ينتصب باب السجن البلدي المعلوم .
بإصرار عنيد اهتم بمراقبة زنازن المدينة النائمة فوق براكين ميتة ، انشغل بإنجاز تقارير عن أنات وشكاوى روادها التي لا تتوقف ، تجول في المناطق الآهلة بالعصيان ، وثَّق لحماقات الغضب وتفاصيل الاستسلام ، وفي نهاية السفر ، استغفلته أنثى الأبواب المغلقة ، اصطادته الأسطورة ، وسلبت عينه الباطنية القدرة على التفاعل .
صدفة التقاها على خطى كائنات عبرت طريق الوهم ، انتفى وجوده قرب ظلال عشيرة غرست نبالها المسمومة في قلب الوقت الموبوء ، صارت خطاه دون آثار ولا رأس ولا بصمات ، رافقته أعراف وأدعية مسجوعة غارقة في الظلام ، وعاش الرحيل بالقرب منها في سجن غريب دون سجان .
لم يحتج لوقت طويل ليدرك غرابة مدينة اسمها مدينة الضباب ، أشباه الناس نيام ، يخنقون صرخة الولادة ، وبين الإناث والذكور روابط عجيبة لا تعترف بالحب ، وكما يحدث في مدائن الأشباح ، يختار الكائن المفترض زنزانته المرصودة ويعيش الحياة وسط عشيرة مسحورة بنوايا الأموات .
استحضر كهرباء البدايات الصاعقة ، تذكر جيدا أنها كانت البارعة الفاتنة في استثمار شهقته التاريخية المشهودة لدرجة الحصول على كل أنفاس نبضه دون مقاومة تذكر!!!
رآها في غيمة الغروب المنذورة للأحزان وغصات الرحيل ، راوغ حماقات الإعصار وسعار الريح المجنونة بالمحو وتدمير أعشاش اليمام الشارد .. وفي عمق الخواء ، تنفيذا لمشيئة الظلمة وإرادة الفناء ، التزم الصمت ولم يوقظ المواجع .
وتلك السجينة تحت الخيمة الحديدية أعطت للسجن سراب السؤال وخواء المصير .. أخيرا أخذت الحكاية منحى الفناء ، وصمت القطيعة حياد طاعن في المرارة ، الكل حاضر في الغياب ، وحدها خلف الستار تدمن نشيد اليمامة المذعورة من أسطورة عمرت طويلا فوق كهف المخالب الجارحة .
طال الغياب شقيق الموت ، فتحت الزنزانة فاها لاستقبال متاهات اليومي العابر ، امتلأت الكأس بما جعل الدمعة تنساب للأسفل ببطء ، للعشيرة غريزة الوأد الموروثة ، وللفاتنة شرط الإدانة .
لومقدمات الانزياح فخاخ افتراس سرية ، لم تعد صورتها بالأبيض والأسود تحرك الدم في شرايين الحكاية المؤلمة ، رأس مدلاة بإهمال ، أطراف مشلولة ، نواح متقطع يصاحب رحلة الألف جرح ، أخيرا نجح المراقب الشقي في رصد الوهم بالزنزانة المشاع ، وراوي الهزيمة خلف صدأ القضبان أقسم ألا يضيف شهقة حياة .
داهمته نوبة يأس غريبة ، اقتنع بلا جدوى انتظار الخلاص من سطوة الأَسْرِ الأسطورية ، والفاتنة مقيدة بما يراه وبما لا يراه ، وفي الأفق القريب مأساة نواح وضحايا خراب يحجب رعبه خلف يافطات تحتفي بأدعية مسجوعة ووعود جائعة مشاع .
قال : لن أقرع باب حكايتك حتى أقرأ حروف حلوى العيد .
قالت : في مدينتي طباخ الوقت معلول .
قال : أكره الجوع قرب حائط المستحيل وعسس الأبراج المتآكلة .
في قالت : لا حلوى الزنزانة ولحروف الطاعة واجب الإدانة .
قال : سَقْط الحكاية حماقة وغصة .
قالت : للأسف ، للخرافة السوداء ما أعطت وما أخذَتْ .
اختفت ملامح الوفاء للغد ، جرفها سيل الطاعة وخيانة ما ينبغي أن يكون ، وبعض الناي يبكي .. بعضه حنين يفرح الخاطر ، يسافر به في متاهات الرحيل ، والكائن المصاب بلعنة التلاشي يجهل خدر الحلم الواجب ، يعيش الضياع دون قدرة على الصراخ ، والسجينة المرصودة بين جبال الغصة الخالدة تمتهن البكاء الأبدي على نبض مات قرب أزهار الحصار .
تساءل في صمت ، أي لعنة أصابت مدينة الضباب ؟ الدروب مغلقة على جنائز لا تتوقف ، أزهار العراء ساجدة تقدم واجب الطاعة لأصنام مشاع ، وخلف صدأ الباب الكبير ، صعودا مع مرتفعات الدوخة المتاحة لمدمني العصيان المتوقع ، هبوطا مع منحدرات عاشقات الهروب المحتوم ، جدران الزنازن المتآكلة بأبوابها المفتوحة ، قصائد جريحة ، أناشيد موغلة في اليأس والغموض ، تعاليم وأعراف لأشباح مازالت تحتل كوابيس الشهقة وأحلام الحاضر، أوامر وتنبيهات ، والحب ممنوع على من اختار وصايا الموت .
عكس العشائر الضالة في صحارى التيه المرصود ، على شفا حلبات مهجورة ، للقاء دموع ، للوداع زغاريد ، وللقبلة المسروقة عقاب الخطيئة الكبرى ، وفوق رمل الذاكرة ، يترك الأحد الكئيب آثاره سريعة الزوال ، يرحل على مضض ، ولا يلتفت لحيرة الظلال الجاهلة بتفاصيل الحياة .
وقبل الندم ، استغرب بقاءه الغامض في مدينة الضباب ، عشيرة تحكمها دساتير الموت وتدعي الحياة ، لكل فكرة ألف قناع ، ولكل امرأة لون وهوية ، للعازبة حمرة الدم المغدور ، للمتزوجة سواد الكهف المحروس ، للأرامل بياض الكفن والعدم ، ولأمثالي في الغربة والاحتراق رقابة وحش لا ينام .

قيل له وهو يجوب الشوارع الضيقة ، هنا سجون بلا حراس وزنازن بلا أبواب ونظام صارم وصدى أشباح من زمن عتيق . ولا جديد في مدينة الضباب ، كل الكلام قد قيل ، وعادة الببغاوات الاسترسال في ذبح الكلمات دون إحساس ، وصمت الخلوة أصدق أنباءً من لغو الألسنة المقطوعة.
عجبا ، لم يصر كعادته على إتمام الطريق المليئة بالحفر وفخاخ الموت البطئ ، اختار الهروب والحفاظ على جلده عساه يعثر على عشه الدافئ ، أوكار الطائفة الدائخة موبوءة ترقص فيها شياطين اللعنة المرصودة والفناء المحتوم ، وهو المتعب الفاقد للمعنى ، يرمى سلاح المقاومة العبثي ، ينحاز لحكمة الصمت ، يتيه في طريق ترابية لا تحكمها أعراف ، يحنط الميت ، يركب طواحين الأسطورة ، يمضي في طريق الخواء بغباء ويشتهي الارتواء من سراب المستحيل.
حاول الخروج من ورطة المدينة العجيبة ، فكر في سحرها الذي يسلب القدرة على اتخاذ القرارات ، تخيل قسوة المكوث الإرادي في سجونها المبثوثة هنا وهناك ، قرر العودة من حيث جاء ، تجمدت قدماه عند بابها الكبير ، وفشل في الهروب من جاذبية زنازنها المسكونة بداء الحب ورقابة شيوخ تخاف خشونة الأغراب .
وعلى حواشي المدينة دروب عاهرة ، متاهات عبور مخيف ، التواءات قاتلة تقود لقبور دون شواهد ، كهوف محفورة بفؤوس تصلح للدفن وأشياء أخرى ، وتحت الظلمة أسراب من لِحَى العميان وأنفاس جواري تترصد كل كبيرة
و صغيرة لعرضها على شيخ ينادي بالعدم .
نصحوه بالاحتياط من الظلمة وحقارة الصراصير الدخيلة .. قيل له إنها تعشق مَحْو سواد الحروف المتمردة ، هرب بحرفه الجريح وارتاح .
و فاتنة الجرح تستقر بين جبلين خاشعين ، تستسلم لخدر رعشة غجرية لا تنام ، ترتضي حدائق الخواء القاسي تحت غيمات خريف جريحة وفي الأفق المحتوم عذاب حيرة وبراكين عشق واشتهاء أحمق .

أدب السجون المغربي 1-2

إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر الاكتظاظ كذلك فضاء يجمع بين الفوضى والنظام، بين التدمير والتأهيل، بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب،انه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام…
مر أدب السجون المغربي الحديث بعدة مراحل. مراحل تحكم فيها الشرطين التاريخين: الدولي والوطني في آن معا. إذ أن مرحلة ?سبعة أبواب” لعبد الكريم غلاب(1965) مثلا ليست هي مرحلة “مجنون الأمل” لعبد اللطيف اللعبي(1983).وهذان اللحظتان ليستا هما لحظة ?المغرب من الأسود إلى الرمادي” لأبراهام السرفاتي في نهاية التسعينات وقس على ذلك كتابات العشرية الأولى من الألفية الثالثة.. فإن تميزت المرحلة الأولى بالبعد الحماسي الشاسع بسعة أحلام الاستقلال و التخلص من جرح الاستعمار الفرنسي، فإن المرحلة الثانية اتصفت بنفحة مأسوية جارحة ..علما أن عقد الثمانينات من القرن العشرين وما بعده تميز بظهور وفرة من العناوين في “أدب السجون(كان وأخواتها، مجنون الأمل…)”.ظاهرة يمكن إرجاعها لعدة اعتبارات منها: بداية الانفراج الدولي وضغط الرأي العام العالمي على المغرب بهدف تسوية قضية الاعتقال السياسي ..فضلا عن انتعاش جمعيات المجتمع المدني والحركة الحقوقية خاصة التي ضغطت بدورها في ذات الاتجاه ..إضافة إلى الرأي العام المغربي الذي كان متعطشا لمعرفة جزء من تاريخه الجريح والأسود والاطلاع على حجم تجاوزات السلطة.. دون نسيان تراكم تجربة الاعتقال نفسها على خلفية طول المدة والمعاناة التي منحت المعتقل أرضية خصبة ليحكي عن التجربة في شموليتها. في هذا السياق العام ستظهر نصوص اشتبك فيها السجن بالكتابة تأطرت تحت تسميات مختلفة منها:”أدب السجون”، المتخيل السجني، المحكي السجني، الكتابة السجنية، أدب الاعتقال السياسي…وما شابه ذلك. كتابات يصعب وضعها مجتمعة بجرة قلم تحت خانة” أدب السجون” مادامت أدبية الأدب تتحقق باشتراطاته عدة لم تتوفر في الكثير من الكتابات السجنية موضوع المقاربة.. كتابات تلتقي في حدها الأدنى عند جعل السجن محفزا للكتابة ..والسجن هنا بطل مضاد يصطف إلى جانب السجان. فالسجن له منطق خاص وخصوصيته نابعة من كونه يروم محو بشرية الإنسان من خلال توحيد اللباس وتجريد المعتقل من لباسه المدني فضلا عن استبدال الاسم برقم يعصف بالفرد في قاع من الغربة، إضافة إلى تعطيل كافة الحواس والرغبات كتحريم الكلام في أوقات معينة والخروج وخلوة الحب مع الزوجة بل والتجويع.. ترسانة من الأدوات اشتغلت في أفق تحطيم معنويات المعتقل السياسي. علما بأن الحرمان من الحرية يجب أن يشكل عقوبة لوحده وليس ظروف السجن المزرية.. فباستثناء هذا الحرمان يجب ضمان باقي حقوق الإنسان للسجناء قصد إعطاء المؤسسة السجنية صفة التأهيل لا مدرسة الإجرام. والجدير بالذكر هنا أن بعض الدول الديمقراطية اهتدت منذ مدة للعقوبات البديلة.. غير أن السجن في هذه الكتابة لا يقدم بكونه مجرد فضاء محايد، فهو مكون فاعل في تطور الوقائع والأحداث وكينونة المعتقل بل ومخيال المتلقي نفسه. إنه فضاء يحيل على جانب كبير من التعقيد الدرامي. يمكن هنا استحضار سلطة فضاء السجن الذي وصلت إلى حد تذكير المؤنث وهو ما اعتبرناه قتلا رمزيا للمعتقلة حيث أطلق اسم “رشيد” مثلا على فاطنة البيه في عملها “حديث العتمة”(1).وعلى خلاف فاطنة البيه هناك تجارب نساء كتبن عن التجربة من خارج السجن وان كن بشكل من الأشكال معتقلات خارج أسوار السجن باعتبارهن زوجات المعتقلين. أستحضر هنا: كتابات كرستين دور زوجة أبراهام السرفاتي وحليمة زين العابدين، وزهرة رميج وأخريات. إضافة إلى مبدعات تأثرن بفعل التعذيب والعنف وإذلال المعتقلين فوقعن روايات تمت بصلة للكتابة السجنية ..استحضر هنا رواية خديجة مروازي(2).وبالمناسبة نود هنا التوقف للتشديد على أن الكتابة السجنية ليست حكرا على المعتقل أو ذويه بقدر ما هي رأسمال رمزي لكل المغاربة حيث يمكنهم الإطلالة من شرفتها على تقرحات الوطن وأوجاعه.. قد نختلف عن زمن الكتابة السجنية و طرق عرضها والغاية من تسويقها، لكن الكتابة عن تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب من حيث المبدأ هي ملك للجميع.. وتوقيت بعض كتابات الطاهر بنجلون(3) تدخل في هذا السياق السجالي حيث هناك من اعتبره ركب الموجة وكتب عن التجربة من خارجها. بل هناك من آخده على عدم استثمار لنفوذه ككاتب ذائع الصيت بفرنسا في الحديث عن التجربة قبل لحظة الانفراج.. لكن يلزمنا-مع ذلك- التذكير أنه توفق في استلهام روح التجربة وكتب عنها بحس الكاتب لا بوعي المؤرخ أو الشاهد على العصر. صدق فني تضافر مع تجربة اعتقال مريرة لعزيز ينبين فأنتجتا لنا عمل “تلك العتمة المبهرة” الذي منح الطاهر بن جلون جائزة “إمباك الأدبية” بدبلن سنة2001..
إن إحدى محن السجن فضلا عن سلبه الحرية، العزلة( السجن الانفرادي).ومادام السجن فضاء المتناقضات بامتياز فهو تارة منتج لعزلة المعتقل و تارة مصدر الاكتظاظ كذلك فضاء يجمع بين الفوضى والنظام، بين التدمير والتأهيل بين الضحية والجلاد كما يمكنه الإسعاف على اكتشاف الذات من جديد وفقدانها إلى الأبد. الانهيار واكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب، انه عالم الأضداد بامتياز. ولعلها مفارقة وجودية كون أصغر الفضاءات(الزنازين)هي التي أنتجت أرحب التخيلات و والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام..
إن الكتابة السجنية بالنتيجة تشمل الكتابة في السجين وعن السجن وفي الحالتين معا لا تخرج كتابة هذا الفضاء البغيض عن أفقين سرديين لا ثالث لهما: فحضوره وانكتابه إما يؤدي لخلاصة ملحمية حيث المقاومة والصمود. أو مآل مأساوي كالانتهاء إلى الجنون والموت أو الانتحار، علما بأن الكتابة في السجن اتصفت بعدم تهيئ بعض المعتقلين السياسيين للكتابة عن التجربة.. هنا لا نتحدث عن الخبرة السردية للمعتقل ولكن عن الوعي العام بوظيفة الكتابة وشروط تحققها .فالمسافة الفاصلة بين الكلمات والأحداث تقتضي معاشرة طويلة للغة كي تصير مطواعة في نقل ما يعتمل بالأحشاء. وعموما المعتقل السياسي تعود على ممارسة السياسة التي تقتضي إجماعا عاما بخلاف الكتابة كفعل فردي تحتفي في الغالب بالذات وان اختلف حجم تمجيدها من كاتب لآخر.. فإذا كانت الكتابة فاشلة في نقل التجربة فالفشل مرده للذات الكاتبة لا للغة، إذ ليس هناك لغة رديئة بقدر ما هناك مستعمل رديء للغة. في هذا الأفق يمكن تسجيل معطى مفاده أن وفرة من نصوص ” أدب السجون” انتصرت للبعد التحريضي للكتابة وطرحت بعدها الجمالي جانيا إلا فيما ندر.. وفشل الكتابة عموما يعود لرهانها على البعد الواحد. إذ كلما نوعت الكتابة من أهدافها كلما توفقت في الإقناع وبالتالي الخلود في ذاكرة الأدب والتاريخ. فالكاتب الوثائقي غير الكاتب المبدع ..صحيح جدا أن الكتابة في أحد أبعادها تتغيى التعبئة وهو حق مشروع.. لكن أدبية الأدب تتحقق بطرق عرض المادة ولغة التقديم وأسلوب التشخيص والتصوير ودقة الرصد وما شابه ذلك. إن “أدب السجون” بسبب انبناء جزء كبير منه على وقائع تاريخية صرفة يطرح علينا أسئلة محرقة من قبيل: هل توفق كتابه في صياغة ذاكرة مضادة لما هو رسمي؟ بمعنى هل نجحت محكيات السجن في تعميم الوعي بجراح المرحلة وإسقاط صفة “الطابو” عن أدب السجون؟ وكيف لكتابة تمجد الألم أن تكون ممتعة؟ وما حجم تطابق ما كتب مع الحقيقة؟ وكيف حضر الجنس والدين وكيف غابا؟ وكيف تمثلت المرأة هذه التجربة من داخل وخارج السجن؟ وما هي السجون المعنوية التي بقيت تلاحق المعتقل بعد خروجه من السجن؟ وهل حققت الكتابة عن التجربة أهدافها ونقصد بذلك الانتصار الرمزي للمعتقل إذ يكفي أنه توفق في هزم الموت داخل المعتقل(تزمامارت خصوصا) وكتب عن التجربة بقصد توضيح بشاعة السجان فهذا يمنحه صفة المنتصر ..إن تعدد هذه الأسئلة بقدر ما يحيل على ثراء المتخيل السجني يؤشر على تلك النزعة الشكية المتبقية في أعماق المعتقل وهو يكتب جرح الأسر. ترى هل حقا توفق في نقل التجربة أم لا؟.. يقول عبد اللطيف اللعبي في “مجنون الأمل” ص149:”عندما أعدت قراءة ما كتبت، دفعة واحدة شعرت بالحرج. فقد أصبح هذا السرد نفسه لغزا في عينيك. كيف كانت بداية كل هذا؟ كيف تم اختيار هذه الحالات وهذه الظروف، ورقيت، اعتباطا إلى دور عناصر بارزة كفيلة بأن تؤدي معاني أكثر من غيرها؟ أي المقاييس اعتبرت لحسم مسألة الأساسي والثانوي والموضوعي والذاتي؟(…)هل حقا استطعت أن أتجاوز مفارقة الأعمى-الرسام ،والعازف-الأصم ،والراقصة المشلولة؟ عماذا دافعت وماذا حاربت؟ أي صمت نجحت في قهره بتفجير فيضك الكلامي في جميع الاتجاهات؟ أي صورة قدمت عن نفسك؟ سذاجة ،صحو؟ عصبية، واقعية؟”(4)
في هذا الإطار سنحاول مقارب نماذج مختارة من أدب السجون المغربي بصنفين: محكي سجني مدني و محكي سجني عسكري.
1- نماذج من أدب السجون لأقصى اليسار المغربي.
كان اليسار الراديكالي المغربي سباقا لنشر محكياته السجنية من خارج وداخل المعتقل لاعتبارات موضوعية وذاتية. أما الأسباب الموضوعية فتمثلت في أن تاريخ سراح بعض رموزه اليسار كان في بحر عقد ثمانينات القرن الماضي(عبد اللطيف اللعب، عبد القادر الشاوي..نموذجين) بخلاف المعتقلين السياسيين العسكريين الذين مكثوا بمعتقل تزممارت إلى مطلع التسعينات(1991)..إضافة إلى كون ظروف اعتقال أفراد أقصى اليسار المغربي كانت “تسمح” بالكتابة بخلاف معتقلي تزممارت التي كانت ظروف العيش الآدمي منعدمة بالمطلق لديهم وبالأحرى التفكير في الكتابة إذ يكفي معرفة أن أكثر من نصف عددهم(32 على 58) لقي حتفه بالمعتقل بسبب الجوع والبرد والمرض وما شابه ذلك. أما الاعتبار الذاتي فتمثل في أن أغلب رموز اليسار الجذري كانوا متمرسين بالكتابة بمعناها الواسع.. فمنهم الشاعر والباحث والأستاذ وما إلى ذلك، بخلاف المعتقلين السياسيين العسكريين الذين استعان البعض منهم بمحترفي الكتابة أو الصحافيين على كتابة جروحهم السجنية وتجربة المفضل المغوتي(5) نموذجا على ما نروم
.
أ-“مجنون الأمل”(6) وشعرنة الاعتقال:
بداية لابد من تسجيل معطى مفاده أن “مجنون الأمل” عمل مترجم من الفرنسية إلى العربية. ونحن نعلم أن جزءا كبيرا من جيل الستينات بالمغرب لم يجد أمامهم سوى اللغة الفرنسية للتعبير عن ذاته بها وهذه إحدى نتائج الاستعمار الفرنسي الذي قضى بالمغرب حوالي نصف قرن إلى حدود سنة 1956 .والترجمة هنا تعني أن العمل فقد الكثير من توهجه لاسيما إذا علمنا دخول طرف ثان على خط الترجمة وهو الأستاذ علي تزلكاد رفقة المؤلف نفسه. ومع ذلك فالصفة الأدبية للمؤلف(شاعر) لعبت دورا حاسما في تنويع خطابات العمل حيث جعل منه حوضا تخييليا ولسانيا استضاف سجلات لغوية متنوعة وأجناسا أدبية مختلفة كالسيرة الذاتية والقصيدة والشهادة وما شابه ذلك ..أمر جعل العمل أشبه بجامع النص بتوصيف جيرار جنيت. فالشاعر عبد اللطيف اللعبي وهو يكتب محكياته كان مدركا تماما أن التخييل مستوى لعبي في الكتابة بخلاف الشهادة ككتابة مرجعية ولذلك وهو يكتب كان يحاول الإجابة عمليا على السؤال الإشكالي التالي: “ما هو الشيء الروائي في تجربة الاعتقال؟ والإجابة عن هذا الإشكال تمر بالضرورة من خلال الاطلاع على التجارب العالمية للاهتداء إلى أن روائية العمل تتأسس على الأحداث والوقائع المركبة التي تنمو وتكبر وتتعقد بموازاة صوت الجماعة خلافا للقصيدة التي تقتصر في الغالب على صوت الذات.. ولهذه الغاية كان الكاتب يمسرح ذاته ويجعلها ذاتا مضاعفة وذلك بإسنادها ضمير المخاطب.. مع استدعائه المتواتر للمرأة إما من خلال الرسائل أو عبر فعل التذكر إذ أن حضورها كفيل بشحن الخطاب السردي بطاقة شعرية ..والمرأة عند عبد اللطيف اللعبي متعددة الأوجه إن لم نقل أنها الحياة بشتى تجلياتها وذات أخرى تسعف على إعادة اكتشاف الذات. علما بأتها حضرت في أحيان أخرى كوسيط لتقديم نقد ذاتي للرؤية الذكورية المعطوبة كما في النموذج التالي ص55:”محكوم عليكن من قبل محكمة الذكور-ممتصي الدماء، وتجارة الجنس الضاربة في أقدم العصور. ها أنتن تطلعن من غمرة المجهول والسياط ومؤامرات ليلات القدر. سلطة القوة الوحشية. الإبادة الانتقامية. الإرهاب المنصب شريعة بشرية.” ..غير أن اللافت للانتباه في هذه التجربة هو اشتغال الكاتب المطرد على شعرية المفارقة حيث جمع في الكثير من ممراته الحكائية بين المتنائي وقرب المتباعد كجمعه بين الضعف الإنساني والقوة ،بين الألفة والوحدة، بين الماضي والحاضر وان كان ينتصر للمستقبل والأمل وهو أمر واضح منذ عنوان العمل “مجنون الأمل” يقول في ص44:”هنا والآن، تشغلني أمور أخرى أكثر من مجرد الشهادة، أفكر في كل شهداء التاريخ، الماضي منه والآتي. أقصد البطولة والفجيعة المجهولتين، أينما كان الرهان هو الدفاع عن الأمل، كيفما كانت درجة واقعيته أو طوباويته هذا الدفاع.”.. وتتضح شعرية المفارقة أكثر لحظة انخراط المعتقلين في نوبات ومسلسلات ضحك مثيرة للاستغراب. صحيح أن الضحك شيء بدائي وجد منذ كان الإنسان.. لكنه في هذا السياق عد آلية دفاعية به يتم تقليل الضغط وحدة الألم كما يزيل التوتر ويمنح القدرة على الاسترخاء وان كانت مجتمعنا المغربي يخاف من الضحك لأنه تربى على أن الحزن هو القاعدة والفرح استثناء. وعلى حد المقولة المغربية الشائعة”الله “يدوز/يمرر” هذا الضحك على خير”.. غير انه هناك من اعتبر الضحك مضادا حيويا ضد الشيخوخة وفعلا يديم الشباب.. لنتأمل هذه القرينة النصية ص61:”لماذا يضحك السجناء أكثر من غيرهم ؟ضحك صادق، عميق،تام. قهقهة ملء الأشداق. وكل أنواع الضحك. الضحك أسلوب من أساليب تلك الوقاية المفرطة التي تجعل البعض يغتسلون مرتين أو ثلاثا في اليوم. كما لو أن الماء أو الضحك مطهرات صالحة لتضميد الجراح التي تغطي جسد السجين. كما لو أن هذا الخير يعبر بذلك عن شعوره الحاد بالتفاهة التي تسير العالم، والبهلوانية التي يتخذ منها النظام قناعا له.”
وبالعودة إلى مفتتح هذا المحكي السجني صادفنا قصيدة شعرية وهي تعطي فكرة جزئية عن هوية العمل ككل، حيث قال في مستهل عمله هذا:
“هل ينتفي المنفى
وعلى الأيدي حروف الانتظار
الفرحة أوردة مفتوحة
والطواف الذي لا يكف امتداده
إلى أقصى ردهات الحلم”
قصيدة متبوعة برصد دقيق للحظة الخروج وهو سراح منقوص على كل حال بسبب جراح الأعماق التي خلفتها سنوات الاعتقال دون ذكر ملابسات لحظة الخروج نفسها حيث وهو يجمع أغراضه ولباسه المدني قصد معانقة الحياة والحرية كان عليه أن يمر في طريقه إلى باب السجن الكبير بحي المحكومين بالإعدام وحي العزلة. .حيثيات كثيرة جعلت لحظة السراح معجونة بطعم البقاء داخل السجن. يقول في ص21″هذه الحياة التي أترك خلفي والتي سيكون مستحيلا علي الانفصال عنها. بعد كل هذه السنوات ،أن يصبح المرء حرا من جديد ،هذه الحرية المبتذلة، التي نعرف كم هي مهددة وجزئية، و…ولكنها حرية عادية رغم كل شيء، تلك التي نقتسمها ببساطة وسط التعسف، والبؤس اليومي، والخطابات المشوهة، ومنظر العجز وقمع كل قوة حية كلما شكلت أدنى تهديد”.
إن عبد اللطيف اللعبي بجمعه التخييلي بالتاريخي والسيرذاتي بالروائي إلى جانب النفحة الشعرية يكون قد خلص محكياته السجنية من عري الشهادة ..إذ أن مجمل الفصول استثمرت حوارات داخلية منوعة من مرئيات الذات المتلفظة التي زاوجت بين مشاهد من خارج السجن وداخله وكأني بعبد اللطيف اللعبي وعى مبكرا أن المحكي السجني تلزمه رئة إضافية ليضمن مواصلة المتلقي قراءة منجزه إضافية لقدرته هو على إتمام سرد تقرحاته.. علما بأن المتوقع هو حكي اللعبي تجربته السجنية على خلفية نظرية الانعكاس وهو المنتسب لأقصى اليسار الذي تبنى مبكرا القراءة الماركسية للأدب، لكن العكس هو ما وقع إذ أن الكاتب ظل وفيا لهويته الإبداعية كشاعر فتوفق في تكسير خطية الأحداث ونوع من سجلات الخطاب واعتمد على وفرة من الأجناس الأدبية المجاورة كالرسائل والقصائد واليوميات كما سيمر معنا في هذه القرائن النصية حيث توسل أحلام اليقظة للفرار من جحيم العزلة ونار الصمت والاعتقال..ممنيا النفس بالطيران بحرية مطلقة.. ولتطعيم جفاء محكياته السجنية استدعى أحد رموز الأسطورة الإغريقية “ايكار” في الممر السردي التالي.ص30:”كم من مرة حلمت بهذا السفر، أحلام حقيقية. بدون سيارة و لا طائرة. ذلك في فترة لم يكن للبشر إلا قوة خيالهم، حيث حاجتهم لاكتشاف أسرار العالم كانت تودي بحياتهم.. كنت في جسد “ايكار” وقد تحقق حلمه. أجنحتك غير المعدنية تسعفك في مغادرة قلعة المنفى. تهرب هكذا من النافدة لزنزانتك.”
نخلص من قراءة هذه التجربة إلى أنها حشدت وفرة من السجلات اللغوية و الجنيسات الأدبية مضفية نكهة روائية على “شهادة” المعتقل حيث حضرت النوادر(ص82)والأناشيد الثورية(ص94)ورسائل الحب(ص69/71) وقصص الأطفال، حكاية الفتاة التي تحولت إلى شمس وان كانت بطلة الحكاية تتماهى تماما مع شخصية سعيدة المنبهي التي توفت بالمعتقل على خلفية إضرابها عن الطعام احتجاجا على التعنيف وسوء المعاملة(ص100/ص106)فضلا عن تشخيصه للمحاكمات بنفس ساخر(ص116)مع عودته للطفولة في الفصل ما قبل الأخيرة(ص128 وما بعدها) .وعموما عملت هذه الوسائط التبالغية على تكسير خطية “الشهادة” وتجنبتها نغمة التباكي على ما حدث وتجاوز مرثيات أدب السجون المستهلكة.إذ بالعودة إلى (ص67)نجد تصور الكاتب للكتابة السجنية حيث قال: “رفضت دائما أن تكون موظف الكتابة، أن تعزم على هلوساتك وحدها، لأنك لم تفكر أبدا في أن تسجن نفسك في مخدع الاعتراف لتعيد تركيب مشاهد خيالات ظل جحيمك. أن تكتب، حتى عندما كنت تحس أن صوتك يرتفع فوق كل الأصوات الأخرى، كان بمثابة سلخ أمام الملأ، امتحان بالنار. كنت تعيشه، تمارسه مع الآخرين. كان دم وعرق اشتياق المجهولين هو البخور الذي ينبعث دخانه من دماغك المتمرد ويتيح ل”شيطان الشعر” أن يستنطق صوتك.”
ب-»كان وأخواتها»(7)الذاكرة الموجوعة ورهان تنويع سجلات اللغة .
افتتحت محكيات «كان وأخواتها» بزمن الطفولة والصبا الذي اقترن في ذاكرة الكاتب بالاستعمار الاسباني.. ولهذا جاءت مروياته ملتاعة ومرة تماما خلافا لأزمنة الطفولة المنعشة للذاكرة والوجدان في باقي المحكيات السجنية الأخرى.. ومع ذلك عمل الكاتب على اعتصار ذاكرته بنية بعثرة قبضة السجن واستعادة حريته ولو رمزيا.. ربما لوعيه أن كل فرد بدون ذاكرة يعتبر من الوجهة النفسية إنسانا مخصيا رمزيا، غير أن التذكر الملتاع سرعان ما انسحب ليفسح المجال أمام فاجعة الاعتقال والظروف المصاحبة لها، بدءا بالاختطاف مرورا بالتعذيب فالاستنطاق وما شابه ذلك بدرب مولاي الشريف لمدة فاقت سبعة أشهر.. وكان حدث الاعتقال فرصة مواتية للكاتب كي يستدعي وفرة من السجلات اللغوية ومنها لغة الإعلام الرسمي الموسومة بنبرتها الإنشائية والمعجم الجاهز.. وذلك باستحضاره لتعليقات الإذاعة على هوية وأهداف التنظيم السري موضوع المتابعة.. وعلى خلاف هذا السجل اللغوي جاء الفصل الثاني مشبعا بالبوح والتصريح والاعتراف بحالة عشق جارفة تلبست وجدان المعتقل، حيث يمكننا اعتبار الفصل الثاني دون مبالغة قصيدة غزلية في حق رفيقته الحميمة والتي أضحت وطنا بديلا عن الوطن. ولتبين هذه الأجواء نقترح النموذجين التاليين. يقول الكاتب ص 70:»كيف لي أن أنسى بعد اليوم أني وشمت صدري بنبضك، وأشهد أني زرعت فيك ولادتي كما زرعت في ميلادي، وكيف أنسى أن لي بعد اليوم موطنا عريقا فيك يأوي الممنوع والمرغوب والمشتهى «، ثم يضيف قائلا بالصفحة 82:»..ولو كان لي أن أقول بعض الكلام الصامت لقلت بدون تردد: أريدك. إلا أن الكلام تتزاحم فيه الاعتراضات. وبهذا أعترف لك بعجزي وشهوتي وتناقضاتي ومكبوتاتي وحدودي وفواجعي…»
في الفصل الثالث غير الكاتب من لغته السردية بشكل كلي جراء اعتماده تقارير المحكمة ومحاضر الضابطة القضائية معتمدا لغة القانون الدقيقة. وكانت الفرصة مواتية لرصد تجاذبات القضاة وهيأة الدفاع على خلفية المحاكمات المراطونية دون أن ننسى توظيفه للغة البيانات والنداءات المتداولة داخل السجن ومنها بيان الجمعية المغربية لحقوق الإنسان حول الخروقات الممارسة في حق المعتقلين(سوء التغذية، ندرة الدواء وما شابه ذلك).
وتجدر الإشارة في هذا السياق الى أن الكاتب أسقط عنوة الفصل الرابع، حيث مر مباشر للفصل الخامس وكأني به استعجل إخبار القراء بصدور الحكم بإدانة جميع المتهمين بدون استثناء ..فكانت الفرصة مواتية مرة ثانية لعودته إلى بلدة الصبا وقرية مسقط الرأس عله يقلل من صدمة الحكم مستدعيا بعض النتف الشعرية والرسائل التي ذيل بها محكياته، حيث صادفنا بعضا من رسائل رفقاء محنة الاعتقال ورسائل زوجته آنذاك (ليلى الشافعي)الموقعة بتاريخ1984.رسائل ناقشت القيمة الفنية لمحكيات المعتقل فضلا عن قيمتها العملية. تقول ليلى الشافعي في إحدى الرسائل ص178:»ما عساي أقول فيك وفي «كان وأخواتها» يا شين؟ هي صرخة أم طلقة أو زغرودة عاشق في ليل طويل؟ أهي رواية أم سيرة ذاتية أم قصيدة؟ شيء واحد أعرفه جيدا، هو أنها مقطرة من جراحك الغائرة،ولأنها كذلك، فقد احتوت كل الأجناس وأعتق المشاعر»(…)»ف “كان وأخواتها” شهادة من جيل سقط بين دفتي الرحى، وكان عليه أن يطحن وحده، ويخوض في المعاناة بمفرده ويصارع الجبروت أعزل إلا من إيمانه.»
إن محكيات «كان وأخواتها» وهي تمسرح سيرة صاحبها كانت ضمنيا تشخص أعطاب مرحلة بكاملها من تاريخ المغرب الحديث وتكشف مكبوتها الجمعي.. والمكبوت هنا ليس بالضرورة جنسي بقدر ما هو سياسي واجتماعي وثقافي. أي كل تلك المبعدات التي بقيت عالقة باللاوعي الجمعي رغم تغييبها ومنها المؤسسة السجنية وما تختزله من رمزية مؤسسة… وان كانت تبنى بعيدا عن الأنظار وتزرع في ضواحي المدن لإبعادها عن وعي ولا وعي المواطن، فإن الكتابة تتوفق أحيانا في قول المسكوت عنها وجعلها شاخصة للعيان ..
ت- جرح الاعتقال بصيغة المؤنث
افتتحت فاطنة البيه محكيها السجني «حديث العتمة»(8)بفعل الاختطاف الذي أرجعها لسبي النساء في «ألف ليلة وليلة» و كأني بالتاريخ العربي ظل جامدا ومغمسا تماما في الوحشية و إهانة كرامة الإنسان.. ولعل ما زاد من تعميق شعورها بالمنفى هو محو هويتها الجنسية داخل المعتقل .تقول في ص15:»أنت من الآن اسمك»رشيد»…ما تحركي ما تتكلمي إلا إذا سمعت «رشيد» كانت هذه هي بداية محو الهوية. الاختطاف والاعتقال التعسفي، ثم محو الأنوثة بالتعامل معي كرجل.» وضع جعل المعتقلة تتحين الفرصة للإفصاح عن هويتها الجنسية الحقيقية وتستعيدها بفرحة طفل فقد أمه ولقيها بعد طول غياب. تقول في ص26:»فوجئ قاضي التحقيق حين سألني عن اسمي فأجبته بالقسم مؤكدة أنني انأ فاطنة لبيه. لا أعتقد انه يستطيع فهم فرحتي العارمة باستعادة اسمي وأنثاي الضائعة».
غير أن اللافت للانتباه في هذا المحكي السجني هو تأنيث صاحبته لعالم الكتابة بشكل متطرف.. ويتضح ذلك من داخل وخارج العمل ،فيكفي ملاحظة أن صاحبة لوحة الغلاف امرأة. الشخصيات المهدى لهن العمل نساء(مليكة، ربيعة، حياة، وداد…)صاحبة تقديم العمل امرأة(فاطمة الزهراء ازرويل)الأستاذة المشرفة على البحث امرأة(فاطمة المرنيسي/ص62)بل حتى عندما تشغل المعتقلة جهاز التذكر لا تجد سوى النساء:(سعيدة المنبهي نموذجا)..ويكاد الرجل لا يحضر إلا من شرفة الأب الذي يزور ابنته بين الفينة والأخرى.. وغياب الرجل من حياة المعتقلة عاينها بشكل معكوس في بعض محكيات المعتقلين العسكريين خصوصا (تجربة أحمد المرزوقي نموذجا)..ترى هل هي ردة فعل لاواعية من طرف المعتقلة تجاه قتلها الرمزي من جهة الرجال (المختطف ،المعذب ،الجلاد …) ومحاولة رد الاعتبار لأنوثتها على اعتبار أن الإنسان بطبعه يعمل دوما على إحاطة هويته بهالة من العظمة والتقديس ؟أم أن الكاتبة كانت تعمل جاهدة بوعي على تحويل موضوع الرغبة من الرجل إلى قضية العيش بكرامة وحرية بنية إظهار صلابة المعتقلة.. ترى هل أمر إقصاء الرجل من عالم الكتابة والتذكر في المحكيات النسائية السجنية ردة فعل أم هو محاولة لإثبات بطولة من نوع خاص؟ إن هذه الأسئلة تجد مبررها في ردات فعل المعتقلات وهن متوجهات للمحاكمة حيث كان الجلادون يمعنون في تحويلهن لرجال بوضع الأصفاد في أيدهن فكانت النساء لا تفكرن إلا في ما بعد الحكم …وبالمقابل يمكن فهم محو الرجل لأنوثة المرأة بخوفه الأسطوري غير المبرر من الأنثى والتي ترسخت في لاوعيه من خلال عدة رموز تاريخية وأسطورية أقربها عائشة «قنديشة»التي تختطف الرجال تحت جنح الظلام وتفتك بهم في خلوة قاتلة حسب الخرافة الشعبية. وعموما الموقف الذكوري من المرأة اتسم على الدوام بالتناقض، والتأرجح بين الانجذاب والنفور، بين الافتتان والعداء.. وإن طغى عليه تأنيث الشر كما في المرويات الشعبية(حديدان الحرامي والغولة)..أوفي الأساطير الكونية « علبة البندورا» نموذجا دون ذكر خطيئة حواء في قصة الخلق…لنتأمل القرينة النصية التالية ص57:» أحكم أحدهم إغلاق القيد على معصميها النحيفين، نظرت إليه باستغراب وعلقت: إنك تخرق القانون بما تفعل، لم يسبق لي أن رأيت نساء بالأصفاد في المحاكم، أولا تكفي بقية القيود؟ أجاب بتهكم: أنت الآن في عرفنا رجل، ولذلك يصدق عليك ما يصدق عليه، صحيح أننا لا نضع أصفادا على معاصم السجينات، ولكن أنت لا مكان لك بينهن، لا مكان لك بينهن، لا مكان لك في عالم النساء.. كانت تغني مع رفاقها في السيارة بنشوة غريبة، وكانت تضحك من تسابق السيارة مع الريح…»
إن المعتقلة بسبب تعرضها لمحو أنوثتها وجدت نفسها مضطرة لتوظيف السخرية بشقيها «سخرية الموقف والسخرية اللفظية وذلك للتصعيد من مفارقة الخوف منها بدل الخوف عليها. ففي سياق مرافعة المحامي قصد انتزاع البراءة.. تلبس خطابة سخرية الموقف التي ضحكت من الواقع المبكي واستهزأت من سياق المحاكمة برمتها.. فالسخرية عموما تبقى كأداة مقاومة تحمي الساخر والمتواطئ معه من السقوط في هاوية الاستسلام والضعف. لنعد إلى القرينة التالية.ص58:»سيدي أرجوكم سيدي الرئيس أن تتأملوا هذه الذراع النحيفة، هل يخشى عليها أو منها؟ هل تستطيع أن تسقط نظاما؟ ما أصغرها وما أكبر التهمة، لا يوجد بحوزتها، أو على الأصح محجوزاتها، والدلائل ضدها كلها كتب تباع في السوق، وأفكار وأحلام راودتها.»
تبقى الإشارة هنا إلى أن هذا المحكي السجني تكتم على الوجه العاطفي للمرأة وتبرم عن استحضار الرجل في حياتها الخاصة ولو من شرفة التذكر، ربما مبالغة في العفة، ربما خوفا من تعرية الذات والاعتراف بنقط الضعف البشري التي تضفي سحرا آسرا وتشكل حافزا إضافيا لمعرفة ذاك الكائن المجهول المسمى «إنسانا».. ومسألة التكتم وانتقائية الأحداث المروية في السير المغربية تشترك فيها المرأة كما الرجل ..غير أن مفارقة الرجل في هذا المحكي بالذات هي أنه وإن كان قد أخذ صفة السيد على المرأة، فهو ظل عبدا لرجل آخر(المعلم والحاج/الجلاد)..واشترك الجلادون في صفة عبيد الرغبة لحظة تحرشهم بالمعتقلات..

الاتحاد الاشتراكي

محمد رمصيص

المعتقل الإسلامي رشيد لعروسي رسائل الى سجين ونداء من زوجته

 18  سنة في السجون وماذا بعد؟؟؟

المعتقل الإسلامي الأخ  رشيد لغريبي لعروسي   لازال يثوي   في عمق  الأقبية المغربية.. تحت وطأة الضغط  السجني الذي  لم يزل  يتفاقم   في السنوات الأخيرة…  حتى بلغ أوجه

كانت بداية محنته الطويلة عقب أحداث 16 ماي 2003 م م التي عصفت  بأعداد هائلة من الشباب الملتزم  في المعتقلات و ظل قطاع هائل منهم في  غياباتها    مددا   طويلة

  في  تلك  الرحلة  الشاقة  قاسمته اسرته الصغيرة   سائر معاناتها    بل كل نتوءاتها وتفاصيلها

  ليس أهونها  وطأة الإنتظار الطويل

  ذات سجن   ونحن في   الزنزانة 73  في السجن المحلي  بسلا قال ليرشيد  لعروسي

 {تركت  ابني الأكبر   وله  سبعة سنوات  ربما سأخرج  من السجن  وقد  يكون قد جاوز   27سنة من عمره..}}

  وقتذاك  لم تسعفني كل   قواميس اللغة على أن أقترف فعل الكلام

  ما أصعب الكلام….. ظللت صامتا

  يومها  كانت العتمة  في أعنف مراحلها  من التضييق  والعسف

    وقد كانت لمرارات الظلم  تشظياتها  بل  شظاياها القاتلة

  ثم  تواصلت حلقات المحنة    لتجاوز 8 1 سنة    سجنا  قضاها الأخ رشيد  لغريبي لعروسي في السجون   بينما ظلت أسرته  الصغيرة  تواكب   كل  تفاصيل   تلك العتمة   بعزم  وإيمان   ويقين

   في وقت قياسي  إنتهت   محاكمته    صيف 2003 م  بحكم بالسجن 20 سنة …

  في منعطف  مليئ بالانتهاكات  والخروقات وحرقة الأسئلة

تلك الأسئلة التي لازلنا نحملها  على أكتافنا وكواهلنا   ولاتلقى   اجابة …

  في زمن الإجابات المستحيلة….

وضمن  ما سمي يومها بخلية الفرنسي…   ضمت 33    معتقلامعظم  من حوكم فيها  إما صدر في حقهم  عفو ملكي أو   خرجوا بإتمام المدة…

  لم يتبقى منهم الا   نزر يسير من المعتقلين

  محمد النوكاوي 

و رشيد  لغريبي لعروسي

  وعبد السلام الدشراوي….

    بحكم  بالسجن  20  سنة.. 

من قهر والانتظار والوجع   والاضرابات والترحيلات والمشقات….

 من سنوات… تم ترحيل المهتم   الرئيسي في   تلك المجموعة  والتي عرفت باسمه لفرنسا…

  ليسدل الستار على حكايته …..

 بينما  لا يزال الاخ محمد النكاوي والاخ رشيد لغريبي لعروسي   قيد  الاعتقال الى  يوم الناس هذا مع الابعاد عن العائلة  بالتغريب  إذ تم ترحيل معظم الاخوة من سجن طنجة في اتجاه سجون بعيدة   ….

°°°°°°°

 لقد آن للمعنيين  بهذا الملف الذي   طال  أمده أكثر مما ينبغي في ظل   شبه يقين  بالانتهاكات التي  صاحبته والتي تحدث عنها العاهل المغربي من   سنين عديدة في حواره مع أحدى اشهر الصحف الاسبانية …

 آن لمن يمسك بزمام    الملفات  الخاصة  ان يقف وقفة  تأمل في المسارات والمآلات 

اذ لايعاقب المعتقل  بمفرده بل  مع أسرته وأبنائه وكافة المقربين منه..

وقد تهاوت كافة الاتهامات في ظل  منعطفات الزمن الكبرى

   من حرقة  الأسئلة  ينبثق سؤال هائل

ما  الذي يبقى أمثال   رشيد لعروسي والنكاوي  والدشراوي- وغيرهم كثير من  ذوي المحكوميات الطويلة –  في المعتقلات رغم ما راكموا من  أوجاع هائلة طيلة   18 سنة في أسوء الحالات والظروف… -والتي لم تحل بينهم  وبين طلب العلم ومتابعة الدراسة إلى أعلى مستوياتها-

 لقد عرفت الاخ رشيد لغريبي لعروسي  في سنوات السجن  شابا  صاحب همة وخلق ومروءة  إلى جانب ثقافته  العالية و إلمامه بفقه الواقع  الشيء الذي   أهله لمواصلة    الدراسة  كطالب وباحث   لنيل درجة الماجستر..

 دخل العروسي السجن  شابا  يافعا   كان أبا  فصار   في السجن جدا وهو لايزال بين جنباته وجدرانه…

 ان من واجبنا حيال اخواننا المعتقلين من الجيل الذي  قاسمناهم المحنة وقاسمونا المعاناة النصرة والتذكير بقضيتهم وإشهار مظلوميتهم …

 ورفع الغبن والظلم والجور السجوني عنهم…

    ان بميسور العقلاء في المغرب طي هذا الملف نهائيا  وتجاوز مرحلة   موجعة من تاريخه  بل كبرى منعطفاته  في 16  ماي 2003م  .

  أولا بمصالحة حقيقية غير مشروطة بمراجعات او تراجع  لطي الملف  وجبر الضرر ورد  الاعتبار…  لمن اعتقلوا في مربع   الانتهاكات….

ثانيا باطلاق سراح  المعتقلين  -من الجيل الأول -الذي اعتقلوا في تلك الاحداث وقد    دخلوا عامهم 18  في السجون ولم يبقى من الرحلة الا  النزر اليسير جبرا  لخواطر عوائل انهكها الانتظار وأظناها  طول الطريق….

رسائل   دامية

 ليلة العيد  كتبت  بنت  الاخ رشيد  لغريبي لعروسي رسالة موجعة دامية 

  بحروف   ناطقة قالت فيها

{{غدا يوم العيد عمت البهجة و الفرحة كل البيوت و القلوب إلا نحن كما هو حالنا كل عيد .نفرح بهذا اليوم لأنه من شعائر الله لا لأنه عيد بما تحمله الكلمة من معنى أو كما ينتظره كل الناس.
بعد أن أعلن عن يوم العيد كل ما جال في مخيلتي حال الناس و هم بين أحضان آباءهم يقبلونهم و يتجهزون معهم لاستقبال يوم طالما ينتظره الكل بسرور و فرح لكن من يفكر لحالنا نحن..؟….؟
كل ما فكرت فيه حينها كيف هو حال أبي.كيف استقبل هذا العيد…..؟؟؟ كل ما أنا متأكدة منه أن أبي صابر محتسب لكنني متأكدة أيضا أن كل تفكيره معنا خصوصا أننا في هذا العيد
حرمنا حتى من سماع صوته الحنون و هو يزف إلينا تهنئة العيد و يسألنا عن حالنا و محاولته إدخال فرحة العيد إلى قلوبنا .
ما أريد قوله لك يا حبيبي أسأل الله أن يديم سعادتك في العيد كي نسعّد نحنُ بالعيد كل عام وانت مصدر الفرح والسرور لنا سعادتنا لن تكتمل إلا بوجودك ابي حفظك الله لنا يا فخراً على مر السنين وأطال الله عمرك وكل عام وانت بخير عيدك سعيد يافخر الزمن عيدك مبارك ياأغلى البشر كل عام وانت بخير ابي.}
ابنة المعتقل رشيد الغريبي العروسي

 الرسالة الثانية

{وتستمر المعاناة
في يوم12/05/2020 ذهبت لأخضع للعلاج الكيماوي وكما تعودت في كل حصة وبعد عودتي إلى البيت هاتفت أمي فلمحت على وجهها أن ثمت أمر ما لكنها أصرت على كتم الأمر عني و عن إخواني و اختارت أن تتحمل مرارت الخبر لوحدها ورغم إلحاحي عليها إلا أنها كانت تقنعني أن كل شيء على ما يرام.مر اليوم الذي خضعت فيه للعلاج دون أن أتلقى أي مكالمة من أبي الذي اعتدت على مكالمته بعد كل حصة ليطمئن على أحوالي و كيف كان يومي و يسمعني بعض كلمات الحب و الحنان حتى أتنفس الصعداء من مرارة المرض لكن انتظرت ذلك اليوم دون جدوي. في الغد سألت أمي هل من خبر عنه و هل اتصل بهم لكن الجواب كان “لا” ظللت على تلك الحال يوما بعد آخر أترقب هاتفي لأتلقى اتصالا من أبي وأخذ الأمر يشغل تفكيري لأنها ليست من عادته عدم الاتصل بي و لو لبضع ثواني.
صبيحة 14/05/2020 كان إلحاحي شديدا على أمي لتخبرني ما الأمر لأنها بدت لي ليست بخير لتخبرني بعد تنهيدة طويلة أن ذلك الأسبوع مر عليها بشق الأنفس لدرجة أنها وصفت لي الأمر قائلة “كان رأسي يا ابنتي في هذا الأسبوع شبيها برأسي الخروف بعد شويه يكون رأسه يحترق و فمه يضحك”كان هذا الوصف كخنجر طعن قلبي لم اتحمل سماعه. ثم أتمت قائلة ” لقد تم نقل ابيك من سجن عكاشة بالدار البيضاء إلى سجن تولال بمكناس و في هذه الفترة التي كتمت الأمر عنكم كنت أحاول مراسلة العديد من الجهات لإيجاد حل للامر دون أن يعرف احد منكم لكن لا مجيب ولا خبر عن أبيكم إلى حدود الساعة “
بعد سماعي لهذا الخبر الذي هز قلبي عادت بي ذاكرتي إلى المعانات التي عشناه خلال 17 سنة الماضية والتي لازلنا نعيشها إلى حدود اليوم فأنا أتساءل أليس من حقنا أن ننعم و لو بالقليل من العيش الرغيد الذي يتمتع به غيرنا ألسنا اهلا لأن نجتمع مع أبينا و نأخذنا قسطا من الدفء و العطف و الحنان و الاهتمام.هل يريدننا أن نفنى ونرحل من هذه الدنيا واحدا تلو الآخر حتى يكونوا على ما يرام .كل هذه السنين التي مرت و قلبنا يشتعل أملا بأنه لا محالة سيأتي اليوم الذي نرى أبي وهو يغادر أسوار السجن وهو كالأسد المغوار منتصرا مرفوع الرأس لبراءته من كل ما نسب إليه.
كل هذه السنين لم تمر على أفراد عائلتي مرور الكرام فكل فرد منا نال حقه من اليتم و الالام بدأ من أمي التي تحملت عبء المسؤولية لوحدها في تربيتنا فقد كان لها دور الأم في إشباعنا بالحب و الحنان و العطف و الاهتمام ودور الأب في التربية و كل ما هومن مسؤولية الرجل فيما يتعلق بالمستلزمات الخارجية فتحمل مسؤولية الدورين لم يمر عليها هباءا منثورا دون أن يترك آثارا سلبية على نفسيتها و جسدها إلا أنها وإلى حدود الساعة لازلت أكثر فرد فينا يتحلى بالصبر وكلما لجأنا إليها نجدها كالجبل الشامخ الذي لا يتزحزح.
بعدها يأتي دور إخوتي الثلاثة و الذي كان كل واحد منهم ضحية لهذا الظلم،أخ الأكبر و الأكثر فينا تعلقا بأبي وصل به الحال الآن إلى أن أصبح معزولا كليا عن العالم الخارجي بل و حتى عنا نتيجة للصراع النفسي الذي يمر به و يقاومه وحيدا و الذي كان له تأثير على مساره الدراسي و على حياته الشخصية ورغم أنه شاب ناضج في مقتبل عمره إلا أن وقت تحدثه مع أبي في الهاتف تعود إليه روح الطفولة ليصير كالولد الصغير الذي يتلهف شوقا إلى محادثة أبيه و مشاركته أبسط أمور حياته ويومه .
أخي الأصغر مني هو الآخر يعاني من اضطرابات نفسية و الأكثر منها جسدية فهو الآن يعاني من فقر الدم و عند سماع أي خبر عن أبي يعزل نفسه في غرفته و يظل بلا مأكل و لا مشرب بل و أكثر من ذلك يشتد به الحال لدرجة أنه يتقيأ الدم فنضطر إلى الذهاب به إلى المستشفى اطمئنانا على صحته ليخبرنا الطبيب أن كل ذلك نتيجة الأعصاب التي تؤثر على كبده . هو الآن لازال يتابع مساره الدراسي لكن هذه الظروف أثرت عليه كثيرا فأصبح شغله الشاغل هو قضية أبي .


أما أصغرنا سنا وهو الآن طفل ذو 7 سنوات فلا أعرف صراحة كيف أصف حال هذا البريء الذي لم يعرف إلى حدود الآن معنى وجود الأب في البيت و كلما سألناه عن مكان أبي يجيبنا قائلا ” إنه في منزله في مدينة كذا…حسب موقع السجن” و عاما بعد آخر تبدأ معه معاناة تلبية فضوله في الإجابة على أسئلته الفطرية منها معرفة سبب غياب أبي ؟ و لماذا لا نراه إلا مرة في الشهر أو شهرين حسب الظروف ؟لماذا هو في مدينة أخرى؟متى سيعود أبي؟فما ذنب هذا البريء الذي فتح عينيه على الدنيا ليجد نفسه يتيم الأب و محروما من عطفه و دفءه أتذكر في يوم من الأيام كنت أمازحه قائلة ” سيأتي أبي ليقطن معي في الدار البيضاء” فأجابني “لا” وبعد إلحاحي عليه أنه سيكون بقربي في الدار البيضاء بدأ بالصراخ و البكاء و يقول لأمي “أخبريها أنه سيأتي ليكون معنا هنا ببيتنا”، أسعد يوم بالنسبة لهذا الطفل البريء هو اليوم الذي نجهز فيه أنفسنا لزيارة أبي فتكون فرحته حينها أكثر من فرحة الأطفال بهدايا العيد.}

الرسالة الثالثة

{  لا داعي لأن أتحدث عن نفسي فخير دليل على المعاناة التي أمر بها ما أصبت به من مرض السرطان و الذي من أكبر أسبابه ” الأعصاب و الضغط النفسي ” رغم ذلك لا تهمني نفسي أكثر من تحسري و تألمي عندما أرى فرد من أفراد عائلتي يئن و يتألم في صمت.
ففي هذا الشهر الفضيل و في هذه الأيام المباركة تلقينا خبر الزج بوالدنا في عزلة انفرادية بسجن تولال بمكناس بعد أن كان لدينا القليل من الأمل في أن يتم الإفراج عنه بالعفو الملكي الذي صدر مؤخرا بسبب جائحة كورونا و الذي اعتمد على بعض المعايير التي كنا من خلالها نرى أن أبي سيكون ضمن من يشملهم العفو لو أنهم أخذوا حقا بعين الاعتبار المعايير التي ذكروها منها مدة الاعتقال ،حسن السيرة و السلوك و الانضباط طيلة المدة السجنية إلى غير ذلك.
ومما تجدر بي الإشارة إليه أن أبي حصل على العديد من الشواهد داخل المؤسسة السجنية:
– سنة 2013 حصل على إجازة في “القانون العام عربي”
– حاصل على دبلوم ماسترتدبير الشأن العام المحلي سنة 2017بعنوان”الهوية و الجهوية بالمغرب” بميزة مستحسن مع توصية بالطبع و النشر ككتاب
– الآن طالب باحث في سلك الدكتورة بعد اجتيازه للمباراة يوم 16 دجنبر 2019 وتم قبوله فيها
فهذه الدراسات خير دليل على تفتحه الفكري و توسعه المعرفي.
بعد أن حاولت أمي مرارا و تكرارا مراسلة الجهات الوصية من أجل إيجاد حل لملف أبي لم يبقى لدينا سوى هذه الطريقة لإيصال صوتنا فأنا أناشد و أطالب ملك البلاد بتمتيع والدي بعفو ملكي }

ورسالة أخرى

{أما بعد:
أنا ابنة المعتقل الإسلامي رشيد الغريبي العروسي أود من رسالتي هته أن أختصر المعانات التي نمر منها أنا و أفراد عائلتي إثر اعتقال والدنا ظلما وعدوانا ودون موجب حق بدأت قصة آلامنا يوم 2/6/2003 كان سني حينها 5 سنوات وهو السن الذي يكون الطفل فيه بحاجة إلى حنان و رعاية من الأب لكن للأسف حرمت من هذا الدفء رغم سعي والدتي حفظها الله إلى ملئ الفراغ الذي تركه أبي في حياتنا لكن لابد من الإحساس بالنقص خاصة أن علاقتي مع أبي لم تكن مجرد علاقة أب مع ابنته بل وأكثر من ذلك فهو خير صديق ورفيق لي في هذه الحياة ورغم تباعد المسافات بيننا إلا أنه ظل دائما يزرع في قلبي الحب و الأمل فهو القدوة الوحيدة لي في هته الدنيا ونبراسي الذي يضيء طريقي علمني كيف أصمد أمام أمواج البحر الهائجة أعطاني و لم يزل يعطيني بلا حدود،ورغم المحن اجده دائما معي في ضيقي و في فرحي يوافقني في رأي حتى لو كنت على خطأ فهو معلمي ينصحني ويأخذ بيدي إذا تعثرت.
أنا الآن ابنة 22 سنة كل هذه السنين حرمت فيها من وجود أبي بقربي دون أي ذنب فكانت كل لحظة أذهب فيها إلى المدرسة و أرى الأطفال مع آباءهم أو تجتمع العائلة فأرى كل فرد منها ينادي أبي أبي و يرتمي في حضنه أتألم فيها ويصرخ في داخلي حنين الشوق و اللهفة إلى أبي وأحس أنني فاقدت للجدار الذي أستند إليه وأتمنى و لو لحظة أن أتمتع بالسعادة التي تغمرهم.
أبي الذي تركني طفلة سيفرج عنه لا محالة في يوم من الأيام ليجدني أما لطفلة حرمت هي الأخرى من دفء جدها،لا شك أن كل بنت تحلم بوجود الأب بجانبها ليلة زفافها و يوم وضعها لمولودها لكن هذا ما فقدته بل و أكثر من ذلك شاءت الأقدار أن ابتلاني الله بمرض السرطان « hodgkin » و الذي كان كالصاعقة على قلبي فما بال أبي الذي لم يكن له حول و لا قوة يوم أدرك الخبرحينها كان أبي بسجن تولال بمكناس وكان قد مر على رؤيتي له حينها عام بالتمام و الكمال فلم أتمكن من زيارته مذ كنت حاملا في شهري الثالث نظرا لبعد المسافة فأنا أقطن في الدار البيضاء و كان من العسير علي التنقل لرؤيته بالإضافة إلى أن ظروف الزيارة كانت يرثى لها فلم يردني أن أذهب و أتمحن في تلك الأوضاع أنجبت طفلتي و كنت في أـشد اللهفة لأن أرى مولودتي بين يدي جدها لكن الأقدار شاءت دون ذلك ضللت على تلك الحال أتألم و يزداد شوقي يوما بعد يوم خاصة أنني أرى صغيرتي تكبر و أبي لم يتمكن بعد من رؤيتها و هي رضيعة بعدها جاء اليوم الموعود و الذي أنساني ما مضى يوم أجريت العديد من التحاليل لأجد نفسي من ضحايا مرض خبيث ينهش في جسمي مرض السرطان طغيت حينها على هته الدنيا الظالمة التي اغتصبتني في ريعان شبابي لكن الله ألهمني بعدها الصبر و الرضا بقضاء الله أكثر شيء فاتقدته في ذلك اليوم هو وجود أبي لأسند رأسي على كتفه و أجهش بالبكاء حتى يشفى غليلي لكن رغم بعد المسافة و رغم ما يمر به هو إلا أنه ظل ذلك يساندني و يصبرني و يبين لي الأمور وكأنها لا شيء و أن كل شيء سيكون على ما يرام كنت أنتظر بفارغ الصبر الساعة التي يرن فيها هاتفي لأجد المخاطب هو أبي فيسمعني بضع كلمات أرتاح بها من الألم الذي أعيشه.
بعد أشهر من بدأ الإجراءات اللازمة لتتبع علاجي تم نقل أبي سجن عكاشة بالدار البيضاء و ذلك يوم 19/11/2019 أخيرا رأتي قرة عيني بعد فراق طويل مر علي بشق الأنفس لكن لم يرق جوفي برؤيتهي فقد زرته لبضع أسابيع ثم لم أتمكن بعدا من الذهاب إليه نظرا لأن حصص علاجي كانت تتزامن مع موعد الزيارة فكنت أتحسر لهذا الأمر.
ظللت على تلك الحال لمدة شهرين أخضع للعلاج وأحاول اغتنام و لو فرصة لأذهب لرؤية أبي لكن شاءت الأقدار أن فرق بيننا شيء لم يكن على بال ألا و هو ما استجد في العالم اليوم من فيروس كورونا كوفيد19 و الذي دهم كل البقاع و أصيب به أعداد كثيرة من الناس ومات بسببه خلق كثيرون و لازال يتوسع في البلدان أكثر وقد أصابنا منه هلع شديد و حصل لنا به فزع عريض و خوفنا على آباءنا الآن أكثر من خوفنا على أنفسنا فنحن كيفما كان الحال نحاول الإلتزام بالإجراءات اللازمة لحماية أنفسنا كذلك المعتقلين أليس من حق كل فرد منهم أن يكون بين أهله و في بيته ليكون أكثر أمانا خصوصا أن من التدابير الوقائية لهذا المرض هو حظر التجمع فكيف حال هؤلاء المعتقلين أليسوا في قائمة المواطنين الذين تسعى الدولة جاهدة إلى حمايتهم ،أليس من حقنا كأبناء الخوف على آباءنا فأنا أطالب المسؤولين و الدولة باللإفراج الفوري عن أبي أولا لأن اعتقاله و الحكم عليه 20 سنة حكما نافذا كان ظلما و عدوانا،وثانيا لأن أوضاع الدولة الآن لا تحمد عقباها فيكفي أنني يتمت 17 سنة لا أريد أكثر من ذلك.}

  رسالة من زوجته في يوم المرأة العالمي{بمناسبة اليوم العالمي للمرأة وددت ان اخط هذه العبارات من زوجة يئن قلبها فهل من مجيب.؟؟؟انا إمراة مغربية زوجة المعتقل الاسلامي رشيد الغريبي العروسي المعتقل منذ 2003 قضى منها 17سنةو9اشهر و7ايام انا تلك المراة التي رملت وزوجها على قيد الحياة بدون اي ذنب اقترفته.عانيت خلال هذه الفترة الأمرين تنقلت بين عدة سجون مغربية .تحملت مسؤولية اربعة ابناء يتموواباهم على قيد الحياة‘فوجعت في ابنتي حين اصيبت بمرض السرطان سنةاواسط 2019ممازادني الما فوق الم تمنت حينهالو كان زوجي بجاني ليحمل معاعي عبئ ما اعانيه ولو بفضفضة يثلج بها صدري ويحمل همي. ومازاد الطين بلة انني لم ارى زوجي مايناهز سنة وبضعة ايام بسبب الزيارة الموقوفة جراء الجائحة. وجهت عدة رسائل لعدة جهات رسمية وجمعيات حقوقية وحكومية لعلي اجد اذنا صاغية. عن اي مراة يتحدثون في مثل هذ اليوم الست امرأة لها الحق في العيش الهيئ داخل دفئ اسرتها الست مواطنة مغربية. ليا الحق في عيش امن في بلدي.اود جوابا شافيا لسؤالي.}

°°°°°
 الرسائل  نشرت كما  هي  بدون تدخل في السياق  او التصرف

موقع شبكة وا إسلاماه